الصدمة الكبيرة التي لحقت بالهيكل السياسي الأمريكي إثر انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة ستستمر تردداتها لزمن طويل. ولن تسلم نتيجة لذلك العلاقات الدولية والتحالفات المتشعبة التي تعتمد عليها أمريكا منذ عقود، وخاصة إذا أصر ترامب على تنفيذ بعضا من الوعود التي تعهد بها لأنصاره خلال حملته الانتخابية الطويلة مثل تهميش حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو التعاون العسكري والتنسيق السياسي مع روسيا في سوريا، أو داخليا إذا نفذ وعده بتقويض قانون الرعاية الصحية، الذي يعتبر أهم إنجاز للرئيس باراك أوباما.
مؤيدو المرشحة الديمقراطية المهزومة هيلاري كلينتون في الداخل – وربما بعضهم في الخارج- لا يزالون في مرحلة الحداد، ولكنهم سوف ينتقلون قريبا إلى مرحلة التساؤل حول ما جرى ولماذا، وكيف يمكن تفسير مثل هذه الهزيمة المفاجئة –حتى لبعض المسؤولين في حملة ترامب- خاصة وأن استطلاعات الرأي، والماكينة الديمقراطية القوية، والميزانية التي كانت متوفرة لكلينتون، وكمية المعلومات المتوفرة لدى حملتها عن الناخبين وتوجهاتهم، كلها أوصلت هيلاري كلينتون إلى عتبة البيت الأبيض صباح الثلاثاء، إلى أن منعها ترامب من الدخول اليه، مساء الثلاثاء وفجر يوم الأربعاء.
اختيار الأمريكيين لأول رئيس لم ينتخب لأي منصب قبل سن السبعين ولم يخدم في القوات المسلحة يمثل مقامرة جماعية من شريحة اجتماعية كبيرة غاضبة من “المؤسسة التقليدية” في واشنطن التي تضم قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وتشعر أنها مهمشة وليس لها الحصة التي تستحقها في الاقتصاد، وترغب بالتغيير، وقلب الأمور رأسا على عقب لمجرد نفض الوضع الراهن والآسن. وبرفعه شعار “علينا تجفيف المستنقع” في واشنطن بدا ترامب وكأنه يقود حركة تمرد لم يسلم منها الحزب الجمهوري نفسه. وما سمي “ظاهرة ترامب” هي في الواقع رفض شعبي غاضب ضد طبقة سياسية تعيش في كوكب بعيد اسمه واشنطن. وفقدت هذه النخب السياسية صلتها بالكثير من المواطنين وخاصة أولئك الذين يعيشون في الاف البلدات الصغيرة والأرياف الذين تحولوا في العقود الأخيرة إلى ضحايا للعوملة والاقتصاد الآلي والخدماتي ورحيل الصناعات الإنتاجية إلى ما وراء البحار.
دونالد ترامب الذي كان يصف نفسه بأنه ديمقراطي لعقود، ليس مدينا للحزب الجمهوري، كما يفترض أن يدين أي مرشح تقليدي، وهذا يعطيه دائرة أوسع يستطيع أن يتحرك داخلها متحررا من القيود التي تتحكم بأي رئيس منتخب آخر، وإن كان في نهاية المطاف يبقى مضطرا للتعاون مع حزبه والاعتماد على موارده البشرية التي يحتاجها لإدارة البلاد. والأمر اللافت وغير المعهود هو انه حقق إنجازه التاريخي مع مجموعة صغيرة من أنصاره. ولأن ترامب لا ينطلق من مبادئ ايديولوجية واضحة، ولأن معظم مواقفه التي أعلنها خلال الحملة الانتخابية، تتناقض وتختلف عن مواقف تبناها ترامب في السنوات الماضية أو حتى خلال الحملة الراهنة، من الصعب التكهن بكيفية تعامله مع التحديات الكثيرة التي سيواجهها داخليا وخارجيا، وإن كان من المتوقع أن تتضح الصورة بعض الشيء بعد تعيينه لأعضاء حكومته، وخاصة الوزارات الرئيسية، إضافة إلى رؤساء ومدراء الأجهزة الأمنية والمؤسسات المالية الأساسية، خلال الأسابيع العشرة التي تسبق قسم اليمين في العشرين من يناير/كانون الثاني المقبل.
