المباحثات الأميركية-الإيرانية التي ستبدأ يوم السبت في مسقط بسلطنة عُمان تؤكد مركزية إيران، وتحديداً برنامجها النووي، في سياسة الرئيس دونالد ترامب الشرق أوسطية. يريد ترامب أن يقول للقيادة الإيرانية، وللدول الأخرى المعنية مباشرة بإيران وخاصة إسرائيل، إنه مستعد لاعتماد أي وسيلة سياسية أو غير سياسية لاحتواء البرنامج النووي، وسلوك إيران السلبي في المنطقة، وإنه في هذا السياق سوف يتصرف باستقلالية تامة، وإن كان سيستمع إلى مواقف دول مثل اسرائيل والسعودية، ولكن مع إفهام الجميع إنه لن يرهن قراراته لأي طرف، وسوف يستخدم طيفاً من الإجراءات السياسية العملية المختلفة، مثل الاتصال مباشرة بالقيادة الإيرانية، واستئناف المباحثات معها، وإنه يفضل التفاهم معها، ولا يريد بالضرورة الانزلاق إلى الخيار العسكري لحل القضايا الخلافية، وإن كان سيبقي الخيار العسكري على الطاولة.
الرئيسين الديموقراطيين اللذين سبقاه وتبعاه، باراك أوباما وجوزيف بايدن، أخفقا في اقناع إيران ودول المنطقة أنهما سيتخذان قراراتهما باستقلالية تامة، وأنهما مستعدان لاستخدام كل الوسائل المتاحة لواشنطن لتحقيق أهدافها. المباحثات سوف تكون بين مسؤولين بارزين، هما مبعوث الرئيس ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، ووزير خارجية إيران، عباس عراقجي.
خلال أقل من ثلاثة أشهر، تحول ستيف ويتكوف، وهو رجل اعمال ناجح، ولا يتمتع بأي خبرة سياسية، إلى رجل المهام الصعبة للرئيس ترامب، فهو يتفاوض مع الإسرائيليين حول حرب غزة والرهائن، ويلعب دوراً كبيرا في الديبلوماسية الأميركية، الهادفة لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والآن سلّمه الرئيس ترامب ملف إيران المعقد.
الأمر اللافت، هو أن ترامب اختار الإعلان عن بدء المباحثات مع إيران بحضور رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، خلال لقاء وصفته بعض الصحف الإسرائيلية بأنه أسوأ لقاء بين الرجلين حتى الآن.
جاء نتنياهو إلى واشنطن ليناقش مع ترامب أولويته الاقتصادية الملحة، أي إلغاء الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي على إسرائيل، بزيادة تصل إلى 17 بالمئة، نظراً لمضاعفاتها السلبية على قطاع الإلكترونيات في إسرائيل، الذي يعتمد على الأسواق الأميركية. وأولويته السياسية-الأمنية، وهى التخلص من البرنامج النووي الإيراني.
وعاد نتنياهو إلى إسرائيل دون تحقيق أي انجاز يذكر، ترامب رفض القول أنه سيلغي الرسوم الجمركية على إسرائيل، حتى بعد أن تعهد نتنياهو بإلغاء الرسوم والقيود الجمركية على الولايات المتحدة، بل إنه ذّكر نتنياهو أن الولايات المتحدة تقدم لإسرائيل مساعدات تصل إلى 4 مليارات دولار في السنة. وبدلاً من مناقشة الخيار العسكري ضد البرنامج النووي الإيراني، فوجئ بإعلان ترامب عن بدء مباحثات عُمان. عندما أعلن ترامب عن المفاجأة، اختفت الابتسامة عن وجه نتنياهو، الذي نظر بقلق إلى مساعديه. وأدرك أنه لا يستطيع أن يكرر ما فعله الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي قبل أسابيع، حين دخل في سجال علني مع ترامب حول نوايا روسيا في أوكرانيا، أدى إلى تعميق الخلافات بين أوكرانيا والولايات المتحدة.
