شبّه المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) جيمس كومي أسلوب قيادة الرئيس دونالد ترامب بذلك الذي يتبعه قادة عصابات المافيا، حيث يتوقع الزعيم الولاء المطلق من اتباعه، بكونه المركز الذي يتمحور حوله الجميع. كل شيء في عالم دونالد ترامب، وفقا لكومي، مقلوب رأسا على عقب. الوقائع غير ثابتة، والحقيقة مشكوك بأمرها، والكذب يتم تطبيعه، والسلوك غير الأخلاقي يتم تجاهله، أو تبريره أو مكافأته. كُتب الكثير عن أسلوب ترامب القيادي، وكيف يسعى إلى شخصنة كل شيء، والمبالغة بقدراته القيادية على انتزاع التنازلات من خصومه، وحنكته المفترضة في المناورة وإيصال المفاوضات إلى حافة الانهيار قبل إنقاذها في اللحظة الأخيرة. وهو يعتمد على الترغيب والترهيب، وعلى التهديد بالتصرف بطرق غير تقليدية أو حتى شبه انتحارية، كما رأينا في تهديده “بتدمير” كوريا الشمالية.
الأسلوب القيادي لترامب
ويرى منتقدو ترامب أن أسلوبه القيادي يتسم بالتهور والتسرع والمبالغة والعفوية والغوغائية. وأي مراجعة لتصريحاته وتغريداته تبين بوضوح أنه يقول ما يخطر على باله، ويعبر عن آرائه بتسرع وقبل دعم تصريحاته بأي أدلة. وتبين التجارب أن ترامب، على الرغم من الصورة النمطية التي يريد أن يخلقها في أذهان الناس وخاصة خصومه، بأنه لا يتزعزع ولا يتراجع، فهو يتصرف أحيانا عكس ذلك، ويتراجع إذا وجد أن الإصرار على موقفه سيؤدي إلى هزيمة مؤكدة، وهو يفعل ذلك دون الاعتراف بالتراجع، حيث يحاول صياغة ما يقوم به بطريقة لا تمت إلى الواقع بصلة.
يفتقر ترامب إلى الخبرة السياسية، وهو عندما وصل إلى البيت الأبيض لم يكن ملما بكيفية صنع القرارات، وصياغة القوانين، وطبيعة العلاقات المعقدة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، كما أن معرفته بالشؤون الخارجية والنزاعات العالمية تتراوح بين المحدودة والمعدومة. وساهمت نرجسيته النافرة وعدم اطلاعه على الالتزامات التاريخية للولايات المتحدة، ونظرته المشككة بجدوى حلف الناتو، وميله للتعامل مع كل قضية خارجية وكأنها مسالة تعاقدية ومالية، واعجابه الفطري بالزعماء الأقوياء والمتسلطين، ساهمت في تهديد علاقات الولايات المتحدة الدولية. بعض مؤيدي ترامب يشبهونه بالرئيس رونالد ريغان، وبالتحديد أسلوبه القيادي، ويرون فيهما رئيسين قويين جاءا من خارج الطبقة السياسية. ولكن هذا التشبيه مجحف جدا بحق ريغان، الذي وصل إلى البيت الابيض ولديه رؤية واضحة لمستقبل أمريكا، ودورها في العالم. داخليا، سعى ريغان إلى تقليص دور الحكومة الفيدرالية في حياة المواطن، وعمل على تخفيض الضرائب. خارجيا، سعى ريغان إلى دحر الشيوعية ونشر قيم الديمقراطية في العالم. كما أحاط ريغان نفسه بمستشارين ومساعدين لهم خبرة سياسية واسعة مثل برينت سكوكروفت، وجورج بوش الأبن والجنرال كولن باول وجيمس بيكر. ويفتقر ترامب إلى رؤية واضحة لمستقبل أمريكا ودورها في العالم، تتخطى مواقفه القومية الضيقة، وميله للتعامل مع العالم وكأن أمريكا جزيرة معزولة لا تحتاج إلى حلفاء أقوياء. الرئيس ريغان كان يعرف ما تريده قاعدته الانتخابية، ولكنه لم يكن أسيرها، كما يبدو ترامب، ولم يتردد ريغان في اتخاذ قرارات لم تتحمس لها قاعدته، إذا اعتقد أنها تخدم مصلحة البلاد، وهو أمر لم يفعله ترامب حتى الآن.
