على مدى أسبوعين، شاهد الأميركيون كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري يتنافسان على جذب عقولهم وقلوبهم عبر سرديتين مختلفتين ورؤيتين متناقضتين حول حاضر الولايات المتحدة، الذي ينضح بأوجاع ومآسي جائحة تاريخية، وأسوأ ازمة اقتصادية منذ عقود، ومستقبلها المتنازع عليه. السجال المستخدم في المؤتمرين الوطنيين للحزبين اتسم بالطروحات المطلقة والشمولية، وخاصة تلك التي ألقيت ونوقشت خلال مؤتمر الحزب الجمهوري. وهذه أكثر مرة في التاريخ الحديث للانتخابات الأميركية يصوغ فيها كلا الحزبين المعركة الانتخابية انطلاقا من مفهوم المانوية، أي الصراع الذي لا ينتهي بين الخير والشر، بين الضوء والظلام. الرئيس ترامب، اتهم منافسه الديموقراطي جوزيف بايدن بأنه يقود حركة متطرفة، تسعى إلى تدمير وتفكيك “الحياة الأميركية” التي يريد ترامب حمايتها وصيانتها.
المرشح الديموقراطي جوزيف بايدن، طرح المواجهة أيضا بنوع من الشمولية، حين قال إن الحزب الديموقراطي ورؤيته لمستقبل الولايات المتحدة يمثل الضوء، وبأنه المرشح الأفضل والمؤهل لأن يقود الولايات المتحدة “خارج فصل الظلام”، الذي خيم على البلاد منذ وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض. المرشح بايدن، والرئيس السابق باراك أوباما، وغيرهما من الخطباء الديموقراطيين، اتهموا الرئيس ترامب بأنه يمثل خطراً وجودياً وثابتا ضد الجمهورية الأميركية ومؤسساتها الديموقراطية. وهذا أيضا يعتبر خروجا على السجالات التي تعّود عليها الأميركيون في مؤتمراتهم الحزبية منذ الحرب العالمية الثانية. الديموقراطيون يبررون ذلك بالقول إن كل ما يفعله ويمثله ترامب يتناقض ويخالف الأعراف والتقاليد والقيم الأميركية، بل إن تصرفاته وقراراته تنتهك القوانين.
المرشح بايدن، الذي يختلف أسلوبه الخطابي واستخدامه للغة السياسية بشكل جذري عن الرئيس ترامب، استخدم نبرة قوية في وصف منافسه، قائلا: “الرئيس الحالي لفّ الولايات المتحدة بغطاء أسود لفترة طويلة جداً، وخلق الكثير من الغضب، والكثير من الخوف والكثير من الخلافات”، وأوحى بانه المنقذ حين أضاف: “اتعهد لكم، أنكم إذا انتخبتموني رئيساً، سوف أعتمد على أفضل ما لدينا، وليس على أسوأ ما لدينا، وسوف أكون حليفاً للضوء وليس للظلام”. وشدد بايدن على أن “الانتخابات المقبلة ستغير من حياة الأميركيين، وسوف تحدد كيف ستكون أميركا لوقت طويل جدا.” ورسم الديموقراطيون صورة قاتمة للولايات المتحدة في حقبة الرئيس ترامب، وكأنها أرض ضباب، تسود فيها جائحة كورونا لأسباب عديدة، أبرزها اخفاق قيادة ترامب، التي أدت، كما قالت السناتور كامالا هاريس المرشحة لمنصب نائب الرئيس، إلى هدر أرواح الأميركيين وتهديد أرزاقهم.
التناقض بين الحزبين والمؤتمرين لم ينحصر بمضمون السرديات والرؤى، بل أيضاً في الأسلوب والشكل. الديموقراطيون، نظموا مؤتمراً بسيطاً، وتحدث فيه الخطباء من منازلهم في أشرطة فيديو معدة سابقاً، وحتى خطب جوزيف بايدن وكامالا هاريس ألقيت في قاعات فارغة، لم يكن فيها إلا الاعلاميين والتقنيين. في المقابل كان المؤتمر الجمهوري أفضل من ناحية الشكل والاخراج والأضواء، وإن كان مضمونه أكثر سوداوية من المؤتمر الديموقراطي.
