تزامن الهجوم الإليكتروني الذي تعرضت له منشأة ناتانز النووية الإيرانية يوم الأحد الماضي، والذي أكدت وسائل الاعلام الإسرائيلية والأمريكية، وفقاً لمصادر استخباراتية، إن جهاز الموساد الإسرائيلي هو الذي نفذ عملية التخريب، مع وصول وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى إسرائيل، الأمر الذي أثار التكهنات حول ما إذا كانت إسرائيل قد أعلمت إدارة الرئيس بايدن مسبقاً بالهجوم، الذي استهدف قلب برنامج تخصيب اليورانيوم في إيران. تسبب الهجوم التخريبي في اشعال الحرائق وقطع التيار الكهربائي، وإلحاق أضرار جسيمة بأجهزة الطرد المركزي، التي تقوم بتخصيب اليورانيوم في المنشأة التي تحيط بها حماية مكثفة. المسؤولون الإيرانيون الذين امتنعوا – في البداية – عن وصف الأضرار، أشاروا ضمناً إلى مسؤولية إسرائيل حين وصفوا الهجوم الإليكتروني بأنه “ارهاب نووي” كما قال رئيس وكالة الطاقة النووية علي أكبر صالحي، أو عمل “ارهابي غبي” كما قال وزير الخارجية محمد جواد ظريف، الذي أضاف مدعياً أنه “سيعزز” من موقع طهران التفاوضي في المحادثات غير المباشرة مع واشنطن في سياق اجتماعات فيينا الراهنة، التي دعا إليها الاتحاد الأوروبي وتشارك فيها جميع الأطراف التي وقعت اتفاق 2015 النووي مع إيران.
وجاء الهجوم ضد ناتانز على خلفية ما يمكن وصفه بالحرب الخفية بين إسرائيل وإيران، والتي تشمل إضافة إلى الغارات التي تشنها إسرائيل ضد القوات الإيرانية في سوريا، تصعيداً جديداً في الهجمات البحرية، التي تشنها الدولتان ضد بعضهما البعض في مياه البحر الأحمر والمحيط الهندي. وكانت صحيفة وال ستريت جورنال قد كشفت أن إسرائيل تقوم منذ 18 شهراً بمهاجمة السفن الإيرانية، التي تنقل العتاد العسكري لسوريا.
الإسرائيليون من جهتهم لم يؤكدوا أو ينفوا مسؤوليتهم عن العملية، كما هي عادتهم بعد مثل هذه الهجمات داخل إيران، مع إنهم يفعلون ذلك بطريقة توحي بمسؤوليتهم. لإسرائيل تاريخ طويل من عمليات التخريب ضد المنشآت النووية، بما في ذلك الاستيلاء على وثائق إيرانية ضخمة حول تاريخ الأبحاث النووية في إيران. وفي سنة 2010 شنت إسرائيل هجوماً إلكترونيا فعالا ضد منشأة ناتانز، مستخدمة في ذلك فيروس الكتروني معروف باسم Stuxnet، طورته بالتعاون مع الولايات المتحدة، وأدى إلى تدمير المئات من أجهزة الطرد المركزي، ما أخر البرنامج النووي لفترة طويلة. المسؤولون الأمريكيون في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما لم يؤكدوا ضلوعهم في ذلك الهجوم، ولكن تسريبات استخباراتية لاحقة أكدت أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية نسقت الهجوم مع الاسرائيليين. وصاحبت عمليات تخريب المنشآت النووية، حملة اغتيالات إسرائيلية طالت بعض العلماء النوويين الإيرانيين، كان آخرها اغتيال العالم البارز محسن فخري زادة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وفي الأيام التي أعقبت الهجوم، قال مسؤولون إيرانيون، اطلعوا على الخراب الذي تعرضت له منشأة ناتانز، من بينهم علي رضا زاكاني، رئيس مركز أبحاث تابع للبرلمان الإيراني في تصريح تلفزيوني أن الهجوم تسبب “بتدمير أو تخريب الآلاف من اجهزة الطرد المركزي”، محملاً إسرائيل مسؤولية الهجوم.
وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد نسبت إلى مسؤولين استخباراتيين أن عملية التخريب تسببت بأضرار ضخمة بقدرة إيران على تخصيب اليورانيوم، وقدّر هؤلاء أن عملية إصلاح الأضرار قبل العودة لاستئناف أعمال التخصيب قد تستغرق تسعة أشهر. وإذا كان هذا التقويم صحيحاً، فإن ذلك يعني أن البرنامج النووي الإيراني قد تعرض لنكسة مماثلة، أو ربما أسوأ من النكسة التي تعرض لها في 2010. وهذا التقويم يعني أن المركز التفاوضي لإيران في محادثات فيينا، قد تعرض لهزيمة نوعية، ولن يؤدي إلى تعزيز موقف إيران كما ادعى وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف.
خلال لقاءاته مع المسؤولين الإسرائيليين، أمتنع وزير الدفاع الأمريكي أوستن التعليق على الهجوم ضد ناتانز، بما في ذلك مؤتمره الصحفي المشترك مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي قال فيه “لا يوجد في الشرق الأوسط خطراً يفوق الخطر الكبير الذي يمثله تطرف النظام الإيراني”. الوزير أوستن التزم بالموقف الأمريكي التقليدي حين “أكد من جديد التزام إدارة (بايدن) بإسرائيل والشعب الإسرائيلي”. يوم الاثنين الماضي سارعت الناطقة باسم البيت الابيض جين ساكي للتأكيد بان الولايات المتحدة “لم تشارك” في الهجوم ضد ناتانز، وهو ما أكده مسؤولون آخرون حين جددوا التزام واشنطن بالتوصل الى حل تفاوضي للخلاف النووي مع إيران.