خلال حملته الانتخابية نجح ترامب في إلصاق نعوت مخزية وبشعة بخصومه وكان يكررها دائما في مهرجاناته وتغريداته، ما جعلها مرتبطة بخصومه الذين أخفقوا في التخلص منها. واستخدم ترامب الأسلوب ذاته في تعامله على سبيل المثال مع زعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون، الذي ألقى عليه نعت “الرجل الصاروخي”. ويفتقر ترامب إلى أهم الميزات التي تنتج القائد الفعال: الانضباط، وبرود الأعصاب، والصبر. وكما يقول الفيلسوف الإيطالي نيكولو ماكيافيلي فإن أفضل طريقة لقياس ذكاء الحاكم هي معرفة طبيعة المستشارين الذين يحيط نفسه بهم، بعد أن يعلمهم مسبقا أنه يتوقع منهم المشورة الصادقة، وليس التزلف. وهذا أبرز ما افتقر إليه ترامب المرشح، وما يفتقر إليه ترامب الرئيس الآن.
ما الذي حدث لصفقة القرن؟
منذ وصوله إلى البيت الأبيض والرئيس ترامب يتبجح في مناسبات عديدة أنه سينجح حيث أخفق أسلافه الجمهوريون والديمقراطيون في تحقيق “صفقة القرن”، أي تحقيق السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين. ولكن لوحظ أن ترامب في سنته الثانية قد توقف عن مبالغاته المعهودة حول صفقة القرن، بعد أن أدرك أن الفلسطينيين لن يقبلوا بالعودة إلى طاولة المفاوضات لمناقشة مسودة مبادرة أمريكية تحرمهم من عاصمة في القدس، وتعطيهم “دولة” فوق نصف مساحة الضفة الغربية. ويوافق بعض المحللين، على أن “عملية السلام” كما عرفناها تقليديا لم تعد مجدية.
وبعد الإعلان عن لقاء قمة بين الرئيس ترامب وزعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون، تراجع اهتمام ترامب بصفقة القرن، وتركز في المقابل على إمكانية تحقيقه لصفقة تاريخية أكبر في الشرق الأقصى من تلك التي حاول دون نجاح – حتى الآن- تحقيقها في الشرق الأوسط. وجاء في تسريبات صحفية منسوبة لمساعدي ترامب أنه يعتقد بصدق أنه وحده قادر على تخطي العقبات أمام “صفقة” تاريخية بين الكوريتين. هذا الموقف الشخصاني له أبعاد سلبية للغاية لأنه يلغي دور المؤسسات الأمريكية، ويرسم المفاوضات التي ستجري في نهاية آيار – مايو أو مطلع حزيران- يونيو وكأنها “مبارزة” بين حنكة وذكاء زعيمين يحتكران القرار. ويعتقد ترامب أنه قادر على وضع كيم يونغ أون في ظله، خاصة وأنه مقتنع أن تهديداته المباشرة “للرجل الصاروخي” قد نجحت في ترهيبه وإرغامه على التفاوض على نزع الأسلحة النووية من شبه الجزيرة الكورية. ومن الصعب اقناع ترامب الآن أن أسلوبه المتشدد وغير التقليدي قد نجح – حتى الآن – في تحقيق ما أخفق به كل أسلافه، أي خلق الفرصة لتسوية تاريخية تشمل الكوريتين وتغير أيضا من موازين القوى والعلاقات بين أمريكا والصين واليابان وتمنع حدوث مواجهة تمس بمستقبل هذه الدول التي تمثل ثلاثة أكبر اقتصاديات في العالم. طبعا، هناك مستشارون لترامب يتخوفون من أن تؤدي القمة إلى اخفاق تاريخي، لا أحد يعرف في هذا الوقت المبكر ما هي مضاعفاته. ترامب يعتقد أنه يستطيع الخروج من اجتماع قمة من هذا النوع دون أي مضاعفات سلبية، وهو عمليا قال ذلك خلال مؤتمر صحفي عقده مع رئيس وزراء اليابان شينزو آبي الذي زاره قبل أيام في منتجع مارا لاغو في ولاية فلوريدا، أنه “إذا لم يكن الاجتماع مثمرا، فأنني سأغادره”. قمة دونالد ترامب – كيم يونغ أون سوف تكون تاريخية بغض النظر عن نتائجها، وسوف تكون امتحانا لقيادة ترامب.
