الولايات المتحدة مقبلة على انتخابات رئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 من المرجح أن تكون الأكثر غرابة وسريالية وتعقيدًا في تاريخها. الرئيس بايدن في طريقه للحصول على ترشيح حزبه للمرة الثانية، على الرغم من أن أكثرية الديموقراطيين، وأكثرية الناخبين الأميركيين يفضلون مرشحًا آخر أصغر سنًا. الرئيس السابق ترامب، المتقدم بمسافة كبيرة على منافسيه الجمهوريين في هذا الوقت المبكر في السباق إلى البيت الأبيض، يمكن أن يضمن ترشيح حزبه، قبل أو خلال محاكماته بأكثر من 91 تهمة، تضمنتها أربع لوائح اتهامات جنائية رفعت ضده في مدينتي نيويورك وواشنطن وولايتي فلوريدا وجورجيا.
نتائج أحد استطلاعات الرأي الأخيرة تعبّر بوضوح وبشكل صارخ عن حالة الاحباط والاستياء التي تخيم على مشاعر الناخبين الأميركيين، وهم مقبلون على هذه المبارزة الثانية المتوقعة بين بايدن “القديم” وترامب “الفاسد”. ما هي الكلمات التي تخطر ببالك حين تسمع اسم بايدن أو ترامب؟ هذا هو السؤال الذي طرحته وكالة أسوسييتد برس على أكثر من 1100 ناخب. أكثر من 77 بالمئة من الناخبين من ديموقراطيين وجمهوريين، ومن مختلف الأعمار، قالوا إن بايدن متقدم جدًا في السنّ ليكون رئيسًا فعالًا. بعضهم استخدم كلمات مثل، عفا عليه الزمن وبطيء ومرتبك. اللافت أن ترامب، الذي يصغر بايدن بثلاثة سنوات فقط، لا يعاني من مشكلة التقدم في السنّ في الذاكرة الجماعية للناخبين الأميركيين.
في المقابل، قال ثلث المشاركين في الاستطلاع أن الكلمات الأولى التي تخطر على بالهم حين سماع اسم ترامب هي: المحتال والفاسد والمجرم. ولكن السمعة السيئة للرئيس السابق ترامب لم تمنعه من التعادل مع الرئيس بايدن في استطلاع أخير أجرته صحيفة نيويورك تايمز، أظهر أيضًا أن 51 بالمئة من الأميركيين يوافقون على أن ترامب ارتكب “جرائم فيدرالية خطيرة”، كما أن 53 بالمئة منهم قالوا إن نشاطات ترامب بعد انتخابات 2020 “وصلت إلى مرحلة تهديده للديموقراطية الأميركية”. ومع ذلك فقد أظهر الاستطلاع أن بايدن وترامب متعادلان بنسبة 43 بالمئة في مواجهة افتراضية. هذه بعض المفارقات والوقائع الغريبة التي تحيط بالسباق إلى البيت الأبيض قبل 15 شهرًا من يوم الانتخابات.
ما يمكن قوله ببعض اليقين هو أن الرئيس بايدن سوف يكون مرشح الحزب الديموقراطي على الرغم من التحفظات الكثيرة في أوساط الديموقراطيين في واشنطن وفي الولايات على ترشحه لولاية ثانية. كما يمكن القول بيقين أقل بعض الشيء إن الرئيس السابق ترامب سوف يكون مرشح الحزب الجمهوري لولاية أخرى، وإن ما يمكن وقف حتمية فوزه بهذا الترشيح هو صدور عقوبات بسجنه في المحاكمات التي ستجري قبل موعد الانتخابات، الأمر الذي يمكن أن يدفع بالجمهوريين – نظريًا على الأقل – للالتفاف حول مرشح بديل. ما يجعل هذه الحملة الانتخابية سريالية بامتياز هو أنه لا يوجد هناك قانون يمنع ترامب من مواصلة حملته الانتخابية حتى من وراء القضبان.
