ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
يعتبر إعلان رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي بدء الإجراءات السياسية والقانونية للتحضير لمحاكمة الرئيس ترامب، بسبب ضغوطه على أوكرانيا لارغامها على مساعدته في الانتخابات الرئاسية المقبلة، في انتهاك واضح للقوانين الأمريكية، نقطة مفصلية تهدد بجعل الرئيس ترامب الذي يعيش منذ دخوله إلى البيت الأبيض تحت سيف المحاكمة، الرئيس الثالث الذي يحاكمه مجلس النواب بعد أندرو جونسون في منتصف ستينات القرن التاسع عشر، والرئيس بيل كلينتون في منتصف تسعينات القرن الماضي. الدستور الأمريكي يناط بمجلس النواب الادعاء ضد الرئيس لارتكابه جرائم تتمحور دائما حول إساءة استخدام صلاحياته الشرعية، وفي حال وافقت أكثرية مجلس النواب على اعتباره مذنبا، يتم رفع القضية إلى مجلس الشيوخ الذي يصوت أما على عزل الرئيس من منصبه بأكثرية الثلثين، أو على بقائه في منصبه. وخلال الأسبوعين الماضيين، اكتشف الأمريكيون عبر سلسلة من التحقيقات الصحفية الاستقصائية، والتسريبات والايجازات الخلفية وجود شكوى من تسعة صفحات وضعها محلل في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إي) وأرادها أن تكون بمثابة التبليغ السري whistle-blower لفضح انتهاكات للدستور، ارتكبها الرئيس ترامب، وتمت التغطية عليها.
السيف المعلق فوق رأس ترامب
وتركزت الشكوى على مضمون مكالمة هاتفية أجراها ترامب مع الرئيس الأوكراني الجديد فلودومير زيلينسكي ضغط عليه خلالها لإجراء تحقيقات حول ” فساد” منافسه الديمقراطي جوزف بايدن، ونجله هنتر، الذي كان عضوا في إدارة شركة أوكرانية للطاقة. وتشير الشكوى إلى أن ترامب كان قد جمّد تسليم معدات عسكرية دفاعية لأوكرانيا، كوسيلة ضغط لإقناع زيلينسكي قبول طلبه التحقيق بعائلة بايدن بأمل الحصول على معلومات محرجة أو قذرة عن عائلة بايدن ليستغلها انتخابيا. خلال ولاية الرئيس أوباما، قام نائبه جون بايدن بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بمطالبة الحكومة الأوكرانية بالتخلص من المحقق العام الذي أخفق في مكافحة الفساد في البلاد، حيث كان ذلك من بين الشروط التي وضعتها الدول الغربية لمساعدة أوكرانيا. ولاحقا قال مسؤولون قضائيون في أوكرانيا أنه لا توجد هناك أي دلائل حول ممارسات فاسدة لنائب الرئيس الأمريكي أو نجله، كما أن الصحف الأمريكية التي حققت بالأمر لم تجد أي أساس لاتهامات الرئيس ترامب.
وقالت بيلوسي إن إجراءات ترامب تبين أنه “ارتكب انتهاكات خطيرة للدستور..ويجب محاسبته لأنه لا يوجد هناك أحد فوق القانون”. واعتبرت أن سلوك ترامب يرقى إلى مستوى “خيانة قسم اليمين، و خيانة لمصلحة الأمن القومي، وخيانة لنزاهة انتخاباتنا”. وعقب إعلان بيلوسي ارتفع عدد النواب الديمقراطيين المؤيدين لمحاكمة ترامب من 188 عضوا إلى 225 عضوا خلال 48 ساعة. وتتطلب محاكمة الرئيس 218 عضوا. وتبين مختلف المؤشرات أن السيف المعلق فوق رأس ترامب منذ بداية ولايته، سوف يسقط عليه، ربما قبل نهاية السنة الحالية.
خلال فترة الانتظار الطويلة لتقرير المحقق روبرت مولر الذي حقق لأكثر من سنة ونصف بالتدخل الروسي في الانتخابات ووجد أدلة عديدة على هذا التدخل وعلى تعاون حملة ترامب مع الروس وإن لم يرق هذا التعاون إلى مستوى “المؤامرة” كانت نانسي بيلوسي غير متحمسة لمحاكمة ترامب خشية من أن يؤدي ذلك إلى نتائج عكسية في الانتخابات المقبلة. ولكن فضيحة الضغوط على أوكرانيا غيرّت المعادلة، حيث من المتوقع أن تشمل الدعوى ضد ترامب بندا واحدا أو أثنين حول انتهاكاته للدستور في تعامله مع أوكرانيا. الديمقراطيون يرون أن هذه مسألة يمكن للشعب الأمريكي أن يستوعبها ويفهمها، بعكس تقرير مالر الذي زاد عن 400 صفحة.
