هذا المقال هو أول جزء من سلسلة مقالات من إعداد كبار الباحثين المقيمين في معهد دول الخليج العربية في واشنطن حول آثار الانتخابات والحملات الانتخابية الرئاسية الأمريكية للعام 2016 على السياسة الخارجية.
من المعروف أن قيادات المملكة العربية السعودية ودول الخليج عامةً لا تؤيد تمامًا سياسات الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وتتنوع شكواها حول الرئيس من تلك الشخصية التي تنتقد عدم بنائه علاقات أوثق مع ملوك دول الخليج إلى تلك الاستراتيجية التي تقول إنه لم يدعم شركائه في الخليج ولم يفِ بوعوده، لا سيما في سوريا. هذا ولدى هذه القيادات شكوك كبيرة حول تغير تحالفات الولايات المتحدة كتجديد العلاقة مع إيران ونقل تركيزها إلى آسيا.
تطرق أوباما في مقابلة بعنوان “مبادئ أوباما” أجراها معه الصحفي جيفري غولدبيرغ من مجلة “أتلانتك” إلى مقاربته تجاه السياسة الخارجية وقدم المقال أدلة تدعم هذه المخاوف. فلقد بيّن الحوار المطول عن نفاذ صبر الرئيس إزاء طلبات دول الخليج ولم يحاول إلا قليلًا إخفاء جفائه تجاه ملوكها واصفا اياهم بأنهم “راكبون بالمجان” وأنهم لا يلبون احتياجات شعوبهم بما فيه الكفاية. لا يتوقع إلا عددًا قليلًا من المحللين المختصين بشؤون الخليج أن تتحسن العلاقات في خلال حكم الإدارة الحالية. فبالنسبة لهم، تعتمد إعادة إحياء الشراكات العميقة بين الولايات المتحدة ودول الخليج على عمل الإدارة المقبلة وقد صرّح المحلل والعالم السياسي الإماراتي عبدالخالق عبدالله في فعالية نظمها مؤخرًا معهد دول الخليج العربية في واشنطن أن “للولايات المتحدة علاقة متينة مع أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج لكن المشكلة تكمن على مستوى الرئيس”.
تطرح الإنتخابات التمهيدية الرئاسية الأمريكية واقعًا مضادًا ومخيبًا للأمل لهذا التوقع. فالتوجه الذي أعرب عنه العديد من المرشحين الأساسيين المتمثل بالنفور والابتعاد عن الشرق الأوسط والمسلمين يعكس مبالغة بحتة لحذر إدارة أوباما في سياستها الخارجية وقلة صبرها إزاء النزاعات القائمة في العالم العربي. تشكل الانتخابات مؤشرًا غير مثالي لجدول أعمال الرئيس المستقبلي ولقد أظهرت الانتخابات الحالية بالذات تغيرات مهمة في السياسات الأمريكية، وهذه توجهات يدركها خير إدراك فريق أوباما للسياسة الخارجية ويمنحها الاهتمام بطريقة تعامله مع ملفات الشرق الأوسط.
أزمتان أمريكيتان وآثارهما السياسية
تتميز ولاية أوباما بنقطتَي فشل حاسمتين حدثتا قبل توليه مقاليد السلطة وهي حرب العراق في العام 2003 والأزمة المالية العالمية في العام 2008. فلقد وجّهت الحادثتان السياسة الخارجية الأمريكية بشكلٍ أساسي وقلصتا من استعداد الولايات المتحدة على الالتزام عسكريًا في الخارج وعلى تخصيص الأموال لهذا الالتزام، بالإضافة إلى تقويض موقف البلد في الخارج وتعزيز انعدام الثقة العميق بالمؤسسات السياسية والمالية الذي تشهده بشكلٍ خاص انتخابات العام 2016.
تمتعت الحرب في العراق بادئ الأمر بدعم أغلبية الشعب الأمريكي الذي كان لا يزال تحت وقع صدمة أحداث 11 أيلول/سبتمبر وعلى استعداد لاتباع مقاربة عسكرية أكثر تم عرضها إليه كمقاربة حاسمة في إطار ما تطور سريعًا ليمسي “الحرب على الإرهاب”. غير أن الجهود الفاشلة لبناء دولة والعنف المتزايد ضمن المجتمعات وما تلاه من بروز لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) قد أدى إلى عواقب أثارت إشكاليات كبيرة وساهم في ظهور شعور عام بالشك تجاه إمكانية تحقيق أي تغيير إيجابي في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي ككل، علمًا أن أسس هذه الشكوك تعود إلى أحداث 11 أيلول/سبتمبر وقد عززتها النتائج السياسية المخيبة للأمل للربيع العربي الذي كان يومًا ربيعًا واعدًا. ببساطة، إن استعداد الشعب الأمريكي للانخراط بشكلٍ أعمق في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج ضئيل جدًا في ما عدا جهود تدمير “داعش” وتنظيم “القاعدة” والقضاء عليهما.