وللتدليل على غرابة هذه الانتخابات، قبل أيام حددت القاضية الفيدرالية تانيا تشاتكن (Tanya Chutkan) الرابع من مارس/آذار 2024 موعد بدء محاكمة ترامب في التهم الموجهة إليه بمحاولة قلب نتائج الانتخابات الرئاسية، وعرقلة عملية قيام مجلس الشيوخ بالتصديق على انتخاب جوزيف بايدن رئيسًا للولايات المتحدة. القاضية أوضحت أن فترة المحاكمة يجب ألا تزيد عن أربعة إلى ستة أسابيع، هذا الموعد يأتي بعد اجراء انتخابات حزبية للمرشحين الجمهوريين في خمس ولايات. والأهم من ذلك، أنه يأتي قبل يوم واحد مما يسمى “بالثلاثاء العظيم” في الخامس من مارس/آذار، حيث ستجري الانتخابات الحزبية في 15 ولاية، بما فيها ولايات كبيرة غنية بالمندوبين الحزبيين من بينها كاليفورنيا وتكساس، ويمكن أن تساهم هذه النتائج في تحديد هوية المرشح الذي سيفوز بترشيح الحزب في المؤتمر الوطني للحزب في الصيف المقبل. وبعد الثلاثاء العظيم ستجري الانتخابات الحزبية في ولايتي فلوريدا وأوهايو الغنيتين بالمندوبين، حيث يحصل المرشح الفائز بالأكثرية البسيطة على جميع أصوات المندوبين في الولايتين. وهذا يعني أنه مع حلول أبريل/نيسان المقبل، يمكن أن يضمن ترامب ترشيح حزبه لمنصب الرئاسة، حيث ستصبح المقارنة بين جدول تواريخ الانتخابات الحزبية، وجدول تواريخ محاكمات ترامب العديدة السمة الطاغية على أغرب انتخابات حزبية أولية في تاريخ البلاد. وبغض النظر عما سيحدث في محاكمات ترامب، أو ما سيقرره الناخبون الجمهوريون في الانتخابات التمهيدية، فإن الاسم الذي سيهيمن بثقله الكبير على المشهد الانتخابي بمجمله هو دونالد ترامب.
خلال المناظرة الأولى للمرشحين الجمهوريين في الأسبوع الماضي التي قاطعها ترامب، تعهد ستة من بين ثمانية مرشحين بدعم ترامب إذا رشحه الحزب بعد صدور أحكام قضائية ضده. وكان من بين هؤلاء المرشح رون ديسانتس حاكم ولاية فلوريدا، الذي تضعه استطلاعات الرأي في المرتبة الثانية بعد ترامب وإن بمسافة واسعة، وكذلك نائب الرئيس السابق مايك بينس وسفيرة واشنطن السابقة في الأمم المتحدة نيكي هايلي. المرشحان اللذان لم يوافقا على تأييد ترامب كانا حاكمي ولايتي نيو جيرسي وأركنساس كريس كريستي وآيسا هاتشيسون على التوالي. ترامب الحاضر الغائب كان عمليًا الفائز في هذه المناظرة.
وإذا صدرت عن هذه المحاكم عقوبات ضد ترامب، فإن ذلك سيوفر لمنافسيه ربما الفرصة الأخيرة لمحاولة إقناع قادة الحزب أو الناخبين في الولايات التي لم تجر فيها الانتخابات الحزبية، بأنهم لا يستطيعون سياسيًا، إن لم يكن قانونيًا، تأييد مرشح صدرت أحكام جنائية ضده أثناء قيامه باستئناف هذه الأحكام في محاكم الاستئناف. وهذه هي النقطة السياسية-القانونية التي يركز عليها دائما المرشح كريس كريستي، الذي يطالب حزبه بعدم “تطبيع” أو “شرعنة” سلوك ترامب غير القانوني والمشين أخلاقيًا.
