عندما أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قواته غزو أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، كان يعتقد أن الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي سوف يهرب من العاصمة كييف، التي توقع أن تصل إليها الدبابات الروسية خلال ثلاثة أيام. ولكن بوتين وجد يوم الأربعاء الماضي، أي بعد مرور ثلاثمئة يوم على بدء ما أسماه “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، عدوه اللدود زيلينسكي في واشنطن يتلقى استقبالًا حارًا كبطل دولي مدافع عن الحرية.
وقبل وصوله إلى واشنطن، زار زيلينسكي الجنود الأوكرانيين الذين يدافعون عن مدينة باخموت (Bakhmut) في شرق البلاد، والتي تحاصرها القوات الروسية منذ خمسة أشهر، وشجعهم على مواصلة مقاومتهم، على وقع دوي المدافع الروسية. البذة العسكرية الخضرا ء والجزمة الثقيلة التي أصبحت جزءًا من شخصية وكاريزمية زيلينسكي، هي ذاتها التي ارتداها وهو يترجل من السيارة المصفحة التي حملته إلى اجتماعه مع الرئيس جوزيف بايدن في البيت الأبيض، وبعدها بساعات إلى الكونغرس.
قبل الغزو كانت شعبية زيلينسكي في أوكرانيا لا تتعدى الثلاثين في المئة. ولكن التحول الجذري والعلني الذي طرأ على هذه الشخصية التلفزيونية والكوميدية، والذي أدهش شعبه والعالم منذ الأيام الأولى للغزو الروسي، تحول بدوره إلى مادة غنية درسها وسوف يواصل درسها المحللون والمؤرخون لوقت طويل. زيلينسكي الذي يملك حسًا تاريخيًا رهيفًا، وشجاعة أخلاقية مذهلة، ويدرك أهمية الصور المعبرة، وكيفية استخدام الكلمات للتواصل مع الأخرين وجذب احترامهم وتعاطفهم، أصبح وجه أوكرانيا إلى العالم، ولخًّص بسلوكه إصرار أوكرانيا على الحياة في وجه الطغيان. زيلينسكي ظل في كييف عندما تعرضت للحصار والقصف، وحض قادة العالم على زيارته في عاصمته، ومشى معهم في شوارعها التي غطاها ركام الأبنية المدمرة في تحد واضح للغزاة. وبينما بقي خصمه بوتين في عزلته الثرية بعيدًا عن خنادق جنوده، الذي شاهد العالم معنوياتهم المنهارة، كان زيلينسكي يزور مقاتليه في مختلف الجبهات، وهو يقول لشعبه وللعالم أن أوكرانيا بمقاومتها للاحتلال الروسي تقاوم الطغيان وتدافع عن الحرية في كل مكان.
هذا هو الرئيس الأوكراني الذي استقبلته واشنطن كمدافع دولي عن الحرية وكرأس حربة ضد أحد أبرز الدول المتسلطة في العالم. ولهذا خاطب زيلينسكي أعضاء الكونغرس قائلا “أموالكم ليست صدقة، بل هي استثمار في الأمن الدولي والديموقراطية، وإننا نتعامل معها بمسؤولية قصوى”، وذلك في رد ضمني على مطالبة بعض المشرعين الجمهوريين، غير المتحمسين أصلًا لمساعدة أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا، بفرض رقابة أقوى على كيفية إنفاق المساعدات الأميركية في أوكرانيا. ولم ينس زيلينسكي أن يؤكد للمشرعين الأميركيين مباشرة، وللرئيس بوتين بشكل ضمني، أن أوكرانيا “لا تزال على قيد الحياة، ولا تزال قادرة على الرفس”، مضيفًا، أن “الطغيان الروسي خسر سيطرته علينا”.
وللتأكيد على أن المعركة التي تقودها أوكرانيا لتحرير نفسها من الاحتلال الروسي، هي معركة ضد معسكر التسلط والدول الأوتوقراطية التي تدعم روسيا، وأن دعم أوكرانيا يخدم مصالح الدول الديموقراطية، ذكّر زيلينسكي للمشرعين الأميركيين “أن روسيا وجدت حليفًا في سياسة الإبادة التي تنهجها: إيران”، وتابع، “المسيّرات الإيرانية القاتلة التي أرسلت إلى روسيا بالمئات، أصبحت خطرًا على بنيتنا التحتية الهامة. وهكذا وجد إرهابي إرهابي آخر”. وأشار زيلينسكي إلى أن حدوث اعتداء روسي-إيراني جديد “هو مسألة وقت قبل أن يهاجما حلفائكم الأخرين، إذا لم نوقفهما الآن”.