كان للأزمة المالية التي خضّت القطاع المالي وسوق الإسكان في الولايات المتحدة عام 2008 وقعًا سلبيًا كبيرًا على الوضع الاقتصادي والتوجه السياسي للعديد من الأمريكيين. ولقد أظهرت الدراسات التي تقارن هذه الأزمة بغيرها كتلك التي شلّت دول أمريكا اللاتينية في الثمانينيات أن العمال هم من يدفع الثمن الأغلى لهذه الأزمات. وفي حين أن الولايات المتحدة تمتعت بقدرة على التكيّف أكثر من الدول الأوروبية في مواجة هذه الأزمة، تبقى وتيرة التعافي أبطأ في فئات المجتمع العاملة. ويأتي التكامل الاقتصادي العالمي ليزيد من حدة هذه الآثار بما أنه يأتي بفوائد على أصحاب رأس المال والعمال ذوي المهارات العالية على حساب الطبقة الكادحة والصناعة الأمريكية. لا يمكن التأكيد على العلاقة بين هذه الضغوطات الاقتصادية وترجمتها السياسية لكن يبدو أنها تتجسد في زيادة دعم الطبقة العاملة للسياسات التي تضع مصالح الولايات المتحدة التجارية أولًا وفي ارتفاع عدائها للنخبة المالية.
الانتخابات التمهيدية الرئاسية للعام 2016
تتميز الانتخابات التمهيدية الرئاسية للعام 2016 بنجاح المرشحين الآتين من خارج الساحة السياسية المعتادة إذ يشغل مرشحان بارزان من الحزب الجمهوري وأحد المرشحيَين المتبقيَين من الحزب الديمقراطي مناصب لا صلة لها بالمنصات الحزبية السابقة. في الواقع، تتسم خطابات رجل الأعمال ونجم برامج التلفزيون الواقعية دونالد ج. ترامب، والسيناتور عن ولاية تكساس تيد كروز، والسيناتور عن ولاية فيرمونت بيرني ساندرز، بغياب الثقة بالنخبة السياسية والاقتصادية. ويمكن القول إن التغيير الذي يشهده الحزب الجمهوري شبه تاريخي بحيث قد انقسم الحزب إلى ثلاث فصائل مختلفة وانهارت السيطرة القوية السابقة لعقيدة دعم التجارة والقيادة العالمية في الحزب، ما أدى إلى نشر المرشحين البارزين لمواقف في السياسة الخارجية لم تكن لتكون مقبولة قبل ذلك.
منذ انتخاب الرئيس السابق رونالد ريغان على الأقل بات الاعتقاد بمبدأ الخصوصية الأمريكية أساسيا في مؤسسات الحزب الجمهوري، أي أن القيادة الأمريكية المتمثلة بدعم الأسواق الحرة وتعزيز الديمقراطية ضروري لحسن سير الاقتصاد العالمي والحفاظ على الأمن الدولي. غير أن حرب العراق وتدهور وضع الطبقة العاملة الاقتصادي في الولايات المتحدة قد أعادا إحياء تقليدٍ قديم يعطي الأولوية للمصالح الأمريكية الخالصة، وهو توجه يدعمه بشدة رجل الأعمال الدخيل على السياسة دونالد ترامب. ازدادت شعبية حملة ترامب بفضل تهجمها على سياسات التجارة والهجرة مدعيةً أنها تقوّض مصالح المواطنين الأمريكيين. وتبين خطاباته عن عدم استعداده للاستمرار في نهج استثمار الولايات المتحدة بشكلٍ غير متكافئ في أنظمة التجارة العالمية والأمنية التي بنتها القيادات الأمريكية، وهو موقف توضح من خلال استصغاره المثير للدهشة لقيمة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) واستهانته العلنية لاتفاقيات التجارة الإقليمية. السيناتور كروز هو مبتدئ أيضًا في شؤون السياسة الخارجية وقد أعلن عن مواقف متعارضة حول استخدام سلطة الولايات المتحدة. غير أن حملته تتميز بأن نظرته للسياسة الخارجية تأخذ شكل التزاماته كمسيحي إنجيلي، وهذا ما تعكسه تصريحاته وقراراته في اختيار مستشاريه.
أما العامل المشترك بين وطنية ترامب الداعية إلى إعطاء الأولوية للولايات المتحدة وعقيدة كروز المسيحية الإنجيلية، فهو القدر الملحوظ من العداء للإسلام. إنّ اقتراح ترامب بتعليق هجرة المسلمين إلى الولايات المتحدة ودعوة كروز إلى السماح للاجئين السوريين المسيحيين فقط بدخول أراضي البلاد موقفان لم يسبق لهما مثيل لدى أي مرشح في هذه المرحلة المتقدمة من الانتخابات التمهيدية الرئاسية. يتضمن فريق كروز العامل على السياسة الخارجية الجنرال وليام بويكن وفرانك غافني، وهما مناصران بارزان للفكرة القائلة إن حرب “الجهاد الخفي” مشنونة على شكل “زحف للشريعة” لمحاولة الاستيلاء على النظام القضائي الأمريكي. ولقد دعا غافني إلى تشكيل هيئة شبيهة بلجنة التحقيق الخاصة بالأنشطة المعادية لأمريكا التي كانت قائمة في فترة الحرب الباردة بغية التخلص من الأفراد الذين يشجعون على جهاد بث الشريعة ضمن الحكومة الأمريكية.
