في السابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط ادعى الرئيس ترامب أن عدد المصابين بأعراض فيروس كورونا COVID-19 لا يتعدى الخمسة عشرة، مضيفاً “خلال يومين سوف ينحسر ويقترب من الصفر، وهذا يبين أننا قمنا بعمل جيد جدا”. بعد أقل من شهر، وتحديدا في السادس والعشرين من مارس/آذار بلغ عدد ضحايا هذا الفيروس الجديد 1222 شخص، بينما وصل عدد المصابين بالوباء 81321 مريضاً، ما وضع الولايات المتحدة في المرتبة الأولى لجهة عدد الذين يعانون من الاصابة بالفيروس.
بين هذين التاريخين أكتشف العديد من الأميركيين أن الدولة الأقوى والأغنى في العالم، الدولة الرائدة في مجال الاختراعات العلمية والطبية، لم تكن مستعدة على مختلف الأصعدة للتصدي لوباء صامت وغير مرئي، على الرغم من أن أجهزة الاستخبارات المختلفة اطلعت الرئيس ترامب وكبار مساعديه على طبيعة الوباء وكيفية انتشاره من الصين، وكيف غطت عليه السلطات الصينية لأكثر من ثلاثة أسابيع لأسباب سياسية.
الاخصائيون في مكافحة الأوبئة، وغيرهم من المراجع الطبية والصحية، أدركوا منذ البداية خطورة هذا الوباء الجديد، بل إن بعض الخبراء تنبأوا بمجيئه. ولكن أخطر ما حدث خلال هذا الشهر المحوري، وساهم كثيراً في المشهد المأساوي الراهن، حيث حصد فيروس كورونا أكثر من مئة ضحية أميركية في اليوم، هو الاخفاق المدوّي للرئيس ترامب في معالجة أول تحدي حقيقي يواجهه منذ وصوله الى البيت الابيض. وقد بدا هذا الإخفاق على المستويين الداخلي والخارجي.
داخلياً، معروف عن الرئيس ترامب أنه لا يعتذر عن أخطائه ولا يعترف بها أصلا. ولا يوجد سياسي أميركي معاصر يمكن أن يضاهي ترامب في أكاذيبه أو تضليله، وفي انانيته ونرجسيته وضيق أفقه ومزاجه الانتقامي، وفي رفضه تحمل المسؤولية وتوجيه اللوم لمن سبقوه أو للعاملين معه، وفي عدم اهتمامه بمعاناة غيره وعجزه عن التواصل الانساني والعاطفي مع الاخرين، وفي قدرته على تزوير الواقع إذا لم يستطع نكرانه. كل هذه الصفات بدت نافرة في سلوك الرئيس ترامب خلال الشهر الماضي.
بدأ ترامب باستخدام الايجاز اليومي في البيت الابيض حول فيروس كورونا ليحقق من ورائه ما كان يحققه خلال مهرجاناته الانتخابية. وكما يفعل في خطبه حين يقفز من موضوع الى آخر غير عابيء بأي تسلسل منطقي أو عقلاني، يردد ترامب خطبه المفككة والمبهمة من وراء منبر البيت الأبيض لتحويل النكسات إلى انتصارات وهمية، ولتصفية حساباته مع خصومه، ولتهنئة نفسه على ذكائه الخارق وانجازاته الكبيرة.
وخلال الايجازات اليومية في البيت الابيض وخلال لقاءاته مع المعنيين بمكافحة الأوبئة كان ترامب يبالغ ويحور ويتلاعب بالحقائق، ويخترع حقائق بديلة ويعطي تأكيدات لا اساس لها. سئل مرة ما هي العلامة التي يعطيها لنفسه في مواجهة الوباء، أجاب دون تردد “عشرة على عشرة”. وحين سُئل عما إذا كان يتحمل مسؤولية انتشار الوباء، أجاب “لا اتحمل المسؤولية على الاطلاق”، وخلال هذه المواجهات مع الاعلاميين يعود ترامب إلى لوم إدارة الرئيس السابق باراك أوباما لأنها أورثته حسب ادعاءاته بنية تحتية صحية عقيمة. ولا يزال ترامب يرفض تحمل مسؤولية تفكيك جهاز صحي مخصص لرصد ومكافحة الأوبئة كان الرئيس السابق أوباما قد ألحقه بمجلس الأمن القومي في اعقاب انتشار وباء ايبولا، الذي ساهم اوباما في احتوائه في غرب افريقيا حين نشر أكثر من 3 ألاف عسكري مع مستشفياتهم الميدانية للقضاء على الوباء.