وكشف لقاء ترامب مع نتنياهو وجود هوة بين الرجلين حول غزة. فبينما يرفض نتنياهو أي حديث عن وقف لإطلاق النار في غزة، أعرب ترامب عن أمله أن تتوقف الحرب “في المستقبل القريب”. وقالت مصادر في واشنطن أن ترامب يريد أن يزور السعودية بعد توقف القتال في غزة، لأن ذلك سيحسن من أجواء لقائه بالقيادة السعودية، وبقادة دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر، وهذا ما أوضحه ترامب، وفقاً لهذه المصادر، لنتنياهو. وإذا لم تكن هذه الاخفاقات كافية، مني نتنياهو بنكسة أخرى تتعلق بتركيا، الدولة الثانية بعد إيران على قائمة الدول التي يعاديها، حين مدح ترامب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسخاء. وخلال مناقشة التوتر التركي-الإسرائيلي، قال ترامب لنتنياهو “أي مشكلة بينك وبين تركيا أستطيع أن أحلها، طالما كنت عقلانياً، يجب أن تكون عقلانياً”، وأشار ترامب إلى علاقاته “الجيدة جداً” مع تركيا وأردوغان، الذي وصفه بأنه “رجل قوي وذكي جداً”. وفسرّ المعلقون الإسرائيليون مواقف ترامب بأنها رسالة واضحة لنتنياهو، أن سياسته تجاه إيران والمنطقة ستكون من صنع واشنطن فقط، وهو ما لم يرسخه من قبل الرئيسين أوباما وبايدن.
يمكن وصف سياسة الرئيس ترامب تجاه إيران بأنها مزيج من الترهيب والترغيب. ويمكن تفسير بعض قرارته السياسية والعسكرية في المنطقة منذ بداية ولايته الثانية بأنها مصممة لخدمة هذه السياسة. الهدف المباشر للحملة العسكرية الراهنة ضد الميليشيات الحوثية في اليمن هو وقف الهجمات ضد إسرائيل وضد القوات الأميركية المرابطة في البحر الأحمر، وحماية خطوط التجارة البحرية الدولية. ولكن الهدف الاستراتيجي الأبعد هو ردع إيران. ومن هنا تحذير ترامب بأنه سيعتبر أي طلقة تأتي من الحوثيين على أنها طلقة من الأسلحة ومن القيادة الإيرانية، وأنه سيحمل إيران مسؤولية هذه الهجمات، وأن العقوبات ستكون وخيمة بالفعل.
التصعيد العسكري النوعي ضد الحوثيين، جاء بعد أسبوع من رفض المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي عرض الرئيس ترامب في بداية الشهر الماضي ببدء مفاوضات جديدة مع طهران، للتوصل إلى اتفاق نووي جديد، يتخطى الاتفاق الذي توصل إليه الرئيس الأسبق باراك أوباما مع طهران في 2015، والذي انسحب منه ترامب في 2018، معتمداً سياسة الضغوط القصوى على إيران. وحّذر ترامب في رسالته من إنه على إيران أن تختار بين وقف تطوير برنامجها النووي، أو المجازفة بتدميره في ضربة عسكرية. وانتقل ترامب من الترهيب إلى الترغيب، حين مد يده إلى الإيرانيين في مقابلة تلفزيونية قائلاً، إنه يفضل التوصل إلى إتفاق، لأنه لا يتطلع إلى “إلحاق الأضرار بإيران وشعبها العظيم”.
وإذا كانت رسالة ترامب تمثل الترغيب، وإمكانية فتح صفحة جديدة مع إيران، فإنه لوّح بالترهيب من خلال إجراء مناورات عسكرية جوية مشتركة مع إسرائيل، شاركت فيها قاذفات إسرائيلية جديدة مع طائرة أميركية من طراز B-52، القادرة على قذف القنابل الضخمة المصممة لتدمير المنشآت المبنية تحت الأرض. لاحقاً، أرسلت الولايات المتحدة ست قاذفات استراتيجية من طراز B-2، المصممة لتفادي الرادار إلى قاعدة دييغو غارسيا في المحيط الهندي، والقادرة على قصف أهداف في الخليج، التي تشرف عليها الولايات المتحدة وبريطانيا، إضافة إلى مقاتلات حديثة من طراز F-35. وفي بداية الشهر الجاري، قررت وزارة الدفاع إرسال حاملة طائرات ثانية إلى المنطقة.
