ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
ليس سرا أن بعض وزراء الرئيس ترامب وكبار مساعديه لديهم اجتهادات ومواقف تختلف عن مواقفه، وأن هذه التباينات التي تشمل قضايا سياسية واستراتيجية وقيمية، تبرز للعلن خلال الأزمات والأوقات العصيبة، كما رأينا خلال أحداث مدينة شارلوتسفيل الدموية قبل أسابيع، أو كما حدث عقب انفجار النزاع داخل مجلس التعاون الخليجي في مطلع حزيران- يونيو الماضي. إخفاق الرئيس ترامب في توجيه إدانات واضحة للتنظيمات العنصرية والنازيين الجدد الذين تسببوا بالعنف، أثارت استياء مسؤولين بارزين من بينهم غاري كوهين مستشار ترامب للشؤون الاقتصادية، ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، اللذان وجها انتقادات علنية للرئيس وابعدا نفسيهما عنه. كما أدلى وزير الدفاع جيمس ماتيس خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط بتصريحات أمام الجنود الأمريكيين فسرت على أنها نقد مبطن للرئيس ترامب. ومما لا شك فيه أن مواقف هؤلاء المسؤولين تعكس إحباطهم وقلقهم على سمعتهم ومكانتهم، ويمكن أن تتطور، ربما في حالة تيلرسون إلى تمرد أقوى، بسبب وجود اجتهادات متناقضة بين ترامب وتيلرسون حول قضايا خارجية حساسة مثل طبيعة الدور العسكري الأمريكي في أفغانستان، والموقف من الاتفاقية النووية مع إيران، والخلاف الكبير والعلني بينهما حول الأزمة القطرية، وكيفية معالجتها.
وكان من المستغرب أن ترامب لم يرد على مواقف وزرائه ومساعديه، لا بتغريداته اللاذعة، فضلا عن الإقالة. وقال مسؤولون في البيت الأبيض في تصريحات خاصة للصحفيين إن ترامب يدرك أن إقالته لمسؤول بارز مثل كوهين سيؤثر سلبا على خططه لإصلاح قانون الضرائب، وهي مسألة يتابعها كوهين عن كثب، أيضا لأن لكوهين مؤيديه في الأسواق المالية في نيويورك، كما لن يكون من السهل على ترامب تعيين بديل سريع له. وما ينطبق على كوهين يصح على تيلرسون، خصوصا مع ضرورة استحصال مصادقة مجلس الشيوخ على أي بديل. كما أن التوقيت ليس لصالح ترامب في ظل العلاقات المتوترة مع كوريا الشمالية وإيران، ومع بقاء عدد هام من المناصب العالية في وزارة الخارجية شاغرة، حتى بعد ثمانية أشهر من بدء ولاية ترامب. ويعتقد أن مواقف تيلرسون، وخلافاته العلنية مع ترامب وخاصة حول معالجة الأزمة القطرية، تعكس إحباطه المتزايد من ترامب، وربما إدراكه أن ايامه في وزارة الخارجية باتت معدودة.
لا أفق لحل الأزمة القطرية
أجرى الرئيس ترامب يوم الأربعاء اتصالا هاتفيا بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، وحث فيه “جميع الأطراف المعنية بالنزاع القطري على إيجاد حل دبلوماسي وفقا لالتزامات قمة الرياض، والتمسك بوحدة الصف في مكافحة الإرهاب”. جاءت المكالمة قبل أيام من وصول أمير الكويت صباح الأحمد الجابر الصباح إلى واشنطن للاجتماع بالرئيس ترامب في السابع من أيلول/سبتمبر الجاري، حيث ستكون الوساطة الكويتية لحل الأزمة القطرية في طليعة القضايا التي سيبحثها الطرفان. جاءت هذه التطورات على خلفية قول مصادر مطلعة أن المبعوث الأمريكي الجنرال المتقاعد أنتوني زيني، لا يرى بوادر أي حل قريب للأزمة بين قطر من جهة والسعودية ودولة الإمارات ومصر والبحرين من جهة أخرى، وأنها مرشحة لأن تبقى مفتوحة لأشهر وربما سنوات. وتشير المصادر إلى أن كلا من الطرفين المتنازعين يحضر نفسه للتعايش مع المأزق الراهن لوقت طويل، وقبوله على أساس أنه “الوضع العادي الجديد”. وفي هذا السياق يقوم كل طرف الآن بتعبئة حلفائه الإقليميين والدوليين، لمواجهة طويلة الأمد تلعب فيها وسائل الاعلام التي يملكها أو يؤثر عليها كل طرف دورا هاما. وتمتد جبهة التماس في هذه المواجهة من عواصم الخليج وشرق المتوسط، وتنتهي في واشنطن وجبهاتها الفرعية من أروقة الكونغرس إلى مكاتب البيت الأبيض والوزارات والأجهزة الحكومية المختلفة، وصولا إلى قاعات مراكز الأبحاث، التي يمول بعض برامجها هذا الطرف الخليجي أو ذاك.
