في نهاية أسبوع آخر حافل بالمشاكل والتناقضات والاقتتال الداخلي، وشمل إقالة مستشار الأمن القومي الجنرال مايكل فلين، ورفض نائب الاميرال روبرت هارولد الحلول مكانه وسحب ترشيح أندرو بازدر لوزارة العمل، عقد الرئيس دونالد ترامب أول مؤتمر صحفي منفرد له استمر لثمانين دقيقة وتحول إلى أغرب مؤتمر صحفي يعقده رئيس أمريكي في تاريخ البلاد. وحتى قبل تلقي السؤال الأول، شنّ ترامب هجوما شرسا ضد وسائل الاعلام، وذكرها ومراسليها بالاسم في محاولة سافرة لترهيبها وتقويض صدقيتها، على الأقل في أعين قاعدته الشعبية التي تنحسر مع مرور كل يوم. الصحافة كما يراها ترامب هي المسؤولة عن كل مشاكله وكل الصعوبات والتحديات التي واجهها خلال أقل من شهر في البيت الأبيض، وليس اجراءاته الاعتباطية، أو ادعاءاته ومبالغاته. وبدلا من اعتماد معالجة جدية للمشاكل الخطيرة التي تواجهها الولايات المتحدة في الخارج، وآخرها الاختبارات الصاروخية التي تجريها دول تعادي الولايات المتحدة مثل كوريا الشمالية وإيران، والتحرشات العسكرية الروسية ضد البحرية الأمريكية، ومضاعفات تخلي الرئيس ترامب عن مفهوم “حل الدولتين” للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، حول ترامب مؤتمره الصحفي إلى مبارزة غير متوازية ومهينة مع ممثلي أبرز وسائل الاعلام الأمريكية.
المؤتمر الصحفي كان مزيجا من مسرح الفودفيل الترفيهي، والمونولوج الشخصاني، وتهنئة الذات، والاهانات الشخصية، والصور النمطية والندب السياسي. وقال ترامب “لقد ورثت الفوضى، الفوضى في الداخل والفوضى في الخارج..”. اللافت هو أن الفوضى داخل البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي وخاصة هذا الأسبوع كانت هي الحقيقة التي حاول الرئيس ترامب أن ينفيها مدعيا أن إدارته قد حققت “تقدما من الصعب تصديقه” خلال شهر واحد، وتابع” لا أعتقد أنه حقق رئيس آخر خلال فترة قصيرة من الوقت ما حققناه نحن”، مضيفا “وعندما أشاهد التلفزيون وأتصفح الصحف، أرى القصص عن الفوضى. الفوضى؟ ولكن العكس هو الصحيح. هذه الحكومة تسير ماكينة بالغة الدقة”. ترامب تحدث ايضا عن وراثته لبلاد تعصف بها الانقسامات، وتعهد بمعالجتها، دون أن يدرك أو يعترف بأن قراراته ومواقفه المثيرة للجدل والسخط، وتصريحاته المتهورة حول الحلفاء في أوروبا، وتخليه عن سياسات اسلافه العسكرية والاقتصادية منذ 70 سنة، وممارسات بعض مساعديه المنافية للمقاييس الأخلاقية الحكومية، ومحاولاته تقويض السلطة القضائية، وأجهزة الاستخبارات والصحافة الحرة، قد ساهمت كثيرا في تعميق هذه الانقسامات.
قضاء وصحافة
حتى الآن، مني الرئيس دونالد ترامب في أقل من شهر بهزيمتين كبيرتين: الأولى على يد القضاء المستقل الذي علّق العمل بقرار حظر دخول رعايا سبع دول ذات أكثرية مسلمة لفترة مؤقتة والوقف النهائي لدخول المهاجرين السوريين، والثانية على يد الصحافة الحرة التي أرغمته على إقالة مستشاره فلين. وهذا يفسر إلى حد ما، عدائه السافر للقضاء المستقل والصحافة الحرة كما بدا واضحا في مؤتمره الصحفي.
