ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
أعلن الرئيس دونالد ترامب عمليا الحرب ضد الكتلة اليمينية المتشددة في الحزب الجمهوري المعروفة باسم “تجمع الحرية” لأنها عارضت خطة الضمان الصحي التي اقترحها، وتعهد “بمحاربتهم” في الانتخابات النصفية في عام 2018. وكشفت صحيفة وول ستريت جورنال أن مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين أبلغ مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) ولجان الاستخبارات في الكونغرس التي تحقق بالتدخل الروسي في الانتخابات استعداده للمثول أمامهم ولكن بشرط منحه حصانة ضد مقاضاته في المستقبل موحيا بأن لديه معلومات جوهرية. كما كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الجمهوري ديفين نيونز كان قد حصل سرا من مسؤولين في البيت الأبيض على معلومات استخباراتية توحي بأن أجهزة الاستخبارات ربما تنصتت دون قصد على اتصالات لمسؤولين في حملة الرئيس ترامب خلال مراقبتها ورصدها لأهداف أجنبية (روسية)، وذلك في محاولة شبه يائسة لمساعدة الرئيس ترامب على الادعاء بأن اتهامه لسلفه باراك أوباما بالتنصت على مكالماته بعد فوزه بالانتخابات لها أساس من الصحة، وهو ادعاء رفضه قادة لجان الاستخبارات في الكونغرس ومدير “اف بي آي” جيمس كومي. كما بدأت لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ جلسات الاستماع لمعرفة مدى ومضاعفات وخطر التدخل الروسي بالانتخابات الرئاسية واحتمال تعاون مسؤولين أو مقربين من حملة ترامب مع الجهود الروسية. هذه حصيلة تطورات يوم واحد (الخميس) في حياة ادارة الرئيس دونالد ترامب. هذه التطورات جاءت بعد يومين من تدني نسبة الأمريكيين الذين يوافقون على أداء ترامب إلى 36 بالمئة فقط. يوم واحد يبين بوضوح سافر أن الفوضى وانعدام اليقين والاستقطابات السياسية وممارسات وقرارات ترامب المثيرة للكثير من السخط والجدل، واحتمال تورطه ومقربين منه في مساعدة روسيا على التدخل في الانتخابات الرئاسية، كلها عوامل لا يمكن إلا أن تزداد خطورة مع مرور كل يوم.
هذه التطورات حصلت بعد مرور أكثر من سبعين يوما على تنصيب ترامب، حفلت بمشاكل وأزمات خارجية عكرت العلاقات مع حلفاء قدامى مثل المكسيك واستراليا والمانيا، وقرارات تنفيذية عشوائية، رفض القضاء بعضها (قراران يفرضان حظر سفر رعايا دول ذات أكثرية مسلمة)، وأخرى من المتوقع أن يقرر مصيرها القضاء (إلغاء القيود على إنتاج الفحم الحجري) أو غير واقعية في الظروف الراهنة، وأبرزها قرار بناء الجدار العازل على الحدود الجنوبية مع المكسيك، والذي من المتوقع أن يرفض الكونغرس في أي وقت قريب إقرار ميزانية خاصة للبدء ببنائه. كل هذه المؤشرات تبين أن طموح الرئيس ترامب بتحويل أول مئة يوم من ولايته إلى فترة غنية بالإنجازات التشريعية والسياسية قد أصيب بنكسة كارثية. ووفقا لسجل ترامب حتى الآن، فإن فترة أول مئة يوم له في السلطة سوف تكون أسوأ فترة مماثلة لرئيس أمريكي في ولايته الأولى منذ أكثر من نصف قرن.
هزيمة تشريعية مذلة
جميع الكبوات والنكسات التي أصيب بها ترامب حتى الآن تبدو واهية بالمقارنة مع هزيمته المذلة في الأسبوع الماضي حين اضطر إلى سحب خطته المتعلقة بالضمان الصحي بعد أن تبين له ولحليفه النائب بول رايان رئيس مجلس النواب أنهما يفتقران إلى الأكثرية البسيطة لتمرير الخطة، وأن السبب الرئيسي ليس المعارضة الديمقراطية المتوقعة بل المناوشات الخلفية التي قام بها المتشددون في حزبه. الهزيمة كانت مرّة بالنسبة لرئيس وعد الناخبين خلال حملته بأنه وحده القادر على التوصل إلى الصفقات الجيدة، لا بل وصل ميله للمبالغة الصبيانية إلى درجة أنه كان يردد “سوف تتعبون من الانتصارات”. أن تتعثر بعض القرارات التنفيذية فهذا شيء مزعج، أن تتعرض لكارثة تشريعية فهذا أمر شبه قاتل.
اعتاد المؤرخون والمحللون منذ حقبة الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت (1933-1945) بتقييم الإنجازات التي تحصل في أول مئة يوم للرئيس الجديد، لأنها الفترة التي يكون فيها الحماس للرئيس في أوجه، وفرصته لتعريف الناخبين بقيادته وشخصيته، ولمحاولة ترجمة قيمه وطروحاته إلى حيز التنفيذ والتجريب. كما أن أول مئة يوم، حتى ولو لم تكن حافلة بإنجازات تشريعية وسياسية، توفر للرئيس وللأمريكيين خارطة الطريق التي يفترض بأنه بدأ بشقها.