المضاعفات الداخلية
صدمة انتخاب ترامب هزت الثقافة السياسية الأمريكية من جذورها، وبغض النظر عن سجله وانجازاته واخفاقاته في السنوات المقبلة، فإن مضاعفات “حقبة ترامب” سوف تبقى معنا لوقت طويل. وسوف يضطر الحزب الديمقراطي المهزوم (الجمهوريون سيسيطرون على البيت الأبيض وعلى مجلسي الكونغرس، كما أن أكثرية حكام البلاد من الجمهوريين وكذلك المجالس التشريعية في الولايات) بعد تضميد جراحه وانهاء حداده إلى طرح سلسلة من الأسئلة المؤلمة من نوع : كيف اخطأنا؟ ومن المسؤول؟ وكيف يمكننا إعادة بناء الحزب؟ وقبل البدء بهذه العملية النقدية، على الحزب أن يبحث عن قادة جدد، في مرحلة ما بعد حقبة كلينتون-أوباما التي استمرت لحوالي 30 سنة. وسوف نرى في الأيام والأسابيع المقبلة أصوات ديمقراطية متزايدة تعترف بأن هيلاري كلينتون، التي تمثل بأعين الكثير من الديمقراطيين المؤسسة التقليدية الحاكمة بكل مساوماتها وسريتها وميلها للدخول في صفقات قد لا تكون غير قانونية، ولكنها غير أخلاقية بالتأكيد، اضافة الى الجشع المالي النافر لهيلاري وبيل كلينتون، كانت أسوأ مرشح عن الحزب الديمقراطي يمكن أن يقدم للأمريكيين في هذه المرحلة التاريخية، وخاصة بعد بروز الموجة الشعبية الغاضبة التي حملت لأكثر من سنة مرشحين “شعبووين”: اليميني ترامب، والتقدمي ساندرز.
وحتى الحزب الجمهوري لن يفلت من المراجعة الذاتية، لان المعركة الانتخابية، وتحديدا مواقف واساليب وتصرفات ترامب ساهمت في خلق استقطابات وشروخات بين قياداته، وبين فئاته. وهذه الاستقطابات قد تزداد حدة والحاحا، اذا اصر ترامب على تنفيذ بعض طروحاته الداخلية ( مثل تخصيص مبالغ كبيرة لاعادة بناء وتطوير البنية التحتية، وهو أمر تعارضه تقليديا قيادات الحزب) او اذا قرر بالفعل اتخاذ اجراءات حماية تجارية قد تؤدي الى ردود فعل سلبية ومماثلة من الدول الاخرى تهدد اتفاقات التجارة الدولية، او اذا تجاهل ترامب التزامات الولايات المتحدة التاريخية تجاه حلفائها وخاصة في حلف شمال الاطلسي (الناتو) او الاتفاقات العسكرية مع دول آسيوية هامة مثل اليابان وكوريا الشمالية، او التزامات واشنطن تجاه اصدقائها في منطقة الخليج وشرق المتوسط.
وقد تؤدي “حقبة ترامب” إلى بروز تحالفات اجتماعية وسياسية جديدة في البلاد، نظرا لأن حملته اليمينية، وكذلك حملة المرشح الديمقراطي السيناتور بيرني ساندرز الذي نافس هيلاري كلينتون في الانتخابات الحزبية، عبأت تلك الشريحة الواسعة من الناخبين الناقمين على السياسيين التقليديين ومكنتها هذه المرة من تحقيق تغيير سياسي كبير. وهذه الشريحة من الناخبين الذين صوتوا لترامب أو لساندرز تلتقي حول رفضها لما تعتبره اتفاقيات تجارة دولية غير منصفة بحقها. ولن يستطيع الحزب الديمقراطي إعادة بناء نفسه إذا تجاهل هذه الشريحة من الناخبين كما فعلت كلينتون بعد حصولها على ترشيح حزبها. وعلى سبيل المثال فاز بيرني ساندرز بولايتي ميتشغان وويسكونسن خلال الانتخابات الحزبية ضد كلينتون، ولكن كلينتون خسرت الولايتين في الانتخابات العامة، ولم تجد ضرورة خلال الانتخابات العامة لزيارة ولاية ويسكونسن. أما بالنسبة للحزب الجمهوري، فان الشريحة المعتدلة فيه، قد تجد نفسها في حالة غربة، خاصة وأن اليمين المتشدد، وكذلك بعض التنظيمات الصغيرة والعنصرية تواصل احتفالاتها بانتصار ترامب، الأمر الذي قد يرغم هذه الفئة المحدودة أصلا على الانسحاب منه.