وبدأ عالم الرئيس ترامب بالتضعضع بعد أن اضطر، نتيجة لضغوط الجمهوريين عليه إلى نزع السرية عن نص المكالمة مع الرئيس زيلينسكي. وهذا بدوره اقنع الرئيس المؤقت لجهاز الاستخبارات الوطني جوزف مغواير لنزع السرية عن شكوى الموظف الاستخباراتي المكتوبة بدقة ومهنية عالية عكست القدرة التحليلية لكاتبها. ردود الفعل على الوثيقتين، بمعظمها كانت سلبية للرئيس ولانصاره. ردود الفعل في البيت الأبيض على الانتقادات وارتفاع أصوات المطالبين بالمحاكمة تراوحت بين النكران، وهذا هو وطن الرئيس ترامب، وفقا لمصادر مسؤولة، وبين من دعا إلى تشكيل فريق رد سريع على الاتهامات التي ستتفاقم مع اقتراب الانتخابات. ولجأ ترامب إلى أسلوب الهجوم الشرس كأسلوب الدفاع الوحيد الذي يجيده، وشكك بصدقية موظف السي آي إي، كما هاجم آدم شيف رئيس لجنة الاستخبارات.
حالة فوضى
وتبدو حالة الفوضى الموجودة في البيت الأبيض، نتيجة حتمية لشخصية وأسلوب عمل الرئيس ترامب الذي لا يثق بمعظم الذين يعملون معه، في حال تناقض واضح مع البيت الأبيض الذي عاش فيه ثاني رئيس أمريكي حاكمه مجلس النواب: بيل كلينتون. فقد اتسمت ردود فعل البيت الأبيض قبل وخلال محاكمة كلينتون بدرجة عالية من الانضباط والتحدث بصوت موحد. وعلى الرغم من أن محاكمة ترامب لم تكن مفاجئة، الا أن موظفي البيت الأبيض لم يحضروا أنفسهم قبل الاسبوع الماضي للمعارك القانونية والمكلفة للغاية، التي تنتظرهم.
سياسيا، لم يطور البيت الأبيض أي استراتيجية للتصدي لمحاكمة ترامب، باستثناء الهجمات السريعة ضد الخصوم في مؤشر خاص بأن ترامب لا يزال يعيش في وطن النكران، أو غير قادر على استيعاب حقيقة أنها المرة الأولى منذ انتخابه لا يبدو فيها قادرا على احتكار الاهتمام الإعلامي لصالحه. وفي الايام التي تلت قرار بيلوسي، نشرت الصحف الاميركية تحقيقات تضمنت معلومات محرجة لترامب بعضها سربه مسؤولون سابقون بارزون ولكنهم أما استقالوا أو اقيلوا، ويبدو أنهم يعتقدون أن الوقت قد حان لاحراج الرئيس وربما المساهمة في عزله. من بين المعلومات المحرجة ما قاله ترامب لوزير خارجية روسيا سيرغي لافروف وسفير موسكو السابق في واشنطن سيرغي كيسلياك خلال زيارتهما لترامب في 2017، من أنه غير مهتم بتدخل موسكو في الانتخابات الأمريكية في 2016 ، لأن الولايات المتحدة تفعل الشيء ذاته في دول أخرى. هذا الموقف، نقلا عن صحيفة واشنطن بوست، الذي يبرر انتهاكات روسيا، أقلق المسؤولين في البيت الأبيض ودفعهم لتقليص عدد المسؤولين الذين يحق لهم الاطلاع على محضر لقاء ترامب مع المسؤولين الروس. وكشفت صحيفة نيويورك تايمز من أن البيت الأبيض يضع محاضر المكالمات الهاتفية بين الرئيس ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وكذلك اتصالات ترامب مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد محمد بن سلمان في نظام إلكتروني سري للغاية . ويوم الجمعة أدت فضيحة أوكرانيا إلى سقوط أول ضحية لها، عندما أعلن كيرت فولكر مبعوث وزارة الخارجية إلى أوكرانيا عن استقالته من منصبه بعد أن انتقده رودي جولياني محامي ترامب علنا. وسوف يمثل فولكر الأسبوع المقبل أمام لجان مجلس النواب التي تحضر لمحاكمة ترامب. وشهد يوم الجمعة تطورات سريعة عكست إصرار المشرعين الديمقراطيين على التعجيل باجراءات التحضير لمحاكمة ترامب، كما عكست حالة الحصار التي يعيشها البيت الأبيض على خلفية بروز خلافات علنية بين وزير الخارجية مايك بومبيو والمحامي الشخصي للرئيس ترامب، رودي جولياني الذي يدعي أن نشاطاته في أوكرانيا كانت بطلب من وزارة الخارجية.
