شهدت أفغانستان في الأيام الماضية تطورات ميدانية وسياسية تعزز من التقويم الاستخباراتي القائل بأن الحكومة الأفغانية في كابول مقبلة على امتحان وجودي، ليس من المرجح أن تجتازه بنجاح. في الوقت الذي انسحبت فيه القوات الأميركية من قاعدة باغرام الجوية المحورية، بعد استخدامها لعشرين سنة، دون حفل تسلم وتسليم، وأنهت بذلك الوجود العسكري الأميركي القتالي في افغانستان، كانت قوات طالبان تحقق سلسلة من الانتصارات العسكرية في شمال البلاد، بما في ذلك اقتحام مدينة قندز، والسيطرة على عشرات المقاطعات، على خلفية تقارير تتحدث عن فرار أكثر من ألف جندي أفغاني إلى طاجيكستان واستسلام المئات لحركة طالبان.
وخلال الأسابيع المقبلة، وقبل الموعد النهائي الذي حدده الرئيس بايدن في أبريل/نيسان الماضي لانسحاب جميع القوات الأميركية من أفغانستان، مع حلول الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر الإرهابية، التي أدت إلى غزو افغانستان، سوف تُبقي إدارة بايدن حوالي 650 جنديًا لحماية السفارة ومطار كابول الدولي. قبل التقدم العسكري الأخير لقوات طالبان، ألمحت مصادر في وزارة الدفاع الأميركية أن الانسحاب سينتهي في أواخر يوليو/تموز، ولكن رغبة منها في احتواء مشاعر القلق في كابول، قررت إدارة بايدن تأخير الانسحاب إلى أواخر أغسطس/آب.
سياسيًا، كرر الرئيس بايدن يوم الجمعة ثقته العلنية بقدرة القوات الحكومية الأفغانية على حماية النظام، وهو ما قاله أمام الرئيس الافغاني أشرف غاني، عندما زاره مؤخرًا في البيت الأبيض. ولا يخف بايدن انزعاجه من أسئلة الصحفيين المتكررة حول مستقبل الحكومة الأفغانية، واحتمال انهيار الوضع إلى حرب أهلية واسعة في ضوء انتصارات قوات طالبان الميدانية، كما بدا واضحًا من تجاهله لهذه الأسئلة قبل أيام، حين قال للصحفيين أنه يريد أن يتحدث عن الاشياء الايجابية. ولوحظ أن تقويم بايدن المتفائل بعض الشيء لقدرات الحكومة الافغانية، لا ينسجم مع التقويم العلني والصريح لقائد القوات الأميركية في أفغانستان، الجنرال أوستن ميلر، الذي قال في تصريحات صحفية أنه إذا استمرت التطورات الميدانية على مسارها الراهن “بالتأكيد يمكن أن نرى عودة الحرب الأهلية…”
الانسحاب العسكري من افغانستان، يأتي بعد مرور عشرين شهرًا لم تخسر فيها القوات الأميركية جنديًا واحدًا على أيدي حركة طالبان. وهذا يعود لأكثر من سبب من بينها انحسار مهام القوات الأميركية القتالية، وتركيزها على تدريب وارشاد القوات الأفغانية، ولكن أيضا بسبب الاتفاق السياسي الذي توصلت إليه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب مع حركة طالبان في مفاوضات الدوحة، قطر، وحددت فيه موعد انسحاب القوات الأميركية مع حلول شهر مايو/أيار 2021. بقاء القوات الأميركية في أفغانستان، سوف ينهي هذه “الهدنة” المؤقتة مع قوات طالبان، ويعيد وضع القوات الأميركية في مرمى قوات طالبان. وحاول الرئيس ترامب خلال ولايته إنهاء ما كان يصفه بحروب الولايات المتحدة “التي لا نهاية لها”، في إشارة الى أطول حربين في تاريخ البلاد، افغانستان والعراق، ولكنه وجد معارضة من الجمهوريين ومن وزارة الدفاع. محاولة ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا، أدت إلى خلاف عميق مع وزير دفاعه جيمس ماتيس، الذي عارض مثل هذا الانسحاب، واستقال من منصبه بسبب هذا الخلاف في نهاية 2018.