وهناك تيار في الأوساط العسكرية الإسرائيلية، يجد صدى ايجابياً في بعض الأوساط في واشنطن، يقول إن الوقت الراهن هو أفضل وقت ممكن لتوجيه ضربة جوية قوية للمنشآت النووية الإيرانية، لأن إيران الآن، كما يقولون، “بيت دون سقف”، بمعنى أنها تفتقد إلى منظومة دفاع جوي فعالة، بعد أن دمرت إسرائيل في السنة الماضية أكثر من عشرين مركزاً للدفاعات الجوية حول بعض المواقع الاقتصادية والنووية في جميع أنحاء إيران.
وإضافة إلى مواصلة قصف مواقع الحوثيين في اليمن، تواصل واشنطن العمل من خلال قواتها المنتشرة في سوريا على إقناع قوات سوريا الديموقراطية، التي يقودها الأكراد، وتعمل في شمال شرق سوريا، بالتوصل إلى اتفاق مع الحكومة الجديدة في دمشق، كما قامت هذه القوات بدور مماثل في اقناع قوات الجيش السوري الحر، المنتشرة قرب قاعدة التنف، التي ترابط فيها القوات الأميركية في جنوب شرق سوريا إلى اتفاق مماثل. وتهدف هذه الاتفاقات إلى منع استئناف الحرب الأهلية في سوريا، الأمر الذي يسمح لإيران وحلفائها من إعادة بناء نفوذهم في سوريا.
وفي لبنان، تقوم الولايات المتحدة بمساعدة الحكومة اللبنانية سياسياً وأمنياً في احتواء نفوذ حزب الله، وكذلك نفوذ إيران، الأمر الذي يفسر استثناء لبنان من قرار ترامب تجميد المساعدات الأميركية الخارجية، وتوفير مبلغ 95 مليون دولار لتمويل الجيش اللبناني.
وبغض النظر عن التصريحات المتناقضة بين الأميركيين، الذين يقولون إن المباحثات سوف تكون مباشرة، والإيرانيين الذين يؤكدون أنها ستكون غير مباشرة، هناك رغبة واضحة من الطرفين، إنهما يريدان الدخول في مباحثات جدية. المعلق دافيد اغناتيوس نسب في مقاله في صحيفة واشنطن بوست إلى مصدرين أميركيين قولهما إن المبعوث ويتكوف مستعد لزيارة طهران، إذا وجهت إليه مثل هذه الدعوة. كما أن الوزير عراقجي، الذي نشر قبل أيام مقالاً في الصحيفة ذاتها، جدد التزام إيران بتعهدها خلال اتفاق سنة 2015 بزنها لن تسعى “في أي ظرف من الظروف للحصول على الأسلحة النووية”. وأضاف عراقجي إن إيران ترى زن موقف ترامب من إيران “يمثل محاولة صادقة لتوضيح المواقف وفتح نافذة باتجاه الديبلوماسية”. وأضاف في إشارة غير مباشرة إلى معارضة ترامب لما يسميه “الحروب التي لا نهاية لها”، “لا نستطيع أن نتخيل أن الرئيس ترامب يرغب بالتحول إلى رئيس أميركي آخر متورط في حرب كارثية في الشرق الاوسط”. ورحب عراقجي بالاستثمارات الأميركية في إيران، مذكراً أنه بعد اتفاق 2015، أرادت إيران شراء 80 طائرة ركاب من شركة بوينغ الأميركية.
ستوضح الأسابيع المقبلة المواقف ما إذا كانت هناك بالفعل نافذة باتجاه الديبلوماسية، أم أن الولايات المتحدة (وإسرائيل) وإيران على طريق حرب مدمرة، لن تسلم من آثارها الكارثية دول المنطقة الأخرى.