عشية الذكرى الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا تبدو معظم جبهات الحرب بين البلدين، خاصة حول مدن مثل فولدار وباخموت في شرق البلاد، وكأنها استقرت إلى حرب استنزاف عنيفة، وحرب خنادق ثابتة تستهلك آلاف الجنود، خاصة من المجندين الروس الذين تستخدمهم القيادة الروسية كعلف للمدافع. القتال الشرس حول هذه المدن، التي تبدو بشوارعها التي يغطيها ركام الأبنية المدمرة وكأنها تعرضت لزلزال كبير، يؤكد استمرار المأزق الروسي العسكري الذي اكتشفه العالم في الأيام التي تلت الغزو الذي بدأ في الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022، أي عجز القوات الروسية عن تنظيم هجمات عسكرية منظمة ومنسقة بدقة ومستدامة.
كما يوضح القتال، الذي لم يؤد إلى تحركات عسكرية أو تقدم كبير على الأرض لأي من الطرفين خلال الأشهر الماضية، استمرار صلابة المقاومة الأوكرانية في وجه آلاف المجندين الروس، الذي يواصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زجهم في جحيم القتال دون تدريب كاف ودون عتاد جيد، فقط لإنهاك القوات الاوكرانية.
يقول الخبراء العسكريون إن ازدياد وتيرة الهجمات الروسية هو بداية الهجوم الروسي المضاد المتوقع مع نهاية فصل الشتاء وبداية فصل الربيع. كما أن ازدياد وتيرة تدريب القوات الأوكرانية على الأنظمة العسكرية الجديدة، التي حصلت عليها أو التي ستحصل عليها قريبًا، مثل دبابات ليوبارد 2 ألمانية الصنع وبطاريات الصواريخ المضادة للصواريخ من طراز باتريوت وغيرها، هي أيضا مقدمة للهجوم الأوكراني المصمم لدحر الهجوم الروسي المتوقع، ولبدء عملية تحرير الأراضي الأوكرانية المحتلة في شرق وجنوب البلاد.
الاحصائيات التي تحيط بهذه التطورات مذهلة. مسؤولون في حلف الناتو كشفوا أن القوات الأوكرانية كانت خلال الأشهر الماضية تقصف القوات الروسية بحوالي 7 آلاف قذيفة مدفعية في اليوم، مقابل ما بين 40 و50 ألف قذيفة روسية في اليوم. معدل القذائف اليومية خلال حرب أفغانستان، وفقًا للمسؤولين في حلف الناتو كان لا يتعدى 300 قذيفة مدفعية. هذا الهدر العسكري يسرى على أنظمة عسكرية أخرى مثل الصواريخ المضادة للصواريخ أو المضادة للطائرات والصواريخ المضادة للدروع من طراز جافلين وغيرها، ما أدى إلى ضغوط كبيرة على دول الناتو للتعجيل بإنتاج مثل هذه الذخائر والأسلحة، وإلى لجوء روسيا إلى كوريا الشمالية للحصول على قذائف المدفعية، وإلى إيران للحصول على المسيرات.
قبل أيام، قال وزير الدفاع البريطاني بن والاس (Ben Wallace) إن روسيا “تستخدم 97 بالمئة من جيشها” في أوكرانيا. يقدّر المسؤولون الأميركيون أن حوالي 80 بالمئة من القوات الروسية البرية تشارك في غزو أوكرانيا. خلال أسبوع واحد في القتال حول مدينة فولدار، خسرت روسيا 130 عربة مسلحة بما فيها 36 دبابة، وفقًا لمصادر أوكرانية وروسية ولصور إلتقطتها المسيرات. الوزير البريطاني والاس تحدث “عن إبادة كتيبة روسية كاملة” في محيط فولدار، ما أدى إلى “خسارة أكثر من ألف جندي خلال يومين”. ووفقًا لمعهد الدراسات الاستراتيجية الدولية في بريطانيا، خسرت روسيا ألفين دبابة منذ بدء الغزو، أي 50 بالمئة من مخزونها من الدبابات الحديثة، بينما تراوحت خسائر أوكرانيا بين 450 و700 دبابة وفقًا للمصدر ذاته. وسوف تؤثر العقوبات الغربية على قدرات روسيا على زيادة إنتاجها العسكري نظرًا لصعوبة، إن لم يكن استحالة استيراد رقائق الكومبيوتر وغيرها من المواد التقنية المعقدة الضرورية لتصنيع الأسلحة المتطورة من الغرب.