بداية نهاية الجنرال فلين كانت عندما كشف المعلق ديفيد اغناتيوس في مقاله في صحيفة واشنطن بوست أن فلين كان قد اتصل بالسفير الروسي سيرغي كيسلياك في 29 كانون الأول، أي في اليوم ذاته الذي فرض فيه الرئيس السابق باراك أوباما إجراءات عقابية بحق روسيا من بينها ترحيل 35 ديبلوماسي روسي، كرد على تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية عبر اختراقها للحسابات الالكترونية للحزب الديموقراطي. وفي الأسبوع الماضي نشرت الصحيفة ذاتها مقالا موثقا بمصادر حكومية سابقة وحالية، أكدت فيه، خلافا لما قاله فلين، أنه بالفعل ناقش مع السفير الروسي العقوبات التي فرضها أوباما، والتي وعد فلين بمراجعتها بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض موحيا بإمكانية إلغائها. الجنرال فلين فعل ذلك قبل استلامه لوظيفته الرسمية بعد تنصيب ترامب. ويوم الاثنين نشرت الصحيفة مقالا كشفت فيه أن وزيرة العدل بالوكالة سالي ييتس، (التي طردها ترامب لاحقا لأنها رفضت تطبيق قراره المتعلق بحظر السفر)، قد اتصلت بمحامي البيت الأبيض دونالد ماكغان في الشهر الماضي لتخبره أن فلين قد أخفى مضمون اتصالاته مع السفير الروسي عن مسؤولين في البيت الأبيض ومن بينهم نائب الرئيس مايك بنس، الذي أكد في مقابلات تلفزيونية أن فلين لم يناقش العقوبات مع السفير الروسي، وحذرت من أن فلين أصبح معرضا للابتزاز من قبل الروس الذين كانوا يعلمون أن فلين لم يصارح المسؤولين في البيت الأبيض بضمون اتصالاته. المعلومات التي كشفتها الصحيفة أظهرت أن بعض المسؤولين في البيت الأبيض كانوا على علم بما فعله فلين لأكثر من أسبوعين، دون اتخاذ أي إجراءات بحقه. ولولا تحقيقات واشنطن بوست لبقي فلين في منصبه ولما اضطر ترامب إلى إقالته. وعكست إقالة فلين حالة التخبط في البيت الأبيض، الذي أعلن مساء الاثنين أن فلين قد قدم رسالة الاستقالة للرئيس، وذلك قبل ساعات من تأكيد كيليان كونواي مستشارة الرئيس ترامب أن فلين لا يزال يحظى بثقة الرئيس، ولحقها بعد قليل الناطق باسم البيت الأبيض شون سبايسر الذي قال للصحفيين إن ترامب لا يزال ينظر بالأمر. ويوم الثلاثاء أعلن البيت الأبيض أن الاستقالة هي بالفعل إقالة.
من يتحدث باسم أمريكا
قبل وصول رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو إلى واشنطن للاجتماع بترامب، قال مسؤول أميركي في إيجاز خلفي مع الصحفيين أن إدارة الرئيس ترامب ستقبل بأي حل يتوصل إليه الفلسطينيون واسرائيل، وأنها لن تصر على مفهوم “حل الدولتين”، والقاضي بإقامة دولة فلسطينية ضمن حدود 1967 بعد تعديلات حدودية وتبادل للأراضي يوافق عليه الطرفان، تتعايش سلميا مع إسرائيل. وهذا هو الموقف الأمريكي الذي عمل من أجله آخر ثلاثة رؤساء أمريكيين. ولكن المسؤول الأمريكي قال “ليس مطلوبا منا أن نفرض تلك الرؤية ” أي (حل الدولتين) .
وبالفعل، قال الرئيس ترامب في مؤتمره الصحفي المشترك مع نتنياهو، وبأسلوب اعتباطي ومتهور، أنه لم يعد يصر على هذا الالتزام وتابع “أنا أنظر إلى حل الدولتين، وإلى حل الدولة الواحدة، ويعجبني الحل الذي يعجب الطرفين” وتابع مبتسما “وأنا قادر على التعايش مع أي من الحللين”. الرئيس ترامب أعرب عن هذا التحول الهام في موقف الولايات المتحدة بارتجال وكأنه يتحدث عن مسألة ثانوية، الأمر الذي أظهر بوضوح محرج مدى جهله بتعقيدات النزاع بين الفلسطينيين وإسرائيل. ويبدو أن أعمال الاستيطان المكثف في الأراضي الفلسطينية والتي أعلن عنها نتنياهو فور انتخاب ترامب قد أحرجت الرئيس الأمريكي –الذي استمع أيضا إلى قلق العاهل الأردني الملك عبدالله من استمرار أعمال الاستيطان- وهذا ما يفسر مناشدة ترامب لنتنياهو :”أود أن أراك تكبح توسع المستوطنات قليلا”. ولم يكترث الرئيس ترامب بتوضيح كلامه حول “حل الدولتين”، كما هو ليس واضحا مدى إدراكه لخطورة وتاريخية هذا التحول. وكعادته في مثل هذه المناسبات يكرر ترامب الحديث عن قدرته كرجل أعمال على التوصل إلى إبرام صفقات: “أعتقد أننا سنتوصل إلى صفقة، قد تكون أفضل مما يتوقعه الناس”.
ورحب نتنياهو، الذي حذره شركائه في الائتلاف الحاكم في إسرائيل من تداعيات مجرد استخدامه لعبارة “حل الدولتين”، رحب بالموقف المطاط للرئيس ترامب واغتنم الفرصة لإلقاء محاضرة غير منطقية تضمنت دعوته للتخلص من عبارات مثل “حل الدولتين” لأنها برأيه مجرد تسميات لا تعني الكثير.
ولكن اليوم التالي لتصريحات ترامب المطاطة حول “حل الدولتين” جلب تصحيحا من قبل مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة نيكي هايلي التي قالت إن حكومتها تدعم “بقوة” مفهوم “حل الدولتين”، وأن من يعتقد عكس ذاك “مخطيء”. وأضافت أن حل النزاع يجب أن يأتي من الطرفين، ولكنها شددت “نحن ندعم بالمطلق حل الدولتين”. ولكن هايلي أضافت “نحن نحاول أن نفكر بطريقة غير تقليدية” لجلب الطرفين إلى طاولة المفاوضات. وقبل أسابيع وجهت هايلي انتقادات شديدة إلى روسيا وأدانت ممارساتها في أوكرانيا.
ويبدو أن حديث هايلي عن التفكير بطريقة غير تقليدية، هو إشارة إلى محاولات أمريكية-إسرائيلية تهدف إلى إقناع دول خليجية إضافة إلى مصر والأردن للضغط على الفلسطينيين للعودة إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل، فضلا عن وعود للسلطة الفلسطينية بتقديم مساعدات مالية ولوجستية وتوفير غطاء عربي لأي تسوية ممكنة. ويشرف على هذه الجهود صهر الرئيس ترامب، جاريد كوشنر المتحدر من عائلة يهودية لها ارتباطات عميقة مع إسرائيل بما في ذلك دعم الاستيطان الإسرائيلي. وتتمحور هذه الجهود التي يدعمها نتنياهو بقوة على إنشاء ائتلاف بين هذه الدول التي تجمعها رغبة بوقف الهيمنة الإيرانية في المنطقة. ويدعو هؤلاء إلى تعزيز التعاون بين هذه الدول في مجالات المشاركة في المعلومات الاستخباراتية والتنسيق العسكري والتدريب. والاعتقاد السائد في إسرائيل والولايات المتحدة وبعض العواصم العربية أن تحقيق أي تقدم ولو طفيف في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، سوف يشجع الدول العربية على التعاون بشكل أفضل مع إسرائيل والولايات المتحدة لاحتواء إيران.
المشكلة هي أن الخوف من إيران والرغبة (الشرعية) بردع نشاطاتها التخريبية في العراق وسوريا واليمن لا تكفي لوحدها لحدوث تحولات جذرية في مواقف الفلسطينيين من الحل النهائي للنزاع، وخاصة إذا كان المطلوب منهم التخلي عن “حل الدولتين” وإقامة الدولة الفلسطينية.
التخبط الذي شهدته واشنطن في الأسابيع الماضية حول ما إذا كان هناك تصور، إذا لم نقل استراتيجية للتعامل مع روسيا، قد خفت وطأته هذا الأسبوع بعد أن أكد وزيرا الدفاع والخارجية جيمس ماتيس وريكس تيليرسون لنظرائهما في اوروبا وحتى روسيا أن هناك استمرارية في موقف واشنطن التقليدي والمشكك بنوايا روسيا، وهو موقف يتعارض مع طروحات دونالد ترامب الإيجابية تجاه روسيا والرئيس فلاديمير بوتين بالتحديد. وقال وزير الدفاع ماتيس خلال مشاركته في اجتماع لوزراء دفاع حلف الناتو في بروكسيل أن التعاون العسكري مع روسيا غير وارد إلى أن تثبت موسكو نفسها من خلال انصياعها للقانون الدولي: ” عليهم أن يلتزموا بالقانون الدولي، وهذا ما نتوقعه من الدول الراشدة..ما سنفعله هو التحاور السياسي معهم. ولكننا لسنا الآن في موقع يسمح بأن نبدأ التعاون على المستوى العسكري..على روسيا أن تثبت نفسها أولا وأن تفي بالتزاماتها الواردة في الاتفاق بين روسيا والناتو”. والتقى وزير الخارجية ريكس تيليرسون للمرة الأولى بنظيره الروسي سيرغي لافروف في ألمانيا، وقال بعد اجتماعهما أن الولايات المتحدة سوف “تدرس إمكانية التعاون مع روسيا في مجالات التعاون العملي الذي يفيد الشعب الأمريكي. وإذا لم نر الأمور بالطريقة ذاتها عندها سوف تدافع الولايات المتحدة عن مصالح وقيم أمريكا وحلفائها”، وتابع “وخلال بحثنا عن الأرضية المشتركة فإننا نتوقع أن تقوم روسيا بتنفيذ التزامها لاتفاق مينسك والعمل على تخفيف العنف في أوكرانيا”.
مواقف الوزيرين ماتيس وتيليرسون ببساطة تتناقض وتتعارض مع مشاعر ومواقف الرئيس ترامب العلنية تجاه روسيا والرئيس بوتين والنزاع في أوكرانيا. الوزيران الأمريكيان ارادا من جولتيهما طمأنة حلفاء واشنطن التقليديين في أوروبا وآسيا، والتأكيد على استمرارية واشنطن في المواقف تجاه روسيا وحلف الناتو. سوف تبين الأشهر القليلة المقبلة ما إذا كان الرئيس ترامب ومساعدوه البارزون سوف يتوصلون إلى صيغة أو تسوية بشأن التعامل مع روسيا وحسم مسألة من يتحدث باسم أمريكا مع هذا البلد.