الرئيس ترامب، الذي جاء من تلفزيون الواقع إلى السياسة، ينظر إلى كل شيء من منظور الشكل والاخراج والأضواء، لم يكن ليقبل أن يلقي خطاب قبول ترشيح حزبه في قاعة فارغة، وهو الذي يعشق هتافات الجماهير والتواصل المباشر معها، ومن هنا اصراره على دعوة انصاره إلى البيت الأبيض، وتحويله إلى مسرح لمهرجان انتخابي، وسط جائحة حصدت يوم المؤتمر أكثر من ألف مواطن أميركي، وفي انتهاك سافر للأعراف والتقاليد السياسية الأميركية بعدم استخدام الأبنية الرسمية لأغراض انتخابية، وعلى خلفية انتقادات قوية من الاعلاميين والمحللين والمؤرخين لإساءة استخدام البيت الأبيض. وحظي وزير الخارجية مايك بومبيو بقسط كبير من هذه الانتقادات، لأنه خاطب المؤتمرين من مدينة القدس، وناقش قضايا انتخابية، وأثنى على الرئيس ترامب، وذلك في خروج سافر عن الأعراف والتقاليد، لأن وزراء الخارجية عادة لا يتحدثون في المؤتمرات الحزبية أو من دول أجنبية.
ولم يكن من المستغرب أن يتفادى ترامب الاشارة إلى ضحايا الجائحة، الذين زاد عددهم عن مئة وثمانين ألف شخص، وادعى أن انجازاته في مكافحة الجائحة، التي يسميها “الفيروس الصيني”، تخطت كل التوقعات على الرغم من أن عدد وفيات الجائحة في الولايات المتحدة هو أعلى رقم في العالم.
وقال ترامب لأنصاره أن جميع انجازاته هي في خطر الآن، وأن مصدر هذا الخطر هو منافسه الديموقراطي جوزيف بايدن، وشدد على الأهمية التاريخية لهذه الانتخابات، مستخدماً لغة مماثلة لما استخدمها بايدن حين قال “هذه الانتخابات سوف تقرر ما إذا كنا سندافع عن طريقة الحياة الأميركية، أو أن نسمح لحركة متطرفة لأن تفككها وتدمرها”.
وبينما تفادى المرشح بايدن ذكر اسم الرئيس ترامب في خطاب قبوله ترشيح حزبه، هاجم ترامب منافسه بالاسم، وسخر منه، وقلل من قيمته كانسان وكسياسي، ورسمه بصورة قاتمة وكاريكاتورية. قال “جو بايدن ليس منقذاً لروح أميركا، لأنه دمّر وظائف الأميركيين، وإذا أُعطي الفرصة فإنه سيدمر عظمة أميركا”. ويتحدث بايدن دائما على أن حملته تهدف إلى خلاص “روح أميركا”.
ومثله مثل جميع خطبه الانتخابية، تميز خطاب ترامب في المؤتمر بالمبالغات والمغالطات والتزوير، ووجه اتهامات غير صحيحة لجوزيف بايدن، المعروف باعتداله، من بينها أنه يؤيد وقف تمويل مراكز الشرطة في البلاد، متناسياً أن بايدن رفض فوراً هذه الدعوات، التي أطلقت خلال التظاهرات، التي عمت المدن الأميركية في الأشهر الأخيرة عقب مقتل الأميركي من أصل افر يقي جورج فلويد، على أيدي عدد من أفراد الشرطة البيض، واتهمه بأنه ألعوبة في يد اليسار الأميركي المتطرف. وادعى ترامب أنه حقق انجازات للأميركيين من أصل افريقي أكثر من أي رئيس أميركي باستثناء ابراهام لينكولن، الذي أنهى الرق في الولايات المتحدة خلال الحرب الأهلية. كما ادعى ترامب، الذي تجاهل الجائحة لأسابيع طويلة ومحورية، وكان يقول إنها ستختفي بسرعة وبأعجوبة، إنه كافح الجائحة مستنداً “إلى العلم والحقائق والمعلومات”، متناسياً إنه نصح الأميركيين بشرب المطهرات الكيمائية السامة. وفي مفارقة لافتة طرح ترامب نفسه وكأنه منقذ للولايات المتحدة من أيد القوى الظلامية، وكأنه آت من خارج المؤسسة الحاكمة، وليس رئيساً مسؤولاً في الأشهر الأخيرة من ولايته.