ولكن الخسائر الروسية المروعة، كانت الخسائر البشرية، حيث قدّر المعهد عدد الجنود الروس القتلى والجرحى بين100 ألف و150 ألف جندي روسي. الخسائر البشرية الروسية التي لم يتوقعها بوتين قبل الغزو تشمل هجرة مئات الآلاف من الشباب والشابات الروس، ومعظمهم من حملة الشهادات الجامعية، أو الذين يملكون مهارات عالية. التأثير بعيد المدى لكلفة الحرب المادية والبشرية، وهجرة الأدمغة الروسية، ومضاعفات العقوبات الاقتصادية والتقنية والمالية سيكون ضخمًا للغاية. وبغض النظر عن كيفية وقف القتال، فإن شريحة هامة من المواطنين الروس سوف يلومون الرئيس بوتين على تهميش بلادهم اقتصاديًا وسياسيًا واستراتيجياً، وتحويل روسيا إلى دولة معزولة عن الغرب إن لم تكن دولة مارقة، وهو الذي وصل إلى السلطة، وهو يلوح بشعار تحديث وتطوير روسيا ،وإعادة الاستقرار إليها بعد سنوات انعدام اليقين والتهميش التي أحاطت بروسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وحقبة الرئيس بوريس يلتسين.
معظم حسابات بوتين وهيئة أركانه العسكرية كانت خاطئة. قواته الغازية لم تكن مستعدة أو قادرة على شنّ هجمات منسقة على أكثر من جبهة، وقدراتها اللوجستية كانت – ولا تزال – ضعيفة، وقادة الوحدات المهاجمة كانوا يفتقرون إلى الخبرات القيادية. أوكرانيا لم تستسلم بسرعة، والعاصمة كييف لم تقع تحت احتلال القوات الروسية، والرئيس فلودومير زيلينسكي لم يهرب، ولم يقع في أيدي عملاء روسيا في العاصمة، والأهم من ذلك جاء رد الفعل الغربي بقيادة الولايات المتحدة سريعًا وفعالًا وموحدًا.
الرئيس بوتين أخفق أيضا في الأخذ بعين الاعتبار عوامل أخرى غير مادية ونفسية وثقافية واجتماعية يصعب قياسها كما تقاس العوامل الاقتصادية والعسكرية، وأبرز هذه العوامل إرادة الأوكرانيين على القتال، ومدى تعلقهم بوطنهم، واستعدادهم للتضحية من أجل الدفاع عن ديموقراطيتهم وحيوية مجتمعهم المدني. أيضا القيادة السياسية الفعالة التي وفرها بسرعة مذهلة الرئيس زيلينسكي، وقدرته الفذة على مخاطبة العالم، وشجاعته الشخصية (زيارته المتكررة لجبهات القتال، بعكس بوتين) والأخلاقية، والتي عبأت المجتمعات الديموقراطية في العالم للوقوف وراء أوكرانيا. المواجهة بين روسيا وأوكرانيا هي أيضا مواجهة بين نظامين سياسيين: النظام الروسي آسن ومحافظ ورجعي، ويريد استعادة الماضي الاستعماري البائد، ويقوده سياسيون وعسكريون مسنّون يفتقرون إلى المخيلة والابداع. بينما النظام الاوكراني نظام ديموقراطي على الرغم من مشاكله وعدم اكتماله، ولكنه مبني على مجتمع مدني حيوي وشاب، ويقوده سيًاسيا وعسكريًا، رجال ونساء لا يتجاوزون الأربعينات والخمسينات من العمر، ويتطلعون إلى مستقبل واعد أكثر، كجزء حيوي من الغرب الديموقراطي.