ترامب محاصر
هذه الادعاءات دفعت برئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب آدام شيف إلى استدعاء الوزير بومبيو للمثول أمام لجنته وتسليمها مجموعة من الوثائق المتعلقة بدور الخارجية إضافة إلى تسهيل مثول شهود آخرين من الخارجية أمام لجنته. وكشف آدام شيف أن المفتش العام لأجهزة الاستخبارات مايكل أتكنسون سيمثل أمام لجنته في جلسة مغلقة يوم الجمعة المقبل، لمناقشة تقييمه لشكوى موظف الاستخبارات ضد الرئيس ترامب. وجاء في تقارير صحفية أن الوزير بومبيو قد انزعج من ادعاءات جولياني بأنه يعمل وفق توجيهات من وزارة الخارجية، ورد جولياني على هذه التقارير بالقول ” إذا كان الوزير غير سعيد بما قمت به، فأنا بصراحة لا يهمني الأمر، لأنني محامي الرئيس..” وكشفت الشكوى ضد الرئيس ترامب أن جولياني قد لعب دورا كبيرا في الضغوط على أوكرانيا، على الرغم من أنه ليس مسؤولا أمريكيا رسميا ولا يتمتع بالصلاحيات للاطلاع على المعلومات السرية، وأنه المحامي الشخصي لترامب، وليس محامي البيت الأبيض.
ولوحظ خلال شهادة المدير المؤقت لجهاز الاستخبارات الوطني جوزف مغواير أمام لجنة الاستخبارات أن الأعضاء الجمهوريين أعربوا عن تحفظاتهم وانتقاداتهم لجلسة الاستماع، ولكنهم لم يدافعوا عن ترامب وعن طلبه من الرئيس الأوكراني تقديم خدمات شخصية لترامب ضد خصومه السياسيين. وفي تطور لافت أعلن حاكم ولاية فيرمونت الجمهوري فيليب سكوت أنه لم يستغرب ما طلبه ترامب من نظيره الاوكراني، واعرب عن تأييده للتحقيقات التي يقوم بها مجلس النواب، وهو موقف يجب أن يتطور وفقا للحقائق. وقال حاكم ولاية ماساتشوستس الجمهوري تشارلي بيكر أن المعلومات التي رشحت عن الشكوى ضد ترامب “مقلقة للغاية” وأيد حق الكونغرس التحقيق بسلوك ترامب إلى نهاية المطاف. ويوم الجمعة أعلن النائب مارك أموداي الذي يمثل مقاطعة في ولاية نيفادا تأييده الإجراءات التحضيرية لمحاكمة ترامب، وأصبح بذلك أول نائب جمهوري يؤيد تحقيقات مجلس النواب. ولا يزال السيناتور مت رومني أبرز مشرع جمهوري في مجلس الشيوخ، الذي انتقد سلوك ترامب في أكثر من مناسبة من بينها تعامله مع أوكرانيا.
ما يمكن قوله بثقة عالية هو أن محاكمة ترامب أصبحت بعد قرار بيلوسي، مسألة وقت إلى حد بعيد. صحيح أن بيلوسي تريد التعجيل بالتحقيقات وحسم مسألة محاكمة ترامب قبل بدء الانتخابات الحزبية في شباط المقبل، إلا أن حساباتها قد لا تتحقق لأكثر من سبب من بينها احتمال لجوء الجمهوريين إلى المحاكم لتحدي طلبات واستدعاءات قادة اللجان الديمقراطيين في مجلس النواب. وهذا يعني أن شبح محاكمة ترامب سوف يخيم بظلاله الثقيلة على قدرة البيت الأبيض على إدارة السياسة الخارجية مع تفاقم التحديات الداخلية. الذين راقبوا ترامب في الأمم المتحدة، وخاصة خطابه أمام الجمعية العامة، والذي ألقاه قبل بضعة ساعات من إعلان بيلوسي عن محاكمته، وكيف بدا ترامب وكأنه يقرأ خطابه بشكل آلي ودون أي حرارة. ترامب محاصر، وغياب بعض المستشارين البارزين من أصحاب الشخصيات القوية مثل الجنرال إتش آر ماكماستر ووزير الدفاع السابق جيمس ماتيس وغيرهما عن ادارته يعني أن ميله الاجراءات الاحادية الجانب والمجازفة وقد يدفعه إلى اتخاذ مواقف متهورة سوف تبقى تداعياتها واهتزازاتها معنا لوقت طويل.