الحرب التي أعلنها ترامب ضد اليمين في حزبه، تأتي بعد حروبه التي شنها ضد وسائل الاعلام، وضد القضاء، وضد أجهزة الاستخبارات، وكلها تعكس نظرته الاستعلائية وقناعته بأن الترهيب سلاح فعال، والهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. ولكن ردود الفعل الأولية لم تكن مشجعة لترامب، لأن بعض أعضاء هذه الكتلة قالوا أن الرئيس لن ينجح في ترهيبهم. وهذه هي المرة الأولى التي يستهدف بها رئيس في السلطة كتلة نيابية تنتمي إلى حزبه ويحرض على تحديهم في الانتخابات النصفية. إخفاق ترامب في استيعاب “تجمع الحرية”، قد يدفعه إلى محاولة التعاون مع الديمقراطيين، حول بعض المشاريع، ولكن الأجواء المسمومة والشكوك الديمقراطية العميقة بصدقية ترامب تجعل أي تعاون جدي صعبا للغاية. وهذا سيؤدي إلى تأخير أي إنجازات تشريعية هامة، مثل إصلاح النظام الضرائبي.
الديمقراطية الأمريكية بعافية
ومنذ الرابع من مارس، حين أطلق ترامب تغريداته ضد سلفه أوباما واتهمه بالتنصت على مكالماته، والبلاد مشغولة بمضاعفات هذه التهم الباطلة التي أضرت بمكانة منصب الرئاسة، وتسببت بانهيار التحقيق في لجنة الاستخبارات في مجلس النواب على الأقل، وعمقت الشكوك بجدية وأهلية ترامب لقيادة البلاد. ولكن، وفقا لأكثر من مصدر فإن ما يريده ترامب على الأقل في المدى المنظور هو ابعاد الانظار والاهتمام الجدي عن لجان التحقيق التي ستنظر في فضيحة التدخل الروسي بالانتخابات الرئاسية، والتركيز في المقابل على اتهامات ترامب لأوباما. ولكن على الرغم من ادعاءات وتمنيات ترامب فقد تعرضت سمعته حتى في أوساط الجمهوريين في الكونغرس لتشكيك عميق بعد اتهاماته لأوباما. ولكن الأهم هو أن التحقيقات في الكونغرس (وتلك التي يقوم بها أف بي آي) بالتدخل الروسي سوف تستمر، لا بل سوف تتوسع، على الرغم من نجاح البيت الأبيض في تعطيل لجنة الاستخبارات في مجلس النواب بسبب تعثر رئيسها النائب نيونز.
وإذا كانت هناك طموحات روسية مبكرة بتعاون وثيق مع ترامب بطريقة تخدم مصالح موسكو في اضعاف حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، فإن هذه الطموحات قد اضمحلت، لأن ترامب غير قادر الآن، نتيجة للسخط الأمريكي العميق من انتهاكات روسيا للنظام الديمقراطي الأمريكي، على فتح صفحة جديدة معها يمكن أن تؤدي كما كان يرغب الرئيس بوتين إلى إلغاء العقوبات الاقتصادية التي فرضت على روسيا عقب غزوها لأوكرانيا في عام 2014، أو التعاون العسكري المشترك في سوريا. وحتى الاتصالات بين البلدين قد انخفضت وخاصة بعد إقالة المستشار مايكل فلين الذي كان من أبرز المتحمسين –والمستفيدين- من التعاون مع موسكو.
أخطر ما تمثله ظاهرة ترامب هو نجاحها النسبي في خلخلة مفاهيمنا التقليدية للحقائق والوقائع، ونزع صفة الشرعية عن كل ما هو شرعي والتشكيك في الحقيقة من خلال الادعاء بوجود ما يسمى بحقيقة بديلة، وزرع الشكوك بين المؤسسات الشرعية، مثل رفض تأكيدات جميع أجهزة الاستخبارات الأمريكية بالتدخل الروسي في الانتخابات لصالح ترامب، أو التشكيك بصدقية وحيادية القضاء، أو محاولة ترهيب الاعلام من خلال الصراخ “أخبار ملفقة” كلما كشفت الصحافة الأمريكية أعمال التضليل التي تقوم بها إدارة ترامب.
تشويه الحقيقة وصل إلى مرحلة دفعت بالأمريكيين للتساؤل عما إذا كانت الحقيقة قد ماتت كما تساءلت مجلة تايم قبل أسبوعين، أو التساؤل عن “مستقبل الحقيقة” وهو عنوان مؤتمر رائع نظمته مجلة “فورين بوليسي” ومؤسسة PEN الأدبية يوم الأربعاء الماضي. المؤتمرون رسموا صورة مقلقة لواقع الولايات المتحدة في حقبة ترامب، ولكنهم لاحظوا أن المؤسسات الأمريكية والمجتمع المدني والصحافة الأمريكية والناشطين لا يزالوا بعافية، وخاصة القضاء الذي علق تطبيق قرارات ترامب حول الحظر الذي فرضه على دخول رعايا ست دول ذات أغلبية مسلمة، والصحافة التي تدافع عن الحقيقة والوقائع والحريات وتفضح أكاذيب الحكومة، وأجهزة الاستخبارات، وخاصة الأداء المتميز لمدير أف بي آي جيمس كومي الذي كذّب عمليا الرئيس ترامب حين ادعى أن أوباما قد تنصت عليه، وحين كشف أن مكتبه يحقق باحتمال ضلوع أفراد في حملة ترامب بالتواطؤ مع الانتهاكات الروسية. وحتى الكونغرس الجمهوري، رفض خطة ضمان صحي مطبوخة بسرعة تثير الشبهات.
الديمقراطية الأمريكية معرضة الآن لهجمة شرسة، ولكنها لا تزال بعافية وقادرة على المقاومة الفعالة.