مصير الاتفاق النووي مع إيران
سوف يكون مصير الاتفاق النووي مع إيران في طليعة القضايا التي سيناقشها الرئيس ترامب مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، ومستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل، بصفتهما من موقعي الاتفاق الدولي مع إيران، خلال زيارتيهما المنفصلتين إلى واشنطن في الأسبوعين المقبلين. وشهدت الأسابيع الماضية مباحثات مكثفة بين الدول الأوروبية المعنية بالاتفاق – وتضم أيضا بريطانيا- “لمعالجة أبرز مطالبنا وتحديدا موقفنا من البرنامج الصاروخي الإيراني، وما الذي سيحدث بعد انتهاء فترة سريان مفعول الاتفاق وغيرها”، وفقا لما قاله مسؤول أمريكي في إيجاز مع الصحافيين. وهذه المباحثات تأتي قبل موعد الثاني عشر من آيار – مايو وهو الموعد الذي سيتخذ فيه الرئيس ترامب قراره حول ما إذا كان سيبقى طرفا في الاتفاق أم سيقرر الانسحاب، ما يعني العودة التلقائية للعقوبات ضد إيران بسبب برنامجها النووي والتي تم تعليقها بعد توقيع الاتفاق في 2015.
وتعززت فرص انسحاب واشنطن من الاتفاق بعد أن رشح ترامب، مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) مايك بومبيو الذي عارض الاتفاق في السابق، وزيرا للخارجية، وتعيين جون بولتون ذو المواقف المتشددة للغاية ضد إيران وكوريا الشمالية مستشارا للأمن القومي. ويُعتقد أن موافقة بريطانيا وفرنسا على مشاركة الولايات المتحدة في توجيه ضربة عسكرية عقابية لنظام الأسد بعد استخدامه للسلاح الكيماوي ضد شعبه، تهدف من جملة ما تهدف إليه، تعزيز موقف الدولتين لدى ترامب، ربما للتأثير على موقفه من الاتفاق النووي مع إيران. ولكن حتى الآن تبين مختلف المؤشرات من المسؤولين الأمريكيين أن الرئيس ترامب لا يزال مصرا على الانسحاب من الاتفاق الذي يصفه بأنه أسوأ اتفاق في تاريخ البلاد.