على الرغم من شجاعة وتفان الأوكرانيين في الدفاع عن وطنهم، فإن صمودهم المدهش أمام دولة كبيرة مثل روسيا لم يكن ممكنًا لولا الدعم الغربي، وخاصة الأميركي، الكبير لهم سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا. المساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية لأوكرانيا خلال أقل من سنة زادت عن 26 مليار دولار. هذه المساعدات شملت الصواريخ على مختلف أنواعها والعربات المسلحة (أُضيف إليها مؤخرًا قرار إرسال 31 دبابة متقدمة من طراز M1 Abrams) والمسيرات والمدافع المتطورة والذخائر، إضافة إلى المعلومات الاستخباراتية الهامة وأعمال التدريب. ومع أن إدارة الرئيس بايدن كانت تقاوم تزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية، مثل الصواريخ القادرة على الوصول إلى العمق الروسي، وحتى الصواريخ المضادة للصواريخ من طراز باتريوت، إلا أنها كانت تتراجع تحت الضغوط الداخلية والدولية (كما حدث حين وافق بايدن على تزويد كييف بالدبابات) وبسبب الفظائع التي ترتكبها القوات الروسية ضد المدنيين.
وجاءت مناسبة الذكرى الأولى للغزو لكي تثير من جديد الجدل بين الخبراء والمحللين العسكريين، وحتى في أوساط المسؤولين الحكوميين في الولايات المتحدة والدول الغربية حول مدى ومستقبل تسليح أوكرانيا. بعد سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب في الولايات المتحدة، هناك بدايات قلق مشروع حول احتمال تحول بعض الأصوات الجمهورية المتحفظة أو المعارضة لتسليح أوكرانيا إلى جوقة هامة في مجلس النواب قد تخلق العقبات أمام إدارة بايدن، التي تريد مواصلة دعمها العسكري لأوكرانيا طالما استمر القتال. هناك أيضا مخاوف في أوروبا حول قدرة واستعداد تلك الدول، على مواجهة معدلات التضخم العالية، وانعدام اليقين لجهة ضمان امدادات النفط والغاز وإرتفاع أسعارها.
في المقابل، تواصل أوكرانيا وأصدقائها في الغرب مطالباتهم لدول الناتو تزويد أوكرانيا بالطائرات الحربية الحديثة، والمزيد من الدبابات المتطورة لصد ودحر القوات الغازية، ولإلحاق الهزيمة بها، لأن اوكرانيا وأصدقائها لا يرون أي فرصة أو مجال، وخاصة في حال ثبات التوازن الراهن وحرب الاستنزاف الحالية، للدخول في مفاوضات مع روسيا لوقف القتال. هؤلاء المحللون يقولون أن أوكرانيا، إذا توفرت لديها الأسلحة التي تحتاجها، قادرة على إلحاق هزيمة كبيرة بالقوات الروسية داخل اراضيها. ولكل هذه الأسباب لم يكن من المستغرب أن يقول رئيس هيئة الأركان العسكرية المشتركة الأميركية الجنرال مارك ميلي (Mark Milley) بعد اجتماعه بالقادة العسكريين والمدنيين لحلف الناتو في بروكسل مؤخرًا أن “روسيا خسرت استراتيجيًا وعملاتيًا وتكتيكيا” في أوكرانيا.
وفي هذا السياق، يرى العديد من المحللين العسكريين أن المساعدات العسكرية الأميركية والأوروبية لأوكرانيا، على الرغم من حجمها وأهميتها، غير كافية لإعطاء أوكرانيا الإمكانات لإلحاق هزيمة عسكرية حاسمة بالقوات الروسية في أوكرانيا. ولا يخف بعض المسؤولين في واشنطن حقيقة أن إدارة الرئيس بايدن لا تريد أن تتحول مساعداتها العسكرية لأوكرانيا إلى ذريعة جدية يستخدمها بوتين لتصعيد بائس للنزاع يتخطى حدود أوكرانيا، وهذا يعني من وجهة نظر هؤلاء المسؤولين تسليح أوكرانيا ومساعدتها لإرغام روسيا على التفاوض، وليس لتحقيق انتصار حاسم ضد روسيا، خاصة إذا استمر الأوكرانيون على إصرارهم على تحرير الأراضي الأوكرانية المحتلة، وتحرير شبه جزيرة القرم التي احتلتها روسيا وضمتها إليها في 2014. هذا النقاش في أوساط المحللين والسياسيين سوف يستمر في المستقبل المنظور، وسوف يتأثر بطبيعة التحولات العسكرية على الأرض.
