الخلافات السياسية والثقافية والاجتماعية بين الناخبين الديموقراطيين والجمهوريين عميقة وكثيرة، ولكن القاسم المشترك بينهم هو استيائهم من تكرار المواجهة الانتخابية بين الرئيس جوزيف بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني 2024. تؤكد جميع استطلاعات الرأي في الأشهر والأسابيع الأخيرة هذه المشاعر، التي يعبر عنها أكثرية الناخبين، بمن فيهم تلك الشريحة الهامة التي تحسم الانتخابات الرئاسية، أي الناخبين المستقلين. صحيفة وال ستريت جورنال تطرقت إلى مشاعر القلق والاستياء وانعدام اليقين، التي ستسيطر على مشاعر الناخبين خلال الأشهر الستة عشرة، التي تفصلهم عن يوم الانتخابات، حين وصفتها “بالانتخابات المخيفة”.
حتى الآن، يوضح المشهد الانتخابي إن الرئيس بايدن، الذي يقول 33 بالمئة فقط من الأميركيين إن إعادة انتخابه سيمثل خطوة إلى الأمام، يواجه تحديًا من مرشحين ديموقراطيين، هما المحامي والناشط روبرت كينيدي الابن (Robert F. Kennedy Jr) والكاتبة ماريان وليامسون (Marianne Williamson). يمكن أن يرغم المرشح كينيدي الرئيس بايدن على القيام بنشاطات انتخابية في شمال شرق البلاد، حيث هناك تعاطف تقليدي مع عائلة كينيدي، ولكن ليس من المتوقع أن يواجه بايدن تحديًا حقيقيًا من كينيدي أو وليامسون، على الرغم من غياب الحماس الشعبي لترشيحه.
السباق الجمهوري في المقابل مثير أكثر، وتاريخي بامتياز، لأنه يشمل أول رئيس سابق، دونالد ترامب، يواجه تهم جنائية فيدرالية يمكن أن توصله إلى السجن، ونائبه مايك بينس (Mike Pence) الذي رفض ضغوط ترامب لمشاركته في تزوير انتخابات 2020، حين صدّق على انتخاب الرئيس جوزيف بايدن. وأول امرأة جمهورية نيكي هايلي (Nikki Haley)، الحاكمة السابقة لولاية ساوث كارولينا، والتي لها تاريخ سياسي جدي. وأول حاكم لولاية غنية بأصواتها في المجمع الانتخابي، حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتس (Ron DeSantis)، الذي تضعه استطلاعات الرأي في مركز المنافس الأبرز لترامب. هناك أيضًا المرشح كريس كريستي، (Chris Christie) الحاكم السابق لولاية نيوجيرسي، وأيسا هاتشينسون (Asa Hutchinson)، الحاكم السابق لولاية أركنساس، وغيرهم.
على الرغم من التحديات القانونية الخطيرة التي يواجهها ترامب، والتي أثرت سلبًا على شعبيته، كما يتبين من آخر استطلاع لشبكة التلفزيون سي إن إن، إلا أنه لا يزال السياسي الجمهوري الأول في البلاد، والذي لا يزال يتمتع بمناعة نسبية تحميه من انتقادات بعض منافسيه، الذين بدأوا في الأسابيع الماضية يوجهون إليه الانتقادات الخجولة، باستثناء المرشحين كريس كريستي وأيسا هاتشينسون، اللذين حملاه مسؤولية مشاكله القانونية.
وحتى في حال صدور أحكام بالسجن بحق ترامب، في الدعوى الموجهة إليه في فلوريدا، والتي تضم لائحة من 37 تهمة، تشمل الاحتفاظ بوثائق سرية للغاية، وإخفائها عن المحققين، وعرقلة تحقيق وزارة العدل، فإن ذلك لن يمنع ترامب من مواصلة حملته الانتخابية من وراء القضبان. يمكن لترامب – نظريًا على الأقل – أن ينجح في الفوز بولاية ثانية في الانتخابات، وإذا وجد ترامب نفسه في زنزانة في سجن فيدرالي، فإنه لن يكون أول مرشح لمنصب الرئاسة، الذي يواصل حملته الانتخابية كمجرم (Felon) يقضي عقوبته في السجن. فقد سبقه إلى ذلك في سنة 1920 المرشح يوجين ديبس (Eugene Debs)، الذي فاز بترشيح الحزب الاشتراكي للرئاسة خلال قضائه لعقوبة 10 سنوات في السجن، بسبب معارضته للتجنيد العسكري خلال الحرب العالمية الأولى. المرشح ديبس فاز بثلاثة بالمئة من الأصوات، ما يعادل مليون ناخب.
ما ينص عليه الدستور للترشح لمنصب الرئاسة هو شروط بسيطة: أن يكون سنّ المرشح 35 سنة على الأقل، وأن يكون مولودًا في الولايات المتحدة (أي غير مجنّس لضمان عدم وجود ولاء لأي دولة أخرى)، وأن يكون قد اقام بشكل دائم في الولايات المتحدة على مدى 14 سنة على الأقل.
إرهاق تلك الشريحة المتنامية من الناخبين الجمهوريين والناخبين المستقلين من ترامب له أكثر من سبب، من بينها انتهاكاته للقوانين والأعراف، وأسلوبه الصدامي ولغته التحريضية ومواقفه المتطرفة، والتي يعتبرها الكثيرون عنصرية، كما أن هناك قلق في هذه الأوساط من احتمال صدور أحكام وعقوبات بحقه بسبب الدعاوى العديدة التي يواجهها، أو المتوقعة ضده، إضافة إلى سنه المتقدم. وسوف يكون ترامب في التاسعة والسبعين من عمره في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2024، حين يختار الأميركيون رئيسهم المقبل.