طبعًا، هناك حالة انعدام يقين في أوساط الحزب الجمهوري لأنه لا توجد هناك سوابق لما يفعله ترامب حاليًا بالحزب الجمهوري. دفاع معظم المرشحين الجمهوريين عن ترامب وإدانتهم لمقاضاته، والتأييد العلني لقادة الحزب الجمهوري في مجلس النواب للرئيس السابق، وصمت بعض قادة الحزب في مجلس الشيوخ، هي مواقف تعكس قلق أو خوف هذه القيادات من القاعدة الجمهورية الضيقة، ولكن المتحمسة والمتشددة لترامب. كل ذلك يوضح صعوبة أو استحالة قيام حركة في أوساط قادة الحزب الجمهوري للتخلص من المرشح ترامب.
بعد تحديد الرابع من مارس/آذار المقبل لبدء محاكمة ترامب، قرعت افتتاحية لصحيفة وال ستريت جورنال، التي تتعاطف تقليديًا مع الجمهوريين، ناقوس الخطر حين قالت إن المرشح “ترامب قد يضمن ترشيح الحزب الجمهوري قبل صدور الأحكام القضائية ضده، وقبل أن يعرف الناخبين أنه أصبح مجرم مدان”، وتابعت، “وهذا الأمر بالتأكيد سوف يفرح الديموقراطيين”.
احتمال وصول الحزب الجمهوري إلى هذا المأزق التاريخي، أي فوز ترامب بأكثرية أصوات المندوبين الحزبيين بعد صدور أحكام بتجريمه، وقبل أشهر من موعد المؤتمر الوطني للحزب الذي سيرشحه لمنصب الرئاسة رسميًا، يعني أن المؤتمر الحزبي قد يشهد محاولات يائسة للتخلص من ترامب، ويحول المؤتمر الحزبي إلى ساحة معركة غير محسومة مسبقًا، كما هو الحال في المؤتمرات الوطنية للحزبين منذ 1980، وهي السنة الأخيرة التي اجتمع فيها حزب وطني لاختيار مرشحه الرئاسي قبل أن يحسم الاختيار مسبقًا. في تلك السنة انعقد مؤتمر الحزب الديموقراطي في مدينة نيويورك لحسم المواجهة بين الرئيس جيمي كارتر، الذي سعى للتجديد لولاية ثانية، في مواجهة التحدي الذي فرضه عليه السناتور إدوارد كينيدي، الذي واصل حملته حتى انعقاد المؤتمر، حين انسحب خلاله بعد إلقائه خطابا، فّسر على أنه تضمن تأييدًا فاترًا للغاية للرئيس كارتر. هذا التحدي الداخلي للرئيس كارتر كان من بين الأسباب التي أدت إلى خسارته للانتخابات في وجه المرشح الجمهوري رونالد ريغان. وجدير بالذكر، أنه خلال انتخابات الرئاسة عام 1976، تحدى المرشح ريغان، الرئيس جيري فورد آنذاك. ذلك التحدي تسبب في خسارة فورد لصالح المرشح جيمي كارتر.
هناك رأي سائد يقول إن ترامب يريد العودة إلى البيت الأبيض لأكثر من سبب أبرزها أنه يريد الافلات من قبضة القانون، وهو يعتقد إن إعادة انتخابه ستوفر له مناعة قانونية، لأنه سيكون قادرًا – برأيه – على إصدار عفو عن نفسه. المشكلة هي أنه لا يوجد هناك اجماع بين خبراء القانون حول ما إذا كانت صلاحيات الرئيس تشمل صلاحية العفو عن نفسه.
الولايات المتحدة هي على موعد تاريخي وخطير مع موسم انتخابي أبسط ما يمكن أن يقال فيه أنه سيكون غريبًا ومثيرًا وسرياليًا وغير معهودًا، وحافلًا بالمفاجآت والمفارقات، وبعضها يمكن أن يكون مكلفًا ومؤلمًا.