وتلتقي مصادر أمريكية رسمية وأخرى أكاديمية على القول إن أحد أسباب بقاء الأزمة القطرية دون حل قريب يعود لوجود اجتهادين متضاربين للأزمة في واشنطن، التي أخفقت منذ بداية المواجهة في التحدث بصوت واحد بشأنها. ويميل البيت الأبيض ومعه وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) إلى دعم “الرباعية” العربية ضد قطر، التي اتهمها ترامب علنا في بداية الأزمة بتوفير الدعم المالي “ومن أعلى المستويات” للتنظيمات الإرهابية. وكان من اللافت في بيان البيت الأبيض حول مكالمة ترامب والملك سلمان، الإشارة إلى أنهما ناقشا “ضرورة هزيمة الإرهاب، وقطع تمويل الإرهابيين، ومكافحة أيديولوجية التطرف”، وهذه كلمات ومفاتيح رمزية استخدمها ترامب في السابق خلال حديثه عن دعم قطر للإرهاب. المصادر تشير إلى أن مدير وكالة سي آي أي، مايك بومبيو، يشدد على ضرورة الضغط على قطر لجهة قطع علاقاتها الوثيقة بالتنظيمات الإسلامية المتطرفة.
ولكن قطر ليست دون اصدقاء نافذين في الحكومة الأمريكية، وخاصة في وزارتي الخارجية والدفاع. المقربون من الوزيرين تيلرسون وماتيس، قالوا إنهما كانا منزعجين منذ بداية الأزمة لأكثر من سبب أبرزها أسباب آنية مثل قيام ممثلي الرباعية بإبلاغ البيت الأبيض قبل ساعات من تطبيق الإجراءات العقابية ضد قطر، وتأجيل إبلاغ الوزارتين حتى وقت لاحق. الوزير تيلرسون، الذي تربطه علاقة وثيقة بالعائلة المالكة في قطر طورها حين كان رئيسا لشركة إكسون- موبيل، رأى أن مطالب الرباعية من قطر “تعجيزية”، كما اعتبر أن اغلاق السعودية للحدود البرية مع قطر وحرمان طيرانها من التحليق في اجواء الرباعية بالأمر غير المبرر، ما سهّل على قطر القول إنها تتعرض إلى “حصار” وليس “مقاطعة”. وهكذا تحولت كلمة “حصار” إلى صرخة المعركة من وجهة النظر القطرية.
وقالت لنا مصادر مطلعة في الكونغرس إن الوزير تيلرسون، الذي أراد أن يترجم انزعاجه من الرباعية إلى إجراء عملي، هو الذي حض السيناتور الجمهوري بوب كوركر رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ على الإعلان بأنه سيرفض الموافقة على أي صفقات أسلحة لدول مجلس التعاون الخليجي، حتى التوصل إلى طريق واضح يؤدي إلى حل للأزمة القطرية. وقال كوركر في رسالة بعثها إلى تيلرسون بعد أقل من ثلاثة أسابيع من بدء الأزمة أن الخلافات الأخيرة بين دول مجلس التعاون تعطل الجهود الرامية “إلى مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وبلاد الشام” وكذلك “مواجهة إيران”.
وتقول المصادر المقربة من وزير الدفاع ماتيس إنه يتفهم كليا استياء الرباعية من دعم قطر للتنظيمات الإسلامية المتطرفة وتدخلها في الشؤون الداخلية لهذه الدول وغيرها، ولكنه في الوقت ذاته يرى أنه كان يمكن تفادي الأزمة. كما أعرب ماتيس عن انزعاجه لكيفية إدارة الرباعية للأزمة. وأبلغ ماتيس الرباعية أن أولوياته في الخليج، هي مواصلة الحرب الجوية ضد داعش في العراق وسوريا، وهي حرب تعتمد إلى حد كبير على استخدام القوات الجوية الأمريكية لقاعدة العديد القطرية، وأيضا ردع إيران في الخليج، وهو أمر يتطلب وحدة موقف من الجانب العربي. وفي هذا السياق يقول دبلوماسيون أمريكيون متقاعدون خدموا في عواصم مجلس التعاون، أن الأزمة سهلت على قطر تعزيز وتبرير تعاونها العسكري مع تركيا. وأشار أحدهم إلى أنها المرة الأولى منذ انهيار الامبراطورية العثمانية يتم فيها نشر قوات تركية في الخليج. المصدر ذاته أشار إلى أن الأزمة سمحت لإيران بتوسيع الهوة بين قطر والسعودية والإمارات بالتحديد، بعد رفع العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى تبادل السفراء وزيادة اعتماد الدوحة على الدعم الآتي من طهران وعلى أكثر من مستوى.