السنّ المتقدم هو كعب أخيل الرئيس بايدن بامتياز. وحتى قبل انتخابه، يركز الجمهوريون على سنه المتقدم ويشيرون ضمنًا، وأحيانا بشكل فظ ومباشر إلى ما يعتبرونه انحسار قدراته الذهنية، على الرغم من عدم وجود أدلة على ذلك، كما يتبين من نشاطات ومواقف بايدن العلنية، وملكته للمعلومات والقضايا المعقدة، ويقولون أنه لا يستطيع أن يطلب من الأميركيين أن يراهنوا على بقائه بصحة جيدة جسديًا وذهنيا إلى حين انتهاء ولايته الثانية، في حال إعادة انتخابه حين يصبح في السادسة والثمانين من عمره.
يقول المراقبون المحايدون إن التحديات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والعلمية التي تواجهها الولايات المتحدة والعالم في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، من تحدي التغيير البيئي، إلى صعود الدول الاوتوقراطية التي تهدد الاستقرار العالمي (الغزو الروسي لأوكرانيا وتهديدات الصين لجزيرة تايوان)، مرورًا بحماية الملكية الفكرية للمخترعات التي تؤدي إلى مواجهات تجارية عالمية، وأخيرا التحدي الذي يمثله بروز الذكاء الاصطناعي في التقنيات والصناعات الجديدة، وتأثيراته الاجتماعية والثقافية العميقة وحتى الخطيرة، كلها تحديات تتطلب قيادة أميركية حيوية وشابة، قادرة على استيعاب هذه التحديات ومعالجتها.
ويتمنى هؤلاء، ومعهم أكثرية الأميركيين، سباقًا رئاسيًا مختلفًا، يجلب إلى البيت الأبيض والمؤسسات الحكومية جيلًا جديدًا من القادة الشباب القادرين على عبور هذه التحديات الاستراتيجية والعلمية إلى حقبة جديدة، كما فعلت الولايات المتحدة حين قلبت، خلال ولاية الرئيس الشاب جون أف. كينيدي، التحدي السوفياتي في الفضاء، وحققت وعد الرئيس كينيدي بأن تكون الولايات المتحدة أول دولة تصل إلى القمر، وبأن تسبق الاتحاد السوفياتي في اكتشاف الفضاء والكواكب المحيطة بالأرض.
عندما تم انتخاب الرئيس كينيدي في نوفمبر/تشرين الثاني 1960 كان عمره 43 سنة، ما جعله أصغر رئيس في تاريخ الولايات المتحدة. في المقابل، عندما انتخب الرئيس بايدن، كان عمره 77 سنة، ما يجعله أكبر رئيس ينتخب في تاريخ الولايات المتحدة. الرئيس الأسبق باراك اوباما، الذي كان بايدن نائبًا له، انتخب حين كان عمره 47 سنة. الرئيس جورج بوش الابن الذي سبقه كان عمره 54 سنة حين أُنتخب، أما سلفه الرئيس بيل كلينتون فقد كان عمره 46 سنة حين أُنتخب رئيسًا. حيوية وشباب الرئيس هي من الصفات التي تنعكس إيجابا في معظم الأحيان على المزاج العام في البلاد.
في آخر استطلاع اجرته مجلة أيكونوميست، ما بين 10 و13 يونيو/حزيران الجاري، قال 59 بالمئة من الناخبين أنهم لا يريدون أن يسعى الرئيس بايدن إلى تجديد ولايته، بينما وافق 26 بالمئة فقط منهم على دعم ترشيحه لولاية ثانية. في المقابل قال 56 بالمئة من الناخبين أنهم لا يؤيدون ترشح ترامب مرة ثانية للرئاسة، بينما دعمه 33 بالمئة فقط. أما بالنسبة للناخبون المستقلون، الذين يحسمون عادة السباق إلى البيت الأبيض، فقد قالت أكثرية منهم، أي 64 بالمئة، أنها تعارض ترشيح بايدن، بينما قالت أكثرية من 59 بالمئة أنها تعارض ترشيح ترامب.
صحيح إن هناك أقل من سنة تفصلنا عن الانتخابات الحزبية الأولية، إلا أن المشهد الانتخابي الراهن يضع المرشحين بايدن وترامب في المقدمة، كما أن وسائل الإعلام تركز عليهما، وكأن عملية ترشيحهما رسميًا من قبل حزبيهما قد انتهت. وهكذا يجد معظم الناخبين الأميركيين أنفسهم أمام أمر واقع لا يريدونه، ويعانون من احباط واسع لأن الخيارات الأخرى إما غير عملية أو غير جذابة.
هذه الغربة التي يشعر بها الناخب الأميركي تجاه الطبقة السياسية بحزبيها البارزين، سوف تقلص من نسبة الاقبال على الانتخابات، وإلى اضعاف ثقة الناخبين الأميركيين بالعملية السياسية والانتخابية، في الوقت الذي لا تزال فيه البلاد تعاني من المضاعفات السلبية العميقة للخلافات الحادة التي ميزت انتخابات 2020، وأدت إلى اجتياح مبنى الكابيتول، الذي لا تزال الولايات المتحدة تعيش تردداته الخطيرة حتى الآن.