قبل أيام من الذكرى الثانية للغزو الروسي لأوكرانيا، ومع دخول الحرب في غزة شهرها الخامس حيث تشارك الولايات المتحدة عسