من المتوقع أن تعقد الجولة الرابعة من المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران في مسقط، عُمان، في نهاية هذا الأسبوع بعد أول تعديل حكومي في واشنطن له علاقة مباشرة بمستقبل البرنامج النووي الإيراني، حين أصبح مستشار الأمن القومي السابق مايك والتز، ضحية لتصلبه تجاه البرنامج النووي الإيراني، وتأييده وتنسيقه للخيار العسكري ضده مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو.
تبين إقالة والتز من جملة ما تبينه معارضة ترامب، وجناح مهم في قاعدته الشعبية، للخيار العسكري ضد إيران – في هذا الوقت على الأقل، وقبل فشل المفاوضات – كما دعا والتز مع نتنياهو. وكان من المتوقع أن تعقد الجولة الرابعة في روما في مطلع الشهر، ولكن الوسيط العُماني أعلن عن تأجيلها لأسباب “لوجستية” لم يتم إيضاحها. وقبل أيام من استئناف المفاوضات، أعلن الرئيس دونالد ترامب للمرة الأولى الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه من هذه المفاوضات، التي أصبحت جزءاً من النقاش الداخلي بين الأجنحة الجمهورية والقوى المحافظة التي تدعم ترامب، والتي تدعم إسرائيل بعضها.
أوضح الرئيس ترامب أنه سوف يصر على “التفكيك الكامل” للبرنامج النووي الإيراني، مضيفاً في مقابلة مع شبكة التلفزيون إن بي سي “نعم، هذا كل ما يمكن أن أقبله”. وبعد أن كرر ترامب أنه يريد أن يرى إيران دولة ناجحة وعظيمة، تابع، “الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يحصلوا عليه هو السلاح النووي”، لأن ذلك سوف يؤدي برأيه إلى “تدمير العالم”. ولكن ترامب، على عكس ما كان قد قاله قبله وزير خارجيته ماركو روبيو من أن إيران يمكن أن تمتلك برنامجاً نووياً مدنياً، قال إنه منفتح لسماع الطروحات التي تدعم حصول إيران على مثل هذا البرنامج المدني.
يوم الأربعاء، قال نائب الرئيس جي دي فانس، “دون أي حكم مسبق على المفاوضات، أقول إن المفاوضات جيدة حتى الآن، وكنا سعداء جداً لأن الإيرانيين ردوا ايجابياً على بعض النقاط التي أثرناها،” وأضاف في كلمة أمام مؤتمر ميونخ للأمن، المنعقد في واشنطن، “حتى الآن، نحن نسير على الطريق الصحيح”. وكرر فانس القول إن بلاده لا تعارض وجود برنامج نووي مدني في إيران، ولكنها تعارض برنامجاً يتم من خلاله تخصيب اليورانيوم، الذي يؤدي إلى تصنيع السلاح النووي.
وواصل نائب الرئيس فانس، ما يمكن وصفه بسياسة الترهيب والترغيب تجاه إيران، التي تعتمدها إدارة الرئيس ترامب، حين قال “نعتقد بإمكانية التوصل إلى اتفاق يمكن أن يؤدي بالفعل إلى دمج إيران بالاقتصاد العالمي، بحيث يكون هذا الشيء جيداً بالفعل للشعب الإيراني، ولكن بعد إنهاء أي فرصة تمكنهم من الحصول على السلاح النووي. هذا ما نتفاوض من أجله.” وأشار فانس إلى أن هذا الخيار هو الذي يفضله الرئيس ترامب، “وهو خيار جيد للشعب الإيراني”، أما الخيار الثاني [أي خيار القوة العسكرية]، “فهو سيء جداً للجميع، وهذا ما لا نريده، ولكنه أفضل من الخيار الثالث، أي حصول إيران على السلاح النووي”.
ويرى العديد من الخبراء في الشؤون الإيرانية والنووية في واشنطن أنه على الرغم من المرونة الإيرانية في المفاوضات، إلا أن ذلك لا يعني أبداً أن طهران يمكن أن تقبل بالتفكيك الكامل لبرنامجها النووي، والرضوخ للشروط الأميركية والإسرائيلية بالوقف الكامل لعمليات التخصيب، وفقا لما يسمى “النموذج الليبي” في إشارة إلى قبول ليبيا تفكيك كامل برنامجها النووي في 2003، وإن كانت تدرك أن نسبة تخصيب اليورانيوم بنسبة ستين بالمئة، كما هو الوضع الحالي في إيران، لن يكون مقبولاً من أي طرف غربي. ويرى هؤلاء أن السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة ثلاثة ونصف بالمئة، وفرض نظام متشدد للمراقبة الدولية هو أمر يمكن أن يكون أساس للحل، وخاصة إذا اشركت الولايات المتحدة روسيا في الحل النهائي.
ما هو واضح من مواقف ترامب ونائبه فانس هو أن الخيار العسكري، الذي يبقى دائما على الطاولة من حيث المبدأ، ليس هو الخيار الذي يريد أن يلجأ إليه ترامب، ولا تلك الشريحة من مؤيديه الذين يؤمنون بالقومية الأميركية ومبدأ “أميركا أولاً” وتجلياته الانعزالية، ومن أبرزها عدم التورط في حروب إقليمية، وخاصة إذا كانت تخدم مصلحة طرف آخر، إسرائيل في هذه الحالة.
وعلى الرغم من التحالف القوي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أن الرئيس ترامب لا يريد أن ينسق مسبقاً قراراته الخارجية مع أي دولة أخرى، بما فيها إسرائيل، حتى ولو كانت هذه القرارات تمسها مباشرة. وكان من اللافت أن ترامب قبل الدخول في مفاوضات مع إيران، دون أن يستشير، أو حتى، يخبر إسرائيل مسبقاً بقراره، وهو أمر فاجأ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي كان يأمل بإقناع ترامب بتوجيه ضربة عسكرية مشتركة ضد المنشآت النووية الإيرانية. وقبل أيام، قَبَل ترامب عرض الميليشيات الحوثية في اليمن وقف إطلاق النار، ووقف الهجمات ضد السفن الحربية الأميركية في البحر الأحمر وضد الملاحة الدولية، وذلك دون إعلام إسرائيل بالأمر مسبقاً.
هذا الأمر دفع بنتنياهو إلى تكثيف الاتصالات مع حلفائه في الكونغرس، وخاصة في مجلس الشيوخ، ومع المسؤولين الحكوميين المعروفين بمواقفهم المتصلبة من إيران، وميلهم لاستخدام الخيار العسكري. مستشار الأمن القومي السابق مايك والتز كان من أبرز هؤلاء الصقور في إدارة ترامب.
وبعد أيام من إقالته، كشفت صحيفة واشنطن بوست أن من بين الأسباب التي دفعت بالرئيس ترامب لاتخاذ القرار بإقالته، بالإضافة إلى فضيحة إشراك والتز لرئيس تحرير مجلة ذي أتلانتك بالخطأ في نقاش سري، تمت فيه مناقشة تفاصيل الهجوم الأميركي ضد اليمن، هو غضبه من والتز بسبب ما وصفته الصحيفة “التنسيق المكثف” بين والتز وبنيامين نتنياهو بشأن قناعتهما بجدوى الخيار العسكري ضد إيران، وهو أمر كان والتز يحبذه في المداولات مع المسؤولين الأخرين، وهو موقف مغاير لمواقف ترامب وفانس، على الأقل في هذه المرحلة.
وكشفت واشنطن بوست أن ترامب علم أن مستشاره والتز كان قد التقى نتنياهو حين زار واشنطن في فبراير/شباط الماضي قبل أن يجتمع نتنياهو مع ترامب، وناقشا فيه الخيار العسكري ضد إيران. ونسبت الصحيفة إلى مسؤول في الإدارة قوله إن والتز “أراد أن يدير السياسة الأميركية في اتجاه لا يرتاح معه ترامب لأن الولايات المتحدة لم تجرب بعد الحل الديبلوماسي” وتابع المسؤول للصحيفة، “علم الرئيس ترامب بالأمر، ولم يكن سعيداً به”.
تردد ترامب وفانس في اللجوء إلى الخيار العسكري ضد إيران قبل استنزاف الحلول الديبلوماسية والسلمية يعكس رغبتهما بعدم التورط في “الحروب التي لا نهاية لها،” كما كان ترامب يصف حربي أفغانستان والعراق، ورغبتهما بتقليص الوجود الأميركي العسكري في الشرق الأوسط، ولكنه يعكس أيضاً تلك الشريحة “القومية” ذات الصوت العالي في قاعدته الشعبية، والتي ترفض علناً خيار الحرب مع إيران، وخاصة إذا كانت الحرب تخدم أهداف إسرائيل بالدرجة الاولى.
وتعتبر عضوة مجلس النواب الجمهورية المتصلبة مارجوري تايلور غرين أبرز من يمثل هذا التيار. وفي مداخلة أخيرة على منصة أكس (تويتر سابقاً) كتبت أنها قادت حملتها الانتخابية انطلاقاً من رفض الحروب الخارجية، وتابعت “والآن يفترض أن نكون على عتبة الذهاب إلى الحرب ضد إيران. أنا لا أعتقد أننا يجب أن نقصف دول أجنبية نيابة عن دول أجنبية أخرى، وخاصة إذا كان لديهم أسلحتهم النووية، وقوة عسكرية ضخمة،” وذلك في إشارة ضمنية إلى إمكانية قصف إيران نيابة عن إسرائيل.
وعكس المعلق اليميني المتطرف تاكر كارلسون، المقرب من ترامب، الموقف ذاته حين قال إن هذا هو أسوأ وقت يمكن فيه للولايات المتحدة التورط في حرب مع إيران، مشدداً على أن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل مثل هذه الحرب، التي ستكلفها آلاف الضحايا، وخلص إلى القول “والآن، نحن قريبون أكثر من أي وقت مضى للحرب، بفضل الضغوط المستمرة من المحافظين الجدد (مايك والتز أحدهم). هذا نهج انتحاري. وأي طرف يدعو إلى نزاع مع إيران ليس حليفاً للولايات المتحدة، بل عدواً لها”.
من يراقب الضغوط الاقتصادية الأميركية المباشرة وغير المباشرة على إيران، مثل مقاطعة شركات عاملة في دولة الإمارات العربية المتحدة وتركيا وإيران، تتهمها واشنطن ببيع النفط الإيراني، وغيرها من المواد البيتروكيمائية بشكل غير مشروع إلى دول مثل الصين، وتهديد الرئيس ترامب بفرض عقوبات ضد أي دولة اخرى تشتري النفط الإيراني، إلا أن هذا التلويح بالترهيب لا يلغي لهجة الترغيب التي يستخدمها كل من ترامب ونائبه فانس عندما يتحدثان عن رغبتهما برؤية إيران “العظيمة” “دولة ناجحة” تريد أن ترى واشنطن اندماجها في الاقتصاد العالمي إذا نبذت طموحاتها بالتسلح النووي.
خلال المفاوضات السرية والعلنية التي أدت إلى الاتفاق النووي، الموقع بين إيران والدول النووية الكبرى، ومنها الولايات المتحدة في 2015 (والذي انسحب منه ترامب في 2018)، رفض الرئيس الأسبق باراك أوباما، وفقاً لأحد كبار المفاوضين الأميركيين، بحث البرنامج الصاروخي الإيراني أو سلوك إيران التخريبي في العراق ولبنان وسوريا، بحجة أن ذلك سيدفع بالنظام الإسلامي إلى الانسحاب من المفاوضات النووية، وأصر أوباما على موقفه، على الرغم من تأكيدات بعض مستشاريه أن إيران، التي كانت مقاطعة دولياً، تعاني من نكسة اقتصادية ضخمة، ما يعني أن خيار الانسحاب من المفاوضات ليس عملياً جداً.
وليس واضحاً حتى الآن ما هي الشروط التي ستفرضها إدارة ترامب على البرنامج الصاروخي الإيراني، المتطور نسبياً، والذي تستفيد منه روسيا الآن في حربها ضد أوكرانيا. يقول المسؤولون الأميركيون إن احتواء نفوذ إيران في المنطقة أصبح أسهل نسبياً الآن بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وفي ضوء الضغوط المتزايدة على الميليشيات الموالية لإيران في العراق، وبعد النكسة العسكرية والسياسية التي مُني بها حزب الله في لبنان في الحرب مع إسرائيل.