الدعم المدوّي وغير المشروط الذي قدمه الرئيس جوزيف بايدن وإدارته لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ولهجومه الشامل والمدمر لقطاع غزة، فور الهجوم الذي شنته حركة حماس ضد جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر/كانون الأول الماضي، عاد ليرتد عليه – بعد اقتراب عدد الخسائر الفلسطينية الناجمة عن القصف الإسرائيلي “العشوائي” (هذه الكلمة استخدمها بايدن قبل أيام) إلى حوالي 20 Bلف قتيل، معظمهم من الأطفال والمدنيين – في شكل انتقادات لاذعة موجهة للرئيس الأميركي وحكومته من أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا والعالمين العربي والإسلامي، ومن داخل الكونغرس، وتحديدًا من المشرعين الديموقراطيين، وحتى من داخل إدارة بايدن نفسه. هذه الانتقادات تأتي مصحوبة بالمطالبة بوقف إطلاق نار شامل وفوري، قبل أن يؤدي انتشار الأوبئة في صفوف أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ في جنوب القطاع دون مأوى في البرد القارس، وغياب الأدوية والأغذية إلى مأساة إنسانية مرّوعة حتى بمقاييس المعاناة التاريخية للشعب الفلسطيني.
إصرار القادة الإسرائيليين، مدنيين وعسكريين، على مواصلة حربهم ضد الفلسطينيين في غزة تحت ذريعة القضاء على حركة حماس، الأمر الذي أدى إلى تحويل شمال غزة إلى أرض يباب، قبل انتقال الدبابات والجرافات الإسرائيلية إلى خان يونس وغيرها من البلدات في جنوب القطاع، وخلق العقبات أمام ايصال الإمدادات الطبية والغذائية وغيرها من المواد الحيوية، وكذلك مواصلة استهداف المدنيين، كلها تطورات أثبتت الأخطاء والمسلمات الواهية التي ارتكبها أو استند إليها بايدن منذ اللحظات الأولى التي عقبت المواجهة العسكرية، وهي أن عناقه الفعلي والرمزي لنتنياهو حين زار إسرائيل سوف يعطيه احتياط كبير من مشاعر الامتنان والتقدير التي ستسمح له لاحقًا بمطالبة نتنياهو بتفادي الخسائر المدنية، والسماح بدخول الامدادات الإنسانية إلى سكان القطاع، أو طرح “أفق سياسي” لمرحلة ما بعد الحرب.
بعد أكثر من 70 يومًا من الحرب، لا يزال نتنياهو يواصل قصفه العشوائي، ولا يزال يرفض الإجابة على الأسئلة الملحة التي يطرحها عليه المسؤولون الأميركيون الذين يزورونه دورياً، مثل وزيري الدفاع لويد أوستن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جايك ساليفان، مثل من سيدير شؤون غزة بعد الحرب؟ كما يواصل رفضه وضع غزة بعد وقف القتال تحت أي سلطة فلسطينية، وغيرها من الأسئلة التي لا تزال تبحث عن أجوبتها الضائعة.