بداية النهاية لمجلس التعاون الخليجي؟
وقال لنا مسؤول أمريكي سابق خدم في أكثر من عاصمة خليجية إن “قطر ليست بريئة، من تهم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة، وليست بريئة من تهم دعم التنظيمات الإسلامية المتطرفة وحتى الإرهابية، وأنا لا أتحدث عن دعمها المعروف لحماس، وقبل ذلك لحزب الله، ولكن ايضا للتنظيمات الإرهابية التي رأينا أعمالها الدموية في سوريا في السنوات الماضية”. وتابع الدبلوماسي المتقاعد، “ولكن اغلاق الحدود، والاجواء والمطالبة بإغلاق وسائل الاعلام التي تدعمها قطر وغيرها، والطريقة التي تم فيها الإعلان عن هذه المطالب، لم تكن فعالة، وأدت إلى ردود عكسية”. وأضاف المسؤول السابق إلى أن إدارة المواجهة الإعلامية من قبل الرباعية كانت متعثرة، مشيرا إلى تسريب مصادر في الرباعية للوثائق الموقعة بين قطر والسعودية في 2014، وبعضها مكتوب بخط اليد للحفاظ على سريتها، إلى شبكة سي أن أن الدولية بعد أيام من اندلاع الأزمة. وتبين الوثائق أن خصوم قطر اعطوها فرصة انذاك لحل الخلافات دبلوماسيا وبسرية تامة. ووفقا للدبلوماسي المتقاعد، كان يجب تسريب الوثائق قبل اندلاع الأزمة، لأنها تبين أن للأزمة الحالية جذور قديمة، وأن خصوم قطر حاولوا احتواء خلافاتهم معها عبر اتصالات وتفاهمات سرية قبل أن يلجأوا إلى الإجراءات العلنية. وخلص المسؤول السابق إلى القول مازحا أن الرباعية “حققت ما هو صعب علينا للغاية: التعاطف مع دولة قطر”. وأشار المسؤول السابق، إلى أن الطرفين وضعا نفسيهما في موقع صعب، لا يستطيع فيه أي طرف أن يبدو ضعيفا، لأنه سيخسر ماء الوجه، مع ما يحمله ذلك من مضاعفات وخيمة.
وللمرة الأولى، يرى عدد متزايد من المحللين السياسيين والعسكريين في واشنطن، أن الأزمة بين الرباعية وقطر، والتي همشت المجلس ككتلة سياسية-أمنية مرشحة إلى تؤدي إلى تعرضه للشلل الكلي، إن لم يكن رسميا فعلى الأقل عمليا. وحتى قبل الأزمة الراهنة، كانت هناك خلافات بين بعض دول المجلس، كانت إحداها الخلاف الذي نشب بين السعودية ودولة الإمارات من جهة، وسلطنة عمان من جهة أخرى بعد الكشف عن أن السلطنة كانت قد استضافت المفاوضات الأمريكية- الإيرانية السرية خلال ولاية الرئيس السابق باراك أوباما التي سبقت المفاوضات العلنية بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد، وأدت إلى الاتفاق النووي. وليس سرا أن السعودية ودولة الإمارات غير راضيتين عن العلاقة الوثيقة والتقليدية بين سلطنة عُمان وإيران. الحياد العماني في حرب اليمن، وهو حياد تنظر اليه السعودية والإمارات بريبة، أبرز إلى العلن مرة أخرى وجود اجتهادات وخلافات لا يمكن تجاهلها بين الطرفين، وإن كانت هذه الدول لا ترى مصلحة في جعل هذه الخلافات تتفجر في أزمة علنية. وهناك مؤشرات عديدة، بعضها مؤشرات إعلامية واضحة تظهر استياء السعودية ودولة الإمارات من الحياد العماني والكويتي في المواجهة الراهنة بين قطر والرباعية، وهذا من بين أسباب عدم حدوث أي تقدم نوعي في جهود الوساطة الكويتية.
الاجتهادات الأمريكية المتباينة لحل الأزمة القطرية، وتسليم الأطراف المتنازعة بأن الازمة مرشحة للبقاء على الأقل لأشهر إن لم نقل لسنوات، تعني أن جهود الوساطة أيا كانت، إما ستعلّق، أو إذا بقيت رسميا، فإنها ستبقى بالاسم فقط، إلاّ إذا حدث تحول نوعي وجذري ومفاجئ في موقف أي من الطرفين، وهو أمر غير متوقع على الأقل في المستقبل المنظور.