الأسابيع الأربعة الأخيرة في الولايات المتحدة، تذكرنا بالقول الشهير المنسوب لفلاديمير لينين، مؤسس الاتحاد السوفياتي، “أحيانا تمر عقود لا يحدث فيها شيء، وأحيانا تمر أسابيع تحدث فيها عقود”. بين نهاية شهر يونيو/حزيران ونهاية شهر يوليو/تموز انسحب الرئيس جوزيف بايدن من السباق الرئاسي بعد حملة ضغوط ضمنية وعلنية من قادة الحزب الديموقراطي بعد أدائه الكارثي في المناظرة ضد منافسه الرئيس السابق دونالد ترامب. وعلى مدى الأسابيع الأربعة انخرط الديموقراطيون في عملية مراجعة ذاتية ونقد داخلي مؤلمة، أبرزت عمق الخلافات بين أجنحة الحزب المختلفة والمقاومة القوية التي أبداها الرئيس بايدن في البداية ضد نقل الشعلة من جيله المسنّ (الذي يضم قادة مثل السناتور تشاك شومر ورئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي) إلى الجيل الذي يصغره، والذي تمثله نائبته كامالا هاريس.
في 21 يوليو/تموز وخلال نقاهته من فيروس كوفيد، أخذ بايدن خطوة تاريخية، وأعلن انسحابه من السباق من أجل ولاية رئاسية ثانية، وأعلن دعمه لترشيح كامالا هاريس، وأصبح بذلك الرئيس الأميركي الثاني في التاريخ المعاصر، بعد الرئيس ليندون جونسون في 1968، الذي ينسحب من سباق رئاسي من أجل ولاية ثانية. انسحاب بايدن أحدث زلزالاً عميقا داخل الحزب الديموقراطي، وغيّر الخارطة الانتخابية بشكل جذري، ووضع حملة منافسه ترامب في موقع دفاعي، وأرغم الحزب الجمهوري على إعادة النظر بالعمق في استراتيجيته الانتخابية، التي بنت نشاطاتها ودعاياتها وطروحاتها على بقاء جوزيف بايدن المسنّ والضعيف جسدياً والبطيء ذهنياً في السباق حتى نهايته في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. والأهم من كل هذه العوامل، إن انسحاب بايدن أعطى كامالا هاريس وحملتها ذلك العامل الانتخابي الجوهري التي كانت تفتقده حملة بايدن، والذي لا تقيسه عادة استطلاعات الرأي، والذي لا يمكن في غيابه الفوز بالانتخابات: الحماس. قد تكون القاعدة الانتخابية لترامب ضيقة نسبيا، ولكن ما تفتقده بالأرقام، تعوّض عنه بالحماس والحيوية. وأي مقارنة بين النشاطات الانتخابية لترامب، والنشاطات الانتخابية السابقة لجوزيف بايدن كانت تظهر هذا العجز في نشاطات بايدن بشكل محرج. حتى أنصار بايدن كانوا يسلمّون بالتصويت لبايدن كضرورة سياسية وكواجب انتخابي، ولكن دون حيوية ودون حماس. لقد كان الحماس لمرشح الحزب هو العامل الأساسي الذي أوصل رؤساء أميركيين مختلفين شخصياً وسياسياً إلى البيت الأبيض، مثل جون إف كينيدي ورونالد ريغان وباراك أوباما.