محللون كثر، قارنوا زيارة زيلينسكي إلى واشنطن في ديسمبر/ كانون الأول 2022 وخطابه أمام الكونغرس بزيارة رئيس وزراء بريطانيا وينستون تشرشل إلى واشنطن في ديسمبر/ كانون الأول 1941، واجتماعه بالرئيس فرانكلين روزفلت وخطابه أمام الكونغرس بعد أقل من ثلاثة أسابيع من الهجوم الياباني ضد القاعدة البحرية في بيرل هاربر بولاية هاواي. زيلينسكي بحسه التاريخي، اقتبس من الرئيس روزفلت قوله، “الشعب الأميركي بقوته الصالحة سوف يحقق انتصارًا مطلقًا”، وأضاف، “والشعب الأوكراني سوف ينتصر أيضًا، وبشكل مطلق”.
جاء زيلينسكي إلى واشنطن لكي يشكر بشكل مباشر الرئيس بايدن والكونغرس والشعب الأميركي على دعمهم القوي والسخي لبلاده. توقيت الزيارة عكس أيضًا إدراك الرئيس الأوكراني أنه يزور واشنطن في الوقت الذي تظهر فيه بدايات انحسار في الدعم الشعبي لمساعدة أوكرانيا، خاصة وأنه لا توجد هناك أي مؤشرات حول حل قريب. زيلينسكي أراد أن يقول للأميركيين أن أوكرانيا بمقاومتها للاحتلال الروسي تدافع أيضًا، وبشكل غير مباشر، عن المصالح الدولية للولايات المتحدة.
ويلتقي زيلينسكي مع الرئيس بايدن في القول بأن انتصار روسيا في أوكرانيا كان سيعني تهديد القارة الأوروبية، خاصة تلك الدول التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي السابق، كما أن نجاح روسيا في أوكرانيا سوف يعني تقويض النظام الأمني الذي بنته الولايات المتحدة وحلفائها منذ انتصارهم في الحرب العالمية الثانية، مع ما سيفرضه ذلك من تحديات استراتيجية وأعباء عسكرية جديدة على الولايات المتحدة. ويقول مسؤولون أميركيون أن الصين التي تدعم موسكو سياسيًا في حربها ضد أوكرانيا، وتراقب عن كثب التطورات الميدانية، كانت ستستفيد من أي انتصار روسي لأن ذلك سيشجعها على التمادي أكثر في سياساتها العدائية تجاه تايوان، وتجاه حلفاء واشنطن في منطقة بحر جنوب الصين.
وكما كان متوقعًا، أعلن الرئيس بايدن بحضور زيلينسكي عن حزمة جديدة من الأسلحة الأميركية تزيد قيمتها عن 1.8 مليار دولار، تشمل منظومة صواريخ مضادة للصواريخ من طراز باتريوت، وذلك في تصعيد نوعي في طبيعة التسليح الأميركي لأوكرانيا، اعترضت عليه موسكو بشدة. ويعتزم الكونغرس خلال أيام، وقبل سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب في مطلع الشهر المقبل، التصويت على خطة ضخمة لمساعدة أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا تصل قيمتها إلى 45 مليار دولار.
توقيت الزيارة متربط، جزئيًا على الأقل، باقتراب سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب، هناك عدد من النواب من ذوي الأصوات العالية – وليسوا بالضرورة من الأصوات النافذة – من الذين يشككون أو حتى يعارضون المساعدات لأوكرانيا لأسباب عديدة، من بينها التفافهم حول سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب الانعزالية، والمعروفة بشعار “أميركا أولا”، والذين يتعاطفون، مثل ترامب، مع الرئيس بوتين، أو الذين يتذرعون بأن الفساد مستشر في أوكرانيا، وأنه سيطال المساعدات الأميركية. بعض هؤلاء إما قاطعوا خطاب زيلينسكي أو تعاملوا معه بفتور. وكان زيلينسكي قد التقى ببعض أقطاب الكونغرس من الحزبين، من بينهم زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ السناتور ميتش ماكونال، الذي يؤيد مساعدة أوكرانيا، والقائد المتوقع للأكثرية الجمهورية في مجلس النواب كيفلين ماكارثي، الذي قال أنه يؤيد مساعدة أوكرانيا، ولكنه لا يؤيد توفير صكًا أبيضًا لها. وحرص زيلينسكي خلال ساعاته القليلة في واشنطن على أن يبقى بعيدا عن الخلافات الحزبية في واشنطن.