قبل أيام شنّ ترامب حملة ضد الصحفيين، بمن فيهم الحاضرين أمامه، واتهمهم بالتآمر لإسقاطه في الانتخابات، وطبعا كالعادة دون ازعاج نفسه بذكر دليل واحد. بعدها انتقل الى مهاجمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي برأيه يستغل الولايات المتحدة ويسيء معاملتها. ولم ينس أن يضيف إلى هذه الطبخة الغريبة تهنئة نفسه على مواصلة بناء الجدار “الجميل” على الحدود الاميركية-المكسيكية في زمن الطاعون الجديد، حيث يعتقد ترامب أن مثل هذه الجدران لا تمنع فقط المهاجرين واللاجئين والمتسللين، بل تمنع أيضا الأوبئة. يوم الجمعة، سئل ترامب ما إذا كان قد فوجئ أن الولايات المتحدة قد أصبحت الدولة الأولى في العالم بعدد المصابين بالوباء، أجاب “كلا، هذا ثناء على الاختبارات التي أجريناها”. هكذا يحوّر ترامب احصائيات محرجة إلى انتصارات وهمية.
منذ بداية الازمة، والرئيس ترامب يحاول التقليل من أهمية فيروس كورونا والادعاء بأنه تحت السيطرة. هذا المزيج من النكران والتضليل أدى إلى الاخفاق في تعبئة القدرات والموارد الفيدرالية لمواجهة الخطر. ترامب كان يكرر انه لا يريد أن يرى ارتفاعا ملحوظا في عدد المصابين بأعراض الوباء، لأن ذلك سيؤثر سلبا على الأسواق المالية في نيويورك. دائماً ما يربط ترامب فرض نجاحه في الانتخابات المقبلة بتحسن أداء المؤشرات الاقتصادية في وال ستريت.
وفي الأيام القليلة الماضية بدأ ترامب بالحديث عن ضرورة “اعادة فتح البلاد” للأنشطة الاقتصادية والتجارية، ووضع موعداً اعتباطيا، هو عيد الفصح في منتصف أبريل/نيسان، وذلك في رفض واضح لتوصيات الفريق الصحي الذي شكله لمساعدته على التصدي للوباء. وبينما يتحدث ترامب عن استئناف الحياة الاقتصادية “قريبا” تستمر فيه الولايات بمطالبة المواطنين بالبقاء في منازلهم وتفادي الاختلاط الاجتماعي، واغلاق جميع الانشطة الاقتصادية “غير الحيوية”، وهذا ما فعلته كبريات الولايات مثل كاليفورنيا ونيويورك واإلينوي وواشنطن وميتشجان وويسكونسون وغيرها. ومع استمرار انتشار الوباء في جميع الولايات، واستمرار الارتفاع في معدلات الوفيات، سوف يصبح من الصعب جدا على ترامب أن يعيد “فتح” الولايات المتحدة، لأن حكام الولايات سيعارضون قراره، وهو لن يستطيع قانوناً ارغامهم على الامتثال لطلباته.