خلال حملة الضغوط على الرئيس بايدن للانسحاب من السباق، كان منافسه ترامب يكثف من نشاطاته الانتخابية تمهيداً للمؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في مدينة ميلووكي، بولاية ويسكونسن الذي سيرشحه رسمياً للسباق الرئاسي. وخلال يوم صيفي جميل في 13 يوليو/تموز في بلدة باتلر الصغيرة بولاية بنسلفانيا، تعرض ترامب، خلال الدقائق الأولى لخطابه لمحاولة اغتيال قام بها شاب في العشرين من عمره، أطلق بضع رصاصات من بندقيته أصابت احداها أذن ترامب اليمني إصابة طفيفة للغاية. رصاصات المسلح، الذي قتلته عناصر الشرطة السرية بسرعة، أدت إلى قتل مواطن جاء مع عائلته لحضور كلمة ترامب وجرحت أثنين. خلال الثواني القليلة التي عقبت إصابة ترامب، أدرك الرئيس السابق بتاريخه القديم كمنتج للبرامج التلفزيونية الترفيهية، الأهمية السياسية والاعلامية لمحاولة الاغتيال، وبدأ خلال قيام رجال الشرطة بمساعدته على الوقوف على قدميه برفع قبضته عاليا، بعد أن غطى وجهه خطين رفيعين من الدم، وهو يهتف لأنصاره ” قاتلوا، قاتلو، قاتلوا”، وقام المصورون بالتقاط ما اعتبره أنصار ترامب ومراقبون كثر “صورة أيقونية” بدا فيها ترامب الذي يتحدى الموت، وهو يعبئ أنصاره تحت علم أميركي ضخم. لاحقاً، أدعى ترامب وأنصاره أن “العناية الالهية” هي التي أنقذته من الموت، وقارنوا صوره وهتافاته، بصور منافسه بايدن الوجوم والضعيف.
وعلى مدى أسبوع كامل بعد محاولة الاغتيال، نظم الجهوريون مؤتمرهم الوطني، وحولوه إلى مهرجان فولكلوري ملّون، احتفلوا فيه بنجاة مرشحهم من الموت، حيث سرت في أوساطهم مشاعر حتمية الانتصار في الانتخابات. خلال المؤتمر أعلن ترامب عن اختيار السناتور عن ولاية أوهايو جي دي فانس نائباً له، وكان بذلك يختار الرئيس المقبل للحركة السياسية التي يمثلها ترامب، والتي تخطت بحجمها وطموحاتها الحزب الجمهوري التقليدي.
وفي اليوم الثالث للمؤتمر الوطني، استمع الجمهوريون في ميلووكي، ومعهم الملايين في جميع أنحاء البلاد إلى السناتور الشاب وهو يسرد سيرته الشخصية الجذابة، ومسيرته الطويلة من طفولته الفقيرة للغاية في عائلة مفككة، تحت إشراف جدته ذات الشخصية القوية، التي ضغطت عليه لإكمال تحصيله العلمي، ومقاومة وباء المخدرات والكحول الذي أصاب العديد من أصدقائه، ما أدى إلى التحاقه بمشاة البحرية، والخدمة لفترة وجيزة في العراق. بعد عودته إلى الولايات المتحدة، وبفضل المساعدة المالية التي تقدم لأي عسكري سابق يسعى لإكمال تعليمه، التحق فانس بجامعة ييل المرموقة ليتخرج منها بشهادة الحقوق. بعد تخرجه، نشر فانس كتاباً عن طفولته وصباه، لقي ترحيباً واسعاً من النقاد والجمهور، أوصله إلى صفحات صحيفة وال ستريت جورنال واستوديوهات شبكة التلفزيون سي إن إن كمعلق سياسي.
بعد أقل من يومين من انسحاب الرئيس بايدن من السباق الرئاسي، التفت القوى المختلفة التي تنشط تحت الخيمة الكبيرة للحزب الديموقراطي حول نائبته كامالا هاريس، وصاحب ذلك تدفق أكثر من مئة مليون دولار من التبرعات المالية التي جاء معظمها من مواطنين عاديين، خلال أول 24 ساعة بعد انسحاب بايدن. وخلال الأسبوع الأول، ارتفعت التبرعات إلى مئتي مليون، والتحاق 170 ألف متطوع بالحملة الانتخابية، التي أصبحت حملة هاريس، في مؤشر على ترحيب القاعدة الديموقراطية بهذه التغييرات العميقة والسريعة. ومع استئناف كامالا هاريس لنشاطاتها الانتخابية، أعربت أكثرية من المندوبين الديموقراطيين الذين تم انتخابهم خلال الانتخابات الحزبية عن تأييد هاريس، وضمان حصولها على ترشيح الحزب قبل أسابيع من بدء المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي في مدينة شيكاغو في منتصف الشهر الحالي. وكان من اللافت أن هاريس لم تواجه أي تحد من داخل الحزب، لا بل سارع أقطاب الحزب، وخاصة بعض حكام الولايات المعروفون بطموحاتهم الرئاسية، إلى وضع ثقلهم الانتخابي وراء هاريس، وبرزت بعض أسماء هؤلاء كمرشحين محتملين لمنصب نائب هاريس، حيث ستختار أحدهم في نهاية الأسبوع الأول من الشهر الجاري. ومن المتوقع أن تختار هاريس نائباً لها يمكن أن يساعدها على الفوز بالولايات المحورية التي أوصلت جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض، وأبرزها بنسلفانيا وويسكونسن وميتشغان وأريزونا. اختيار نائب الرئيس سوف يكون أهم قرار تتخذه هاريس قبل المؤتمر.