ومع أن منظومة صواريخ باتريوت هي منظومة دفاعية إلا أن الرئيس بايدن كان يعارض تقديمها لأوكرانيا في السابق، كما لا يزال يعارض تزويدها بأي اسلحة يمكن أن تستخدمها القوات الأوكرانية لأغراض هجومية قد تشمل الأراضي أو الأجواء الروسية، لتفادي الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مع روسيا، أو لتفادي استفزاز الرئيس بوتين. ولكن الهجمات الصاروخية المكثفة التي تشنها روسيا منذ أسابيع ضد البنى التحتية الأوكرانية، لحرمان الأوكرانيين من الطاقة الكهربائية، ومن هنا اتهام بايدن لموسكو بأنها تستخدم الشتاء سلاحا، دفعته لتعديل معارضته لتزويد أوكرانيا بصواريخ باتريوت، وتسعى واشنطن أيضًا إلى توفير صواريخ أخرى لأوكرانيا لصد المسيّرات الإيرانية.
وسعى الرئيس زيلينسكي لإقناع بايدن بضرورة تزويد بلاده بأسلحة هجومية، تشمل الدبابات والطائرات والصواريخ متوسطة المدى، لأن تحرير الأراضي المحتلة يتطلب مثل هذه الأسلحة، ولأن أي توازن أو تعادل عسكري يعني تحويل الحرب في أوكرانيا إلى ما يسمى “بالنزاع المجمد”، كما هو الحال في النزاع بين الهند وباكستان حول ولاية كشمير، والمجمد منذ عقود، أو النزاع في قبرص بين تركيا وقبرص (واليونان). ولذلك حض زيلينسكي الكونغرس على تزويد أوكرانيا بأسلحة إضافية لأن هذه المعركة لا يمكن أن تجمّد أو تؤجل”.
المسؤولون الأوكرانيون يشددون على الاسراع بتزويدهم بأسلحة هجومية أو متطورة أكثر لأنهم يتوقعون – مع عدد متزايد من المحللين الأميركيين – هجوما روسيًا مضادًا ربما في بداية فصل الربيع قد يشمل فتح جبهة شمالية جديدة وتهديد العاصمة كييف، إذا وافقت روسيا البيضاء على السماح للقوات الروسية استخدام أراضيها.
زيارة زيلينسكي لواشنطن أعطته فرصة هامة للتحدث مباشرة مع الرئيس بايدن والمشرعين الأميركيين لتعزيز وتطوير الدعم العسكري لبلاده، ولتذكيرهم بأن مساعداتهم ليست مجرد أعمال خيرية أو صدقة، بل استثمار في نضال مشترك للدفاع عن الدول الديموقراطية ومصالحها ومن بينها الولايات المتحدة. الردود الأولية للمشرعين الأميركيين كانت ايجابية بمعظمها، والزيارة عززت العلاقات الشخصية بين الرئيسين بايدن وزيلينسكي. الأسابيع والأشهر المقبلة سوف تظهر مدى نجاح زيلينسكي في اقناع بايدن بتزويده بتلك المنظومات العسكرية التي يحتاجها لتحرير بلاده.
جميع المؤشرات تبين أن الحرب في أوكرانيا لن تنتهي في أي وقت قريب. ومع اقتراب الحرب من نهاية أول سنة لها، أصبح من الواضح، أكثر من أي وقت مضى، أن مضاعفات هذه الحرب العسكرية والاقتصادية قد وصلت إلى جميع قارات العالم، وأثرت سلبًا على اقتصاديات دول الشرق الأوسط وأفريقيا وبعض دول آسيا، التي تعتمد على امدادات القمح والطاقة من روسيا وأوكرانيا، كما أن العقوبات الدولية ضد روسيا، بما فيها تلك المفروضة على انتاجها من الطاقة، قد تركت أثارًا عميقة على المجتمعات الأوروبية واقتصاداتها. عسكريًا خلقت الحرب تحالفًا جديدًا وخطيرًا بين مجموعة من الدول العدائية والمتسلطة التي تقودها روسيا، وتشمل إيران وكوريا الشمالية وروسيا البيضاء، والتي تحظى بدعم عملي، وإن كان خجول، من الصين وعدد من الدول الأفريقية والآسيوية. جبهات هذه الحرب حارة عسكريًا في أوكرانيا، وباردة اقتصاديًا في أوروبا. كما خلطت هذه الحرب الكثير من الأوراق والحسابات والتحالفات الدولية والتوازنات داخل بعض الدول أو فيما بينها، وهذا يشمل المشهد السياسي الجديد في الولايات المتحدة في أعقاب الانتخابات النصفية.
جاء زيلينسكي إلى واشنطن ليشاهد ويشهد، وليحذر ويتعهد، وعاد إلى بلاده أقوى مما كان عليه حين ترجل في البيت الأبيض.