في الأيام والأسابيع الماضية، وضعت الحرب الرئيس بايدن في موقع حرج، حيث بدت مواقفه وقراراته متناقضة، وتُظهر إما تردده في مواجهة نتنياهو أو عدم جديته. خلال لقاء مغلق مع المتبرعين الماليين لحملته الانتخابية، أعرب بايدن عن احباطه تجاه نتنياهو، وقال إن إسرائيل بدأت تخسر الدعم العالمي بسبب قصفها “العشوائي” لغزة. وأشار بايدن إلى وزير الأمن القومي الإسرائيلي اليميني المتشدد ايتمار بين غفير، وقال إن الحكومة الإسرائيلية الحالية هي “الاكثر محافظة” في تاريخ إسرائيل (في السابق وصف هذه الحكومة بأنها الأكثر تطرفًا). ورأى بايدن أنه على نتنياهو أن “يتغير”، وانتقد رفض إسرائيل لحل الدولتين، وتابع، إن نتنياهو لا يستطيع أن يرفض قيام دولة مستقلة. طبعًا، واصل نتنياهو تمسكه بهذه المواقف، في الوقت الذي قامت فيه الولايات المتحدة باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار تقدمت به دولة الإمارات العربية المتحدة في مجلس الأمن الدولي يدعو إلى وقف إطلاق النار ودعمته أكثر من 90 دولة. ووافقت على مشروع القرار 13 دولة، بينما امتنعت المملكة المتحدة عن التصويت. وهكذا كان الفيتو الأميركي العقبة الوحيدة أمام وقف إطلاق النار. شكاوى بايدن اللفظية من القصف الإسرائيلي العشوائي، لم تمنعه في اليوم ذاته من الالتفاف حول الكونغرس الأميركي لتزويد إسرائيل بحوالي 14 ألف قذيفة لدباباتها عبر استخدامه لقوانين طارئة لتفادي إشراف الكونغرس على الصفقات العسكرية. كيف يمكن لبايدن أن يوفق بين هذه المواقف والاجراءات المتناقضة؟
تأييد بايدن للأهداف الرئيسية لحرب إسرائيل، وضعه في موقف متعارض مع بعض الأعضاء الديموقراطيين النافذين في مجلس الشيوخ، الذين اجتمعوا معه وحثوه على مطالبة إسرائيل باحترام قوانين الحرب، والسعي الجدي لتفادي الخسائر المدنية، والتعجيل بدخول الامدادات الانسانية لقطاع غزة، والتشديد على تحقيق أفق سياسي مبني على حل الدولتين. هذه الجهود التي قادها السناتور كريستوفر فان هولن (ديموقراطي، ولاية ماريلاند) أدت إلى رفع رسالة من أكثر من عشرين عضواً ديموقراطياً في مجلس الشيوخ للرئيس بايدن، لكي يطالب حكومة نتنياهو بمثل هذه الضمانات. في الأسابيع الماضية بدأ الرئيس بايدن في واشنطن بالحديث عن حل الدولتين بصفته الحل الوحيد المقبول، وهو ما كررته نائبة الرئيس كمالا هاريس، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن خلال زيارتيهما للمنطقة. وحتى الآن، لا توجد هناك أي مؤشرات أن الرئيس بايدن سوف يربط دعمه القوي لإسرائيل بقبولها لمثل هذا الافق السياسي، ولإظهار التزامها بقوانين الحرب المتعلقة بحماية المدنيين.
الانتقادات القوية الموجهة لبايدن، وصلت إلى المؤسسات الحكومية، بما فيها البيت الأبيض ذاته، فقد تظاهر موظفون في البيت الأبيض أمام مقر الرئيس، ورفعوا اللافتات التي كتب عليها “الرئيس بايدن، موظفوك يطالبون بوقف إطلاق النار”. وهناك شبه حالة تمرد في أوساط الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التابعة للحكومة الأميركية، والتي تشرف على إدارة المساعدات التنموية الخارجية، حيث وقع مئات الموظفين على عريضة تطالب بوقف إطلاق النار الفوري في غزة. مشاعر الاستياء هذه ازدادت في الأيام الماضية بعد مقتل مقاول فلسطيني يعمل مع الوكالة مع زوجته وولديه، حيث يطالب موظفو الوكالة بمحاسبة إسرائيل على مقتل عدد كبير من العاملين في مجال توفير المساعدات الانسانية.
وتقول مصادر ديبلوماسية مطلعة في واشنطن إن تقارير السفارات الأميركية في العالمين العربي والاسلامي تتحدث عن مشاعر الاستياء العميقة في أوساط الرأي العام من تأييد الرئيس بايدن للحرب الإسرائيلية ضد غزة، وتحديدًا في الدول التي تربطها علاقات سياسية وأمنية قوية مع الولايات المتحدة. أحد المصادر تحدث عن حالة قريبة من “الهلع” في مصر لاحتمال قيام إسرائيل بإرغام سكان غزة الذين لجأوا إلى جنوب القطاع لعبور الحدود المصرية إلى سيناء، أو قيام هؤلاء بمحاولة عبور الحدود بسبب انعدم المواد الغذائية والطبية. المصدر ذاته تحدث عن مشاعر مماثلة في الأردن من احتمال أن يؤدي عنف المستوطنين في الضفة الغربية إلى إرغام المدنيين على العبور إلى الضفة الشرقية.