قبل انسحاب بايدن من السباق، كان ترامب متفوقاً عليه في معظم استطلاعات الرأي، وخاصة في الولايات المحورية. ولكن مشاعر الحماس والحيوية التي سرت في أوساط الديموقراطيين في أعقاب بروز هاريس كمرشحة الحزب الديموقراطي، والخطب القوية التي ألقتها أمام آلاف الديموقراطيين في عدد من الولايات ساهمت في تعبئة القاعدة الديموقراطية وحلفائها من الأقليات الأخرى، ويفترض أن تجلب إليها بعض الناخبين المستقلين، وخاصة من النساء والشباب أو حتى الناخبين المحافظين والجمهوريين الذين يرفضون التصويت لترامب. بروز هاريس كمرشحة الحزب الديموقراطي حرم الرئيس السابق ترامب من خصمه المفضل والسهل برأيه، أي الرئيس بايدن، الذي نجح ترامب في رسم صورة كاريكاتورية له خلال الأشهر الماضية. ترامب المحبط شكى قبل أيام من أنه مضطر الآن لأن يبدأ حملته من جديد.
ووضعت هاريس الرئيس السابق في موقع دفاعي ومحرج بعد أن أعرب عن تردده في مواجهتها في مناظرة قبل الانتخابات، حين تحدته علناً في مهرجان انتخابي على أن يتجرأ على انتقادها وجها لوجه. وكعادته رد ترامب بإهانة هاريس ووصفها بالمجنونة، وبهاريس الضحوك. وقبل أيام، لجأ ترامب، كما توقع العديد من المراقبين، إلى استخدام لون وأثنية هاريس ضدها كما فعل حين شكك بهوية الرئيس الأسبق باراك أوباما. وخلال مثوله أمام منظمة تضم الصحفيين من أصل إفريقي، شكك ترامب بأصل هاريس الإفريقي، وادعى أنها كانت تصف نفسها بأنها هندية الأصل (والدتها مهاجرة من الهند ووالدها مهاجر أسود من جامايكا)، وحاول ترامب إعادة كتابة التاريخ حين ادعى أن هاريس قررت “التحول” إلى امرأة سوداء، “بينما عرفتها في السابق كامرأة هندية”. سلوك ترامب هذا أكد مخاوف المراقبين من أن المواجهة بين المرشحين سوف تكون شرسة حتى بالمقاييس المتردية لحملات ترامب، لأن خسارة ترامب لهذه المعركة الانتخابية قد توصله إلى زنزانة في مكان ما في البلاد، نظراً لعشرات التهم الجنائية والمدنية التي لا يزال يواجهها.
وبينما كانت هاريس تقود حملتها ضد الثنائي ترامب-فانس، وجد نائب ترامب السناتور فانس نفسه يواجه تاريخه المتعصب والمتشدد. فقد تم الكشف عن تصريحات تلفزيونية وإذاعية لفانس هاجم فيها قيادات الحزب الديموقراطي وقادة بعض الشركات الأميركية الكبيرة، وقال إنهم يساهمون في انهيار المجتمع الأميركي لأنهم “لا ينجبون الاطفال”. ووصف هؤلاء بأنهم يفضلون اقتناء القطط على إنجاب الأطفال. وادعى أن الحزب الديموقراطي هو ضد العائلات والأطفال. ووضعت هذه المواقف المتطرفة جي دي فانس في موقع دفاعي، وأدت إلى تسريبات من مشرعين جمهوريين دعوا فيها ترامب إلى التخلص من “خليفته” المفترض فانس.