وبينما تحدث الرؤساء الديموقراطيين الثلاثة الأحياء في مؤتمرهم، وهم جيمي كارتر وبيل كلينتون وباراك أوباما، لم يحضر الرئيس الجمهوري السابق والوحيد جورج بوش الابن المؤتمر الجمهوري، كما قاطعه المرشح الجمهوري السابق مت رومني.
والتقى خطباء المؤتمر الجمهوري، على وصف الحزب الديموقراطي بانه متطرف ويساري، وحتى ماركسي، ويسعى عملياً لقلب الحياة السياسية الأميركية رأسا على عقب، وتقويض القيم والتقاليد الأميركية، وتهديد الأمن والنظام، وفتح الحدود الأميركية للهجرة غير المضبوطة. واستغل الخطباء أحداث العنف العنصري، التي جرت في الأيام الأخيرة في ولاية ويسكونسن بعد إطلاق الشرطة الرصاص على مواطن أميركي من أصل افريقي أعزل، ما أدى إلى اصابته بالشلل، للادعاء بأن عودة الديموقراطيين إلى البيت الأبيض تعني أن الفوضى ستسود في البلاد. أحد الخطباء وصف الرئيس ترامب بأنه “حارس الحضارة الغربية”. وتفادى معظم الخطباء الاشارة إلى جائحة كورونا او تحدثوا عنها وكأنها في الماضي، كما تفادوا مناقشة الأزمة الاقتصادية.
الأميركيون مقبلون على انتخابات رئاسية وبرلمانية محورية، تجري للمرة الأولى خلال جائحة خطيرة، وعلى خلفية أزمة اقتصادية لن تتم معالجتها في وقت سريع، ووسط توترات عنصرية غير معهودة منذ حركة الحقوق المدنية، خلال عقد الستينات في القرن الماضي. الديموقراطيون يقولون إنهم يمثلون التعددية الاثنية والدينية والثقافية في البلاد، بينما يرسم الجمهوريون صورة مختلفة لأنفسهم، ويقولون إنهم يمثلون الوطنية الأميركية والتعلق بالأمن والنظام، والتمسك بحقوقهم الدستورية، وأبرزها التعديل الثاني على الدستور، الذي يسمح للمواطن باقتناء الأسلحة النارية. وفي هذا السياق يرى بعض المسؤولين في البيت الأبيض إن استمرار الاضطرابات وأعمال العنف في بعض المدن الأميركية – التي يسارع ترامب دائما إلى تذكير المواطنين بأنها مدن يسيطر عليها الديموقراطيون – قد يصب في مصلحته انتخابياً، ويسمح له بتبرير وصفه لنفسه بأنه “رئيس الأمن والقانون”.
لا تزال استطلاعات الرأي تضع المرشح بايدن في موقع متقدم على ترامب، وخاصة في الولايات القليلة التي ستحسم الانتخابات، والتي سيركز عليها بايدن وترامب في الأسابيع القليلة المقبلة. الاعتقاد السائد في الماضي، وفيه الكثير من الصحة، هو أن الناخب الأميركي يصوت انطلاقا من فهمه لمصالحه الاقتصادية، ووفقا لموقفه من المرشح. ولكن هناك أسباب ومعطيات ومشاعر “ثقافية” تحدد مواقف شريحة هامة من الناخبين من المرشح. هل المرشح ضد الاجهاض أم يقبل بإبقائه قانونياً؟ هل يؤيد بقوة التعديل الثاني للدستور؟ وهل يوافق أو يرفض الاعتراف بزواج المثليين؟
ظاهرة ترامب أبرزت إلى السطح، وبشكل نافر، حروب أميركا الثقافية، وهذا ما يجعل البعض يدعو إلى عدم وضع الكثير من الثقة باستطلاعات الرأي، لأن بعض الأميركيين لن يعربوا بصراحة كاملة عن انتماءاتهم وميولهم وخياراتهم، خاصة فيما يتعلق بنواحي شخصية أو تمس هوياتهم. نواحي “الحرب الثقافية”، التي لم تخمد كلياً، سوف تكون من بين العوامل التي ستساهم بانتخاب الرئيس المقبل في الثالث من نوفمبر 2020. ولكن لا أحد يعلم بأي درجة من اليقين عمق هذه المشاعر.