العالم في حقبة ترامب
مشاعر القلق وحتى الخوف التي عمت العواصم الصديقة والحليفة لواشنطن، وارتياح روسيا لانتخاب ترامب الذي تبادل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغزل العلني خلال السنة الماضية، سوف تستمر إلى أن تتأكد هذه العواصم من مواقف ترامب النهائية وخاصة في ما يتعلق بالاتفاقات العسكرية والاقتصادية. صحيح أن معظم مواقف ترامب غير ثابتة وانتهازية ومتقلبة وفقا للظروف، ولكن هناك استثناءات قليلة نجد فيها استمرارية مقلقة، وتحديدا مواقفه السلبية من حلف الناتو وأوروبا، ورفضه لاتفاقيات التجارة الحرة، أو التورط في النزاعات الخارجية، واعجابه بالقادة الاوتوقراطيين مثل فلاديمير بوتين، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وخلال حملته كرر ترامب هذه المواقف حتى بعد تعرضه للانتقادات. وكتب ترامب في كتابه “أميركا التي نستحقها” المنشور في 2000 أنه ليس لأمريكا ” أي مصالح حيوية في الاختيار بين الفئات المتقاتلة التي تعود احقادها لقرون…هذه النزاعات لا تستحق التضحية بأرواح أمريكية من أجلها. والانسحاب من أوروبا سوف يوفر لهذه البلاد مئات الملايين من الدولارات سنويا. وكلفة نشر قوات الناتو في أوروبا ضخمة جدا، ومن الواضح ان هذه الأموال يمكن أن تنفق بشكل أفضل”. وخلال الحملة شكك ترامب بجدوى الناتو والتحالفات مع اليابان وكوريا الجنوبية. ومطالبة ترامب بأن تدفع هذه الدول الحليفة المال للولايات المتحدة لحمايتها قوبل بالاستهجان، لأنه يوحي بأن هذه الدول هي محميات أمريكية، متناسيا أن حلف الناتو يضم دولا تربطها علاقات سياسية واقتصادية وثيقة أيضا، فضلا عن العلاقات العسكرية.
الدور الروسي الخطير في الانتخابات الأمريكية، وخاصة اختراق البريد الالكتروني للحزب الديمقراطي ولشخصيات أمريكية مثل وزير الخارجية الأسبق كولن باول وجون بوديستا رئيس حملة كلينتون، وتسليم آلاف الرسائل الالكترونية لمؤسسة ويكيليكس التي سلمتها بدورها لوسائل الإعلام الروسية والغربية لإحراج كلينتون وحزبها ومساعدة ترامب بشكل ضمني، أثارت استنكار الأمريكيين بمن فيهم قيادات جمهورية. وكانت أجهزة الاستخبارات الأمريكية قد اتهمت روسيا علنا بالقيام بمثل هذه الاختراقات. وصدم الأمريكيون عندما طالب ترامب روسيا علنا بانتهاك الحساب الالكتروني لهيلاري كلينتون والكشف عن رسائلها البريدية. دفاع ترامب عن بوتين، بما في ذلك تبرير بطش بوتين بالصحافيين الروس ، وقبوله الضمني باحتلال روسيا لشبه جزيرة القرم وتدخلها العسكري في شرق أوكرانيا أثار استهجان واستغراب العديد من الأمريكيين والأوروبيين.