وعلى الرغم من الخلاف العلني بين إسرائيل والولايات المتحدة حول جدوى المفاوضات النووية مع إيران، ومعارضة بنيامين نتنياهو القوية لاتفاق 2015، وانتقاداته لإدارة الرئيس السابق أوباما بهذا الشأن، ومعارضته الراهنة لقرار الرئيس بايدن العودة الى المفاوضات مع إيران لإحياء وتطوير ذلك الاتفاق، فإن ذلك لم يدفع بإدارة بايدن إلى توجيه أي انتقادات علنية لإسرائيل، أو حتى تسريب أي مشاعر استياء لوسائل الاعلام دون ربطها بأي مسؤول أمريكي.
من الواضح أيضاً إن عملية التخريب في ناتانز، جاءت بعد ما يمكن وصفه بإجراءات حسن نية للتأثير إيجابيا على أجواء مباحثات فيينا، قامت بها كلاً من واشنطن وطهران. وأعلنت واشنطن في الأسبوع الماضي عن استعدادها لإلغاء العقوبات التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب ضد إيران، والتي “تتعارض” مع اتفاق 2015. من جهتها اعلنت إيران عن افراجها عن ناقلة نفط كورية جنوبية، احتجزتها إيران لإرغام كوريا الجنوبية على التراجع عن قرارها تجميد ودائع ايرانية بقيمة 7 مليارات دولار، لكيلا تطالها العقوبات الأمريكية.
في اليوم التالي لعملية التخريب، أجرى مستشار الأمن القومي الأمريكي جايك ساليفان اتصالاً إليكترونياً بنظيره الاسرائيلي مائير بن شاباط، صدر بعده البيان التالي “جدد السيد ساليفان الالتزام الصلب لإدارة بايدن – هاريس بأمن اسرائيل”. وتضمن البيان دعوة ساليفان لنظيره الاسرائيلي لزيارة واشنطن خلال الشهر الجاري. أبرز ما في البيان الأمريكي حول الاتصال، هو ما لم يرد فيه، أي غياب أي إشارة إلى عملية تخريب ناتانز.
هذه المواقف الأمريكية تبين أن إدارة بايدن، مثل إدارة أوباما، تتعامل بضبابية، وبشكل متعدد الجوانب، مع اجراءات إسرائيل التخريبية والعنيفة ضد البرنامج النووي الإيراني والعاملين فيه. هناك تعارض واضح ولا لبس فيه بين موقفي البلدين من البرنامج النووي الإيراني. إسرائيل تريد التخلص منه بمختلف الوسائل المتاحة، حتى ولو اضطرت لاتخاذها بمفردها، والولايات المتحدة سعت، ولا تزال تسعى لفرض القيود على البرنامج الإيراني عبر المفاوضات المباشرة مع إيران، في سياق الدعم الدولي وتفادي الخيار العسكري.
ولكن هذا التباين السياسي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، لا يعني أن واشنطن غير مرتاحة لعملية تخريب إسرائيل ناجحة للغاية – باعتراف الإيرانيين أنفسهم – سوف تؤدي، بعكس ادعاءات الوزير ظريف، إلى إلحاق نكسة نوعية ضخمة بالبرنامج النووي الإيراني، في الوقت الذي تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى المزيد من الوقت لمواصلة المفاوضات، والضغوط السياسية الدولية على طهران للتوصل ليس فقط إلى إحياء، بل أيضاً تطوير اتفاق 2015 لجهة نوعية القيود المفروضة على البرنامج وأمدها الزمني. عملية تخريب ناتانز، ستقوض حتماً التقدم الذي حققته طهران منذ 2019، حين بدأت – كرد على قرار دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي – بتطوير اجهزة طرد مركزي متطورة، وتخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، أي اضعاف ما سمح به اتفاق 2015.
الرد الإيراني – حتى الآن على الأقل – جاء ضمن سياق ما هو متوقع. إيران أعلنت أنها ستزيد من نسبة تخصيب اليورانيوم من 20% إلى 60% ما يعني أنه لا يوجد هناك أي استخدام سلمي لمثل هذا النوع من اليورانيوم المخصب. واشنطن وصفت القرار بانه “استفزازي” بينما اكتفى حلفاؤها الأوروبيون، فرنسا وبريطانيا وألمانيا، بالقول أنه “مؤسف”. ولكن هذا القرار، لا يعني بالضرورة ان إيران ستحقق ذلك في أي وقت قريب، بسبب الأضرار التي لحقت بمنشأة ناتانز. اللافت هو أن إيران لم تقاطع مباحثات فيينا، كما إنها لم تتهم إدارة الرئيس بايدن بالتواطؤ مع إسرائيل، ما يعني أنها – مثل الولايات المتحدة – تريد العودة إلى الاتفاق النووي كما هو موقع في 2015، وإن كانت تواصل الاصرار على أنها لن تقبل بتعديله أو تطويره.
معارضة إسرائيل القوية للمفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران، وتصميمها على مواصلة هجماتها ضد المنشآت النووية الإيرانية والعاملين فيها سوف تستمر، وسوف يستمر معها سعي واشنطن للتوصل إلى اتفاق نووي مع طهران، والاستفادة، في الوقت ذاته وبشكل ضمني، من نتائج الهجمات الإسرائيلية واحاطتها بالإيماءات والمواقف الضبابية.