ولكن ربما أكثر ما يقلق إدارة الرئيس بايدن، وتحديدًا الحملة الانتخابية للرئيس، هو الانحسار المستمر في شعبية بايدن، وخاصة في أوساط الناخبين الشباب الذين يعارضون بقوة دعمه لحرب إسرائيل ضد غزة. وأظهر استطلاع للرأي أجرته شبكة التلفزيون إن بي سي مؤخرًا، أن 70 بالمئة من الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 سنة لا يوافقون على الطريقة التي يتعامل فيها الرئيس بايدن مع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس. كما أظهر استطلاع أخر لمؤسسة بيو اتجاهات مماثلة، حيث قال 19 بالمئة فقط من الأمريكيين دون سن الثلاثين أنهم يوافقون على رد الرئيس بايدن على الحرب.
استطلاعات الرأي توضح أن اتجاهات الناخبين تعكس وجود هوة كبيرة بين نظرة جيل الرئيس بايدن لإسرائيل، وجيل الشباب. وإذا كان جيل الرئيس بايدن (الذي كان في الخامسة من عمره حين تأسست إسرائيل)، يرى فيها دولة فتية ديموقراطية يسارية تأسست بعد أهوال المحرقة النازية ضد يهود أوروبا، فإن جيل الشباب الأميركي يرى في إسرائيل دولة عسكرية تحتل أراضي شعب آخر، وتحرمه من حقوقه الشرعية، ويحكمها ائتلاف سياسي يميني متطرف.
وتبين استطلاعات الرأي المختلفة معارضة قوية في صفوف الناخبين من أصول عربية أو مسلمة، وكذلك في أوساط الناخبين الأميركيين من أصل أفريقي لتأييد بايدن لإسرائيل في حربها ضد حركة حماس في غزة. ويقول العديد من هؤلاء الناخبين أنهم سيقاطعون بايدن، ولن ينتخبوا منافسه الجمهوري المحتمل دونالد ترامب، بل سيعبرون عن استيائهم بالبقاء في بيوتهم أو بالتصويت للمرشحين الديموقراطيين الأخرين باستثناء بايدن. مواقف هؤلاء الناخبين تكتسب أهمية خاصة لأن معظمهم يسكنون في ولايات محورية لا يستطيع بايدن البقاء في البيت الأبيض إذا لم يفز فيها، وتحديدًا ولايات مثل ميتشغان (حيث يقيم أكبر تجمع للعرب الأميركيين) وويسكونسون وفيرجينيا وغيرها. في أحد الاستطلاعات الأخيرة فاز ترامب ضد بايدن في ولاية ميتشيغان بنسبة 10 بالمئة، ما يؤكد أهمية الناخبين العرب-الأميركيين في هذه الولاية، إذا قررت أكثريتهم مقاطعة بايدن في نوفمبر/كانون الثاني المقبل.
يوم السبت الماضي، نشر المعلق دافيد اغناتيوس مقالًا طويلًا في صحيفة واشنطن بوست بعنوان “في الضفة الغربية، رأيت كيف يتطلب السلام المواجهة مع إسرائيل”. ويتطرق المقال إلى الحياة اليومية للفلسطينيين خلال جولة لاغناتيوس في بعض القرى، وما يحيط فيها من إذلال وترهيب وعنف، على أيدي الجنود والمستوطنين المتطرفين وخوفهم من اقتلاعهم من أراضيهم. ويرسم المقال الموثق، والذي يستند على مقابلات مع فلسطينيين وإسرائيليين يعارضون الاستيطان، صورة قاتمة بالأرقام والاحصائيات والأمثلة والأسماء لمستقبل الضفة الغربية التي يستوعبها الاحتلال الإسرائيلي تدريجياً. وينهي المحلل المخضرم مقاله بالتساؤل، “هل هناك نهاية سعيدة لهذه الرواية؟ من المحتمل لا، إلا إذا قرر بايدن أن يقوم بجهد ديبلوماسي لم نراه منذ أيام الرئيسين جيمي كارتر وبيل كلينتون”، ويضيف اغناتيوس، “ولكن خلال جولتي التقيت بالعديد من الإسرائيليين والفلسطينيين الشجعان الذين يعملون معا لتوثيق العقبات أمام السلام، بحيث أرى طريقًا للمستقبل – هذا إذا تحلت أميركا بالجرأة على مساعدتهم”. فهل يجرؤ بايدن؟