وكان ترامب قد أثنى على روسيا لانها تستخدم طيرانها بالتعاون مع نظام بشار الأسد على حد قوله “لقتل داعش”. ومن هذا المنظور، من المتوقع أن يتخذ ترامب موقفا ايجابيا من التعاون والتنسيق العسكري مع روسيا، وعمليا مع نظام الأسد وإيران، ضد التنظيمات الاسلامية بمختلف اطيافها بما فيها تنظيمات لا تصنفها واشنطن بالارهابية. وعندما اقتربت ادارة الرئيس اوباما من إمكانية التعاون العسكري مع روسيا في سوريا قبل أشهر، كان من الواضح أن وزارة الدفاع وهيئة الأركان العسكرية المشتركة لم تكن مرتاحة لهذا الخيار. وأي تعاون أمريكي-روسي في سوريا سوف تكون له مضاعفات استراتيجية وسياسية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ومعظمها لن يكون إيجابيا. ولن يكون مستغربا أن يقوم ترامب بإيقاف المساعدات عسكرية أو التدريبية لقوى المعارضة السورية التي تعاونت بدرجات متفاوتة مع ادارة الرئيس اوباما. وهذا موقف سيرحب به بشار الأسد والذي يدرك أن ترامب لم يعبر ولو مرة واحدة عن تعاطفه مع معاناة المدنيين في سوريا، خاصة وأن معظمهم هم ضحايا عنف النظام السوري وعنف القصف الروسي.. وقبل انتخابه بأيام، كرر ترامب رفضه قبول لأي لاجئين من سوريا ” لأنهم سيجلبون اجيال من الإرهاب والتطرف الى مدارسنا ومدننا”.
من المتوقع عند تنصيب ترامب رئيسا للبلاد أن تكون القوات العراقية والأمريكية قد حررت مدينة الموصل، ولو جزئيا، من احتلال “داعش” الأمر الذي قد يغير من طبيعة العلاقة العسكرية الأمريكية-العراقية. وسوف يكون من المثير مراقبة تعامل ترامب مع الحكومة العراقية وهو الذي طالب علنا بالاستيلاء على النفط العراقي خلال حملته. ويمكن لأي تعاون أمريكي-روسي في سوريا أن ينعكس على تعامل ترامب مع تركيا وحتى مع العراق مع احتمال بروز تفاهم بين واشنطن وموسكو بشأن المنطقة بشكل عام بطريقة تعترف بمصالح تركيا في سوريا وإيران في العراق بمباركة ضمنية روسية-أمريكية.
وعلى الرغم من تعهدات ترامب بتمزيق الاتفاق النووي مع إيران، أو إعادة التفاوض بشأنه، ودعواته لمعاقبة إيران اقتصاديا، ليس من المتوقع أن يلغي ترامب الاتفاق، أولا لأنه اتفاق دولي يشمل الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا، كما أن انسحاب أمريكا منه سيؤدي إلى تأزيم العلاقات مع هذه الدول والسماح لإيران باستئناف برنامجها النووي بمختلف نواحيه. هذا عدا عن أن الاتفاق هو قيد التنفيذ بما فيه تفكيك البنية التحتية النووية في إيران، وتسليم واشنطن لقسم من العائدات المالية الإيرانية التي كانت مجمدة لديها لسنوات.
خلال حملته الانتخابية، تعهد ترامب – كما يفعل معظم المرشحين- بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، كما أوحى أحد مستشاريه للشؤون الإسرائيلية أن ترامب لن يمانع في تكثيف عمليات الاستيطان في الأراضي المحتلة. نقل السفارة إلى القدس سيواجه بمعارضة من بيروقراطية وزارة الخارجية الأمريكية، ولكن إذا تجاهل ترامب هذه المعارضة، فإنه سيجازف بخلق ردود فعل فلسطينية وعربية ودولية لا أحد يستطيع التنبؤ بنتائجها خاصة وأنه لا يستبعد أن تؤدي إلى أعمال عنف.
بعض المطلعين على المداولات التي تجري بين المسؤولين في حملة ترامب، يقولون إنه قد يسعى لتحسين علاقات بلاده مع الدول الرئيسية في المنطقة والتي تدهورت في السنوات الأخيرة مع ادارة الرئيس اوباما، مثل تركيا والسعودية ومصر وإسرائيل. صحيح أن هذه الدول تأمل بتحسين علاقاتها مع واشنطن، ولكن إذا تصرف الرئيس الأمريكي الجديد بطريقة تختلف جذريا عن سلوك الحكومات الأمريكية السابقة، مثل التغاضي عن نمو النفوذ الروسي والإيراني في شرق المتوسط ومنطقة الخليج، فإن الآمال التي يعلقها البعض على بدايات جديدة وايجابية للعلاقات مع الولايات المتحدة سوف تتبخر بسرعة، وسوف تتسم حقبة ترامب بالتوتر وانعدام اليقين مع ما يحمله ذلك من مضاعفات سلبية للغاية على المنطقة وعلى مصالح الولايات المتحدة فيها.