وخلال الأسبوع الأخير من يوليو/تموز، زار رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو واشنطن، ليّذكر الطبقة السياسية بحزبيها بأنها متورطة في حروب إسرائيل ضد أعدائها في الشرق الأوسط. سعى نتنياهو لتعبئة الحزب الجمهوري بالتحديد (رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون هو الذي دعا نتنياهو لمخاطبة مجلسي الكونغرس) وراء موقفه المتصلب من دعوات وقف إطلاق النار، والتعجيل بعملية تبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، والبدء بمعالجة المأساة الإنسانية الهائلة المتمثلة بأكثر من مليوني فلسطيني مقتلع في قطاع غزة. التقى نتنياهو بالرئيس بايدن وكامالا هاريس في اجتماعين منفردين.
وكان من اللافت أن هاريس، وليس الرئيس بايدن، هي التي تحدثت علناً بعد الاجتماعات مع نتنياهو، وهي التي دعت بإلحاح إلى معالجة المأساة الإنسانية المدنية في غزة، في مؤشر على مدى وعمق التغييرات التي شهدتها واشنطن في الأسابيع القليلة الماضية. وبعد أن انتقدت هاريس حركة حماس، وقالت إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ضد إيران والميليشيات التي تدعمها مثل حزب الله وحماس، أضافت “وكيفية فعلها لذلك يعتبر أمراً هاماً”.
وأكدت أنها عبّرت لنتنياهو عن “قلقها العميق، بشأن حجم المعاناة الإنسانية في غزة، بما في ذلك سقوط عدد كبير للغاية من الضحايا المدنيين، وأوضحت قلقي العميق إزاء الوضع الإنساني المتردي هناك، بوجود أكثر من مليوني شخص يعانون مستوى مرتفعاً من انعدام الأمن الغذائي، ونصف مليون يعانون مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي الحاد”. وشددت هاريس على أن “ما حدث في غزة خلال التسعة أشهر الماضية هو أمر وخيم،” وتحدثت عن “الصور التي تُظهر الأطفال القتلى، والأشخاص اليائسين الجائعين الذين يهربون بحثاً عن الأمان، وأحيانا ينزحون للمرة الثانية والثالثة أو الرابعة، لا يمكننا أن نلتفت بعيداً عن هذه المآسي، ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا أن نشعر بالعجز أمام هذه المعاناة، وأنا لن أصمت”. لاحقاً، أعرب مسؤولون في الوفد المرافق لنتنياهو عن استيائهم لانتقادات هاريس في تسريبات لبعض وسائل الاعلام.
ومن المتوقع خلال الأشهر المقبلة أن تحاول هاريس خلق مسافة بينها وبين مواقف بايدن منذ بدء الاجتياح الإسرائيلي لغزة، الأمر الذي سيساعدها على استعادة قسم من الناخبين الديموقراطيين من الشباب والطلاب والناخبين من أصل إفريقي والأميركيين من أصل عربي، الذين رفضوا التصويت لبايدن في الانتخابات الحزبية بسبب دعمه شبه المطلق لإسرائيل في بداية الحرب، ما يمكن أن يعزز من فرص فوزها بولايات محورية مثل ميتشغان وبنسلفانيا وويسكونسن.
قرار نتنياهو وحكومته اغتيال القيادي المدني البارز في حماس إسماعيل هنية في قلب العاصمة الإيرانية طهران، واغتيال القيادي العسكري في حزب الله في بيروت فؤاد شكر خلال 24 ساعة، يجب وضعه في سياق زيارته لواشنطن، على الرغم من أن الحكومة الأميركية أكدت أنها لم تكن تعلم مسبقاً بهذه الاغتيالات، ولا يوجد هناك ما يؤكد العكس. ولكن هذه الاغتيالات سوف تؤدي على الأرجح إلى سلسلة من التطورات العسكرية والسياسية الكبيرة والمتلاحقة والتي ستبدو حين التعمق فيها وكأنها تنتمي إلى سنوات وعقود، وإن كانت مرصوصة في أسابيع.
التطورات السريعة والعميقة التي شهدتها الولايات المتحدة، ومعها أيضا منطقة الشرق الأوسط في الأسابيع القليلة الماضية وامتدادا إلى الاسابيع القليلة المقبلة، هي من ذلك النوع من التطورات التي تحدث في مراحل وأسابيع مفصلية، تترك آثارها لوقت بعيد المدى، وتلخص تطورات تحدث عادة خلال عقود من الزمن.