عشية الذكرى الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا، يمكن القول أن هذا الحدث التاريخي الذي أعاد إلى قلب أوروبا حربًا نظامية مدمرة أرغمت دول القارة على إعادة النظر بحساباتها الاستراتيجية وتحالفاتها، بما في ذلك انضمام فنلندا والسويد لحلف الناتو. الغزو أعاد الحيوية لحلف الناتو ولعلاقات الولايات المتحدة بحلفائها الأوروبيين بعد أن تضررت جذريًا خلال ولاية الرئيس السابق ترامب. أما المضاعفات الاقتصادية للغزو، فإن العالم كله يشعر بتردداتها نظرًا لأهمية روسيا وأوكرانيا كدولتين رئيسيتين مصدرتين للقمح إلى القارة الأفريقية ودول الشرق الأوسط وشرق آسيا.
الغزو الروسي لأوكرانيا زج بدولتين شرق أوسطيتين في هذا النزاع في قلب أوروبا. تركيا لعبت، وتلعب، دورًا اقتصاديًا في النزاع، خاصة لجهة السعي لتصدير القمح من البلدين عبر مضائق البحر الأسود التي تسيطر عليها، وتلعب أيضا دورا في مجال النفط والغاز من خلال تنسيق المواقف مع روسيا. ولكن تركيا في بداية الحرب زودت أوكرانيا بالمسيرات العسكرية التي استخدمتها القوات الأوكرانية بفعالية ضد القوات الروسية الغازية. الدولة الشرق أوسطية الثانية التي تورطت في النزاع فهي إيران، التي أصبحت طرفًا عسكريًا في المعسكر الروسي حيث زودت القوات الروسية بمئات المسيرات إيرانية الصنع التي تستخدمها روسيا لضرب الأهداف المدنية في أوكرانيا ولتدمير البنية التحتية الأوكرانية.
لو نجحت روسيا في تحقيق أهداف غزوها لكانت أوكرانيا اليوم دولة محتلة تدور في فلك روسيا سياسيًا وثقافيًا، ولكانت قد فقدت هويتها الوطنية وحتى لغتها، ولكانت روسيا قد وصلت إلى حدود بولندا، ولكان حلف الناتو في أزمة وجودية. نجاح الغزو الروسي لأوكرانيا، كان سيعزز من طموحات الصين في غزو جزيرة تايوان، حيث سترى بيجين أن واشنطن التي لم تتصد لغزو روسي لدولة في قلب أوروبا، لن تهب بالضرورة لحماية جزيرة، ليست دولة مستقلة، قبالة ساحل دولة كبيرة مثل الصين. انتصار روسيا في اوكرانيا كان سيكون بمثابة انتصار لإيران ولحلفاء موسكو في كوريا الشمالية وروسيا البيضاء، ولكل الأنظمة الأوتوقراطية في العالم، وحتى لدول تتعرض أنظمتها الديموقراطية لطموحات قادتها الذين يريدون تقييد هذه الديموقراطيات، مثل الهند وجنوب افريقيا. ومقابل تهليل أصدقاء روسيا في العالم، كان أصدقاء وحلفاء واشنطن في العالم، من قلب أوروبا إلى اليابان وكوريا الجنوبية وحتى استراليا سيشعرون بأنهم محاصرون وربما مهددون. هذا العالم البائس لم يتحقق بسبب المقاومة الأوكرانية للغزو الروسي، ودعم الغرب الديموقراطي بقيادة الولايات المتحدة. ولكن الحقيقة الصارخة هي أنه لو كانت هناك معطيات أخرى مخالفة أو قادة مختلفون – مثل دونالد ترامب في البيت الأبيض – لكان هذا العالم الداكن الذي أراد بوتين أن يفرضه على أوكرانيا، واقعنا الكارثي الحالي.