ويأمل بعض المعلقين من أن يكون قرار الرئيس ترامب الموافقة على ضربة عسكرية محدودة لسوريا، واستمراره على موقفه الداعي لسحب القوات الأمريكية من شمال- شرق سوريا، مؤشرا على أن ترامب قد يقبل بحل وسط في المواجهة مع إيران تُبقي واشنطن طرفا في الاتفاق. ويعول هؤلاء على أكثر من سبب من بينها أن ترامب يدرك أن قاعدته الانتخابية غير متحمسة لتورط أمريكي أعمق في مشاكل الشرق الأوسط. وكان واضحا أن قاعدة ترامب لم تكن متحمسة كثيرا لضرب سوريا. وربما السبب الرئيسي لآمال البعض بتفادي أزمة أسوأ مع إيران هو ميل ترامب التقليدي، والذي تعزز أكثر بعد انتخابه، بترك منطقة الشرق الأوسط ومشاكلها ورائه. وهي مسألة أشار إليها ترامب في الخطاب الذي أعلن فيه ضرب سوريا، حين قال إن الشرق الأوسط هو منطقة “مضطربة” وأن “مصيرها هو في أيدي شعوبها”. وهناك أيضا إشارات ترامب المتكررة إلى أن الولايات المتحدة قد أنفقت في العقود القليلة الماضية 7 ترليونات من الدولارات – وهو تقويم مبالغ به، ولا أحد يعلم كيف توصل اليه ترامب- ومع ذلك فإن المنطقة اليوم هي في وضع أسوأ مما كانت عليه قبل التدخل الأمريكي. وهذه مواقف تبين بوضوح أن ترامب لا يريد التورط عسكريا في نزاعات جديدة في الشرق الأوسط، بما في ذلك عدم حماسه لمواجهة النفوذ التخريبي لإيران في سوريا والعراق واليمن. اللافت أن تردد ترامب بالتورط في مشاكل الشرق الأوسط، هو من بين مواقفه القليلة الثابتة تجاه منطقة الشرق الأوسط. وأبرز دليل على ذلك، هو أنه وافق بعد تردد، على توصية وزارة الدفاع على إبقاء القوات الأمريكية في شمال – شرق سوريا لبضعة أشهر، يعتقد أنها لن تتخطى ستة أشهر.
وكان مسؤولون أمريكيون قد قالوا إن ترامب يريد أن تتحمل الدول العربية وفي طليعتها السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر وقطر المسؤوليات التي تتحملها القوات الأمريكية في سوريا، بما في ذلك تمويل عمليات إعادة الاستقرار إلى المنطقة. ولكن الحديث عن قوة عسكرية عربية مشتركة تنتشر في تلك المنطقة السورية، هو في الواقع تمنيات، لأنه ليس من الصعب تصور تشكيل قوة عسكرية عربية ترابط في منطقة تنسحب منها القوات الأمريكية. في أحسن الحالات يمكن لحلفاء واشنطن العرب وخاصة السعودية والإمارات نشر قوات محدودة في سوريا والمشاركة في تحمل الأعباء المالية، ولكن ليس بالشكل الطموح الذي يريده ترامب، ولكن حتما تحت مظلة عسكرية أمريكية وليس دونها. الإشارة إلى قطر كطرف محتمل في هذه القوة العربية، يبين أن واشنطن لا تريد أن تقتنع أن النزاع بين قطر من جهة والسعودية والإمارات ومصر من جهة اخرى غير مرشح للحل في المستقبل المنظور. كما أن الحرب في اليمن، وهي أيضا غير مرشحة لنهاية قريبة، تضع حدودا لما يمكن أن تفعله السعودية والإمارات في سوريا. مواقف ترامب هذه تجاه الشرق الأوسط ونزاعاته، تعني عمليا أن إيران – حتى ولو انسحبت واشنطن من الاتفاق الكيماوي – سوف تكون هي المنتصر الأكبر في سوريا، وأيضا في المنطقة ككل، إذا سحب ترامب القوات الأمريكية من سوريا كما هو متوقع، لأن ذلك سيبعث برسالة واضحة للمنطقة تقول عمليا إنه إذا لم تتحدى أمريكا النفوذ الإيراني السلبي في سوريا، فأين ستتحداه في المنطقة؟.
وإذا لم تكن هذه المؤشرات سلبية بما فيه الكفاية، يمكن إضافة تصرف “قيادي” آخر لترامب في المنطقة سوف يكون له تأثير سلبي على استقرارها، وهو عملية نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، تنفيذا للوعد الذي قطعه ترامب قبل أشهر. نقل السفارة إلى القدس في أعقاب أعمال العنف على الحدود بين غزة وإسرائيل ومقتل عشرات الفلسطينيين وجرح المئات منهم، سوف يكون مثل صب الزيت على النار، ويمكن أن يكون مؤشرا بصيف حار.