أما في الحزب الديمقراطي، فلقد وفّرت الانتخابات التمهيدية أيضًا مساحة لطرح الشكوك العميقة حول دور القيادة الأمريكية. ويتميّز السناتور ساندرز من جهته بانتقاده اللاذع لسياسات التجارة الأمريكية وباستعداده لمساءلة حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الذين كانوا يتمتعون بمكانة مصونة، أي اسرائيل والمملكة العربية السعودية. بالتالي، جعل ذلك من المرشحة الرئاسية الأبرز الوزيرة السابقة للخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون المناصر الأكبر لقيمة القيادة الأمريكية العالمية وحتى لضرورة هذه القيادة. وكما ذكر مقال نُشر في صحيفة “نيويورك تايمز”، “على عكس ما هو متوقع في السباق الرئاسي الطنان والمشبّع بالذكورية للعام 2016، يظهر أن هيلاري كلينتون هي المرشح الوحيد الباقي بتوجهاتها الصقورية في سياسته الخارجية.”
الآثار المترتبة على المملكة العربية السعودية ودول الخليج
لا يمكن تجاهل التوجهات الانعزالية الناشئة التي ترسم صورة السياسات الخارجية للمرشحين الرئاسيين ولا القدر الكبير من العدائية للأجانب والإسلام في خطابات المرشحين البارزين في الحزب الجمهوري، ولا اعتبارها مجرد استثناءات. لقد تركت نقاط ضعف الاقتصاد العالمي وعدم توازنه، بالإضافة إلى الأداء والنتائج المخيبة للأمل للتدخلات الخارجية في الشرق الأوسط، أثرها على الناخبين الأمريكيين. ولقد وصلت الحال إلى حد أنّ فريق السياسة الخارجية لهيلاري كلينتون، وهو فريق له خبرة عميقة وملتزم باتخاذ مواقف حازمة أكثر في الشرق الأوسط استنادًا إلى تحالفات موثوق بها، يواجه العراقيل نفسها من الجمهور كتلك التي تواجهها سياسة أوباما الخارجية والانتخابات التمهيدية الحالية. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تقييد صنع السياسات بسبب تدخل العامة والكونغرس في صلاحيات السلطة التنفيذية في ما يخص السياسة الخارجية.
إحدى المؤشرات التي تدل على ذلك عرض مشروع قانون مقدم من الحزبَين على مجلس الشيوخ يدعو إلى فرض قيود على بيع الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية. وفي حين أن احتمال تمرير هذا القانون أو حصوله على دعم السلطة التنفيذية ضئيل جدًا، ما يثير للاهتمام فعلًا هو اعترافه الصريح باختلاف تعريف الحليفَين لمصالحهما الوطنية. وما يرمز أكثر إلى عدم ثقتهما بشكلٍ عام بالتحالف السعودي، هو طلب الكونغرس بنشر أجزاء كانت سرية من التقرير النهائي للعام 2004 حول تحقيق الكونغرس في أحداث 11 أيلول/سبتمبر تبرهن الأثر القوي الذي لا تزال تحمله هذه الصدمة الوطنية على الجمهور الأمريكي. وتتصادف هذه المسألة مع تطور الإجراءات المتعلقة بمشروع قانون قدمه مجلس الشيوخ يسمح باستهلال الدعاوى القضائية التي رفعتها عائلات ضحايا 11 أيلول/سبتمبر مدعية أنّ السعودية لعبت دورًا في هذه الهجمات. نُشرت أخبار في هذا الصدد تشير إلى أن السعودية تهدد بالاستجابة إلى تمرير القانون عبر بيع الأصول التي تملكها المملكة على شكل سندات في الخزينة الأمريكية، ما قد يؤدي إلى نتائج مؤسفة تربط السعودية بالحملة الشعبية واسعة النطاق المعادية للنخبة المالية.
ومن غير المرجح أن تؤدي الاستقلالية النامية والحزم الإقليمي اللذين تبيّن عنهما المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج مثل الإمارات العربية المتحدة إلى كسب تأييد الشعب الأمريكي. مع ذلك، ستعزز أي إدارة أمريكية مستقبلية على الأرجح التوجه الحالي نحو تشارك عبء أمن الخليج بشكلٍ أكبر، وقد نرى أيضًا دعمًا للمسألة الأساسية التي يواجهها الخليج، وهي التنسيق لكبح مساعي إيران في المنطقة، نظرًا لعدم تأييد المرشحين الرئاسيين البارزين للاتفاق النووي الإيراني. فحتى كلينتون، التي دعمت الاتفاق الإيراني، صرّحت أنّه “ليس عبارة عن بداية لمرحلة أكبر من انفراج العلاقات الديبلوماسية.”
السياسة الخارجية هي ساحة أعمال النخبة وتستطيع القيادة الرئاسية أن ترسم شكل الرأي العام كما وأن تردّ عليه. لكن بالرغم من ذلك، من المهم أن تقدّر دول الخليج قيمة القوى الهيكلية التي تردع توجه وقوة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والميول الشعبية التي تترافق معها.