خلال حملته الانتخابية ألزم بايدن نفسه بإنهاء الوجود العسكري في أفغانستان في حال فوزه، وكان يكرر أن واشنطن قد حققت الهدف الأساسي من غزوها لأفغانستان، أي منع تجدد الهجمات الارهابية ضدها من الأراضي الأفغانية، بعد دحرها، إلى حد كبير، لقوات تنظيم القاعدة الارهابي. الرئيس بايدن، أوضح لنظيره الأفغاني، وفي مواقفه العلنية، أن تدهور الوضع الميداني لن يؤد إلى أي تغيير في قناعته القوية بأن قرار الانسحاب نهائي ولا رجوع عنه. بايدن يدرك، ما أدركه ترامب، وما أدركه باراك أوباما ضمنًا قبلهما، من أنه لا يوجد هناك حل عسكري للنزاع في أفغانستان. الحل العسكري لم يكن ممكنًا حتى عندما زاد الرئيس الأسبق أوباما عديد القوات الأميركية في أفغانستان إلى أكثر من 80 ألف عسكري في 2011. ومن هذا المنطلق، أي “انتصار” أميركي في أفغانستان يجب أن يكون سياسيًا.
ولكن استعجال بايدن، وقبله ترامب، للانسحاب في غياب اتفاق سلام بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، أو أي تفاهم سياسي طويل الأمد بين واشنطن وطالبان، فاجأ الأصدقاء والخصوم في أفغانستان، والدول الإقليمية المعنية، بشكل أو بآخر، بهذا النزاع، كما فاجأ أيضًا دول حلف الناتو التي حاربت مع القوات الأميركية لعقدين من الزمن، في أول ترجمة للبند الخامس للحلف، والقائل بان أي دولة عضو تتعرض لهجوم، سيرد عليه الحلف وكأن جميع دوله قد تعرضت للهجوم.
وعلى الرغم من وجود انتقادات من مشرّعين جمهوريين ومعلقين استراتيجيين لانسحاب عسكري في غياب تفاهم سياسي، إلا أن قراءة الرؤساء أوباما وترامب وبايدن، للمزاج الشعبي المؤيد للانسحاب، على الرغم من أن الخسائر العسكرية في أفغانستان قد انحسرت كثيرًا في السنوات الماضية، إلا أن الكُلفة المادية للحرب ظلت عالية، كما أن المقاومة العنيدة لحركة طالبان وأنصارها للوجود العسكري الأميركي جعلها تختلف كليًا عن الدول، التي أبقت فيها الولايات المتحدة قوات عسكرية لعقود طويلة، مثل المانيا وكوريا الجنوبية وغيرها.
عندما أعلن الرئيس بايدن عن جدولة الانسحاب من أفغانستان في أبريل/نيسان الماضي، كان التقويم السائد في أجهزة الاستخبارات الأميركية أن الحكومة الأفغانية في كابول قادرة على البقاء ومقاومة طالبان ربما لسنتين، ما أثار المقارنة مع الفترة الزمنية التي عقبت انسحاب القوات الأميركية من فيتنام الجنوبية في 1973 وسقوط سايغون في أيدي قوات الفييتكونغ وقوات جيش فيتنام الشمالية بعد سنتين في 1975.
الانسحاب الأميركي السريع من أفغانستان، وخاصة حدوثه في غياب ترتيبات سياسية، وضع الدول المحيطة بأفغانستان أمام واقع جديد لم تتعامل معه منذ عشرين سنة. بعض المراقبين يقولون إن باكستان – التي عملت على إخراج القوات الأميركية من أفغانستان على مدى السنين، وذلك في الوقت الذي كانت تحصل فيه على مليارات الدولارات الأميركية كمساعدات عسكرية – هي الرابح الأكبر، على الأقل في المستقبل المنظور. ولكن حتى باكستان قد تجد نفسها في وضع صعب إذا حاولت التأثير جذريًا على حركة طالبان، في حال إحكام سيطرتها على البلاد. معظم الدول المحيطة بأفغانستان، بما فيها الجمهوريات السوفياتية السابقة وإيران، كلها تعارض مبدئيًا وعمليًا بروز نظام إسلامي متشدد في كابول، كما أن معظم هذه الدول تتخوف في حال نشوب حرب أهلية واسعة من أن يجتاحها آلاف اللاجئين الأفغان. حتى الدولتين الكبيرتين، التي لا تربطهما حدود مشتركة مع أفغانستان، ولكنهما معنيتان بمستقبل البلاد، أي روسيا والهند، لديهما قلق عميق من عودة طالبان إلى السيطرة على كابول.