يمكن تلخيص جميع قرارات ترامب وتصرفاته في الشهر الماضي بأنها تنطلق من اعتبارات سياسية-انتخابية بالدرجة الأولى. ولذلك لم يكن مستغربا أن يقول في بداية الأزمة أن الديموقراطيين يستخدمون الفيروس الجديد “كخدعة” انتخابية. في بداية الأزمة كان هناك تقصير فيدرالي في الاستجابة السريعة للوباء، حتى بعد أن بدا واضحا أن الصين تواجه خطرا كبيراً سوف يتخطى حدودها ويغزو العالم. وأهم اخفاقات الولايات المتحدة في البداية كانت في الفشل في توفير المعدات الضرورية لإجراء الاختبارات لمعرفة حقيقة وكيفية انتشار الوباء. إضافة إلى عدم توفر كميات كافية من المعدات الضرورية لمكافحة الوباء، مثل الاقنعة والقفازات واجهزة التنفس الاصطناعي والنقص الكبير في الاسرّة في المستشفيات. ولكن هذا النقص تحول إلى اخفاق كبير بسبب غياب القيادة الفيدرالية التي يفترض بالرئيس أن يوفرها. يتمتع الرئيس الأميركي بصلاحيات واسعة خلال الأزمات الكبيرة (مثل الحروب)، تشمل مطالبة الشركات الكبيرة بإنتاج أي مواد أو معدات ضرورية للتعامل مع الأزمة. ولكن ترامب لا يزال مترددا في استخدام هذه الصلاحيات. فعلى الرغم من تفعيله لقانون الإنتاج الدفاعي (Defense Production Act)، الذي يعطي الحكومة الفيدرالية في وقت الأزمات دوراً أكبر في توجيه الصناعات المختلفة لمواجهة الأزمة، إلا أنه من غير الواضح مدى استخدام ترامب لهذا القانون في مواجهة أزمة تفشي فيروس كورونا.
على المستوى الخارجي، يظهر فشل إدارة ترامب للأزمة جلياً. خلال السنوات الثلاثة الماضية، انتهك ترامب الكثير من الأعراف والتقاليد التي كان يلتزم بها كل رئيس أميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي احترام التحالفات والمنظمات الدولية التي خلقتها الولايات المتحدة بعد انتصارها في الحرب لخلق ما عرف لاحقاً بالنظام العالمي الليبرالي، أي حلف الناتو وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية. والاضرار الكبيرة التي ألحقها ترامب بحلف الناتو تحت شعار “أميركا أولا” تظهر مضاعفاتها الآن بشكل سافر. علاقات ترامب الفاترة أو المتوترة مع الحلفاء القدامى للولايات المتحدة، والتي شملت فرض عقوبات أو اجراءات حماية تجارية ضدها من كندا إلى ألمانيا وفرنسا، انتهاء باليابان وكوريا الجنوبية، تشكل عقبة أمام أي تنسيق أو تعاون دولي ضد الوباء. سياسات ترامب ضيقة الأفق هذه هي من بين الأسباب الرئيسية المسؤولة عن اخفاق الدول ذات القدرات العلمية والطبية عن تعبئة مواردها وتنسيق سياساتها للتصدي الفعال للفيروس الجديد.
أي رئيس اميركي أخر كان يمكن أن يستخدم مجلس الأمن الدولي ومنظمة الصحة العالمية وغيرها من المنظمات الدولية لقيادة جهود دولية مركزة ضد فيروس كورونا. هذا دور كان العالم يعتقد أن الولايات المتحدة وحدها قادرة على القيام به. أداء الاتحاد الاوروبي خلال الأزمة اتسم بالضعف والانانية والخوف. وعادت هذه الدول فجأة إلى قومياتها الضيقة، كما اكتشفت من جديد ضرورة صيانة حدودها وسيادتها، بما في ذلك اغلاق هذه الحدود، والامتناع عن مساعدة دولة عضو منكوبة مثل ايطاليا.
في السابق كانت طائرات الاغاثة الاميركية هي الأولى التي تصل الى أماكن الكوارث الطبيعية أو حتى خلال النزاعات العسكرية. غياب القيادة الاميركية في العالم، فتح المجال أمام الصين لتلعب دورا دوليا “انسانيا” يترجم الآن بإرسال المعدات والفرق الطبية إلى الدول المنكوبة كما حدث مع ايطاليا. الأوبئة مثل التغيير المناخي، لا تعترف بالحدود الدولية أو متطلبات السيادة الوطنية. هذه هي المرة الأولى، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التي يواجه فيها العالم اليوم وباء يمكن أن تكون تداعياته وأثاره كارثية بالفعل، ولا يقوم فيها رئيس أميركي باتخاذ المبادرة للقيام بما يمكن للولايات المتحدة وحدها أن تحققه.