المخططون العسكريون والسياسيون في واشنطن يدركون هذه المخاوف، ويأملون أن يساعدهم ذلك في إقناع بعض جيران أفغانستان، مثل طاجيكستان وأوزباكستان وتركمانستان على التعاون مع الولايات المتحدة في مجالات تتراوح بين أنشطة الاستخبارات، لكي تواصل واشنطن رصدها ومراقبتها للتطورات داخل أفغانستان بعد سحب قدراتها العسكرية والاستخباراتية من البلاد، ومساعدة واشنطن في استقبال آلاف الأفغان، الذين تعاملوا عن كثب مع القوات الأميركية خلال العقدين الماضيين لفترة مؤقتة، تقوم خلالها واشنطن بتوفير تأشيرات دخولهم إلى الولايات المتحدة كلاجئين.
كتب الكثير عن أسباب اخفاق الولايات المتحدة في هزيمة طالبان، وعجزها عن فرض واقع عسكري في البلاد على الرغم من امتلاكها وحلفائها لأكبر الترسانات العسكرية في العالم، ولإنفاقها لأكثر من تريليوني دولار. هناك أسباب عسكرية تقنية بديهية، وأخرى سياسية وثقافية تعكس اخفاق واشنطن وحلفائها في فهم النواحي التاريخية والثقافية والاجتماعية المعقدة، التي صاغت التجربة الأفغانية. وزير الدفاع الأميركي الذي أشرف على الغزو، دونالد رامسفيلد، لم يكن مهتمًا في الاستثمار ماليًا وسياسيًا في تدريب جيش أفغاني وطني في السنوات الأولى، التي عقبت طرد قوات طالبان من كابول، حين تساهلت واشنطن مع عودة بعض أمراء الحرب الأفغان المعروفين بعنفهم وفسادهم واشراكهم في الحكومة، في الوقت الذي رفضت فيه واشنطن التفاوض مع أي عناصر منضوية تحت لواء طالبان، على الرغم من تمثيلها لقطاعات شعبية لا يمكن تجاهلها، وخاصة في أوساط الأغلبية المؤلفة من الباشتون.
وفور دحر طالبان، بدأت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، بالتحضير لغزو العراق، الأمر الذي حّول أنظارها واهتمامها الحقيقي بأفغانستان، والتفرغ لإحكام السيطرة على العراق، وخاصة بعد بروز المقاومة المسلحة للوجود العسكري الأميركي، من قِبل أنصار نظام صدام حسين، والقوى الارهابية التي برزت بعد الغزو.
الولايات المتحدة لم تتصد بشكل فعال لفساد الحكومة الافغانية أو أمراء الحرب وزعماء القبائل، كما أنها لم تتعامل بفعالية أو بعد نظر مع الاعتبارات الثقافية والاجتماعية والدينية للأفغان، واخفقت في اقناع “حلفائها” الأفغان بالقتال إلى جانبها وجانب القوات الحكومية، التي تسيطر عليها فئة سياسية فاسدة لا تمثلها.
المعارضة القوية للوجود الأميركي العسكري في أفغانستان، لم تكن مترسخة في المشاعر الدينية، كما يرى الكثيرون، بل في المشاعر “التاريخية” للأفغان، والنابعة من تاريخ وجغرافيا أفغانستان وهي العوامل التي جنبتها السقوط تحت استعمار أي دولة إمبريالية عبر القرون، على الرغم من محاولات الإمبراطورية البريطانية خلال وجودها في الهند، وفي القرن العشرين الامبراطورية السوفياتية.
العصبيات القبلية والاثنية الأفغانية، لم تطمس كليًا، مشاعر اعتزاز الأفغان، بغض النظر عن خلفياتهم، بأنهم نجحوا، بعد دفع ثمن كبير، في منع بلادهم من الانصياع لرغبات وطموحات القوى الأجنبية. الأفغان صبروا وقاوموا البريطانيين، ثم صبروا وقاوموا السوفيات، وفي القرن العشرين، صبروا وقاوموا الأميركيين. وهم يعرفون، عبر الأجيال أن الزمن، وجبال أفغانستان التي صقلتهم على شاكلتها الصلبة، تعمل لصالحهم، وأن المحتلين سوف يرحلون يوما، ولذلك لا يتعب قادة طالبان، كما فعل أسلافهم، من ترديد عبارتهم الشهيرة، ” لديكم كل الساعات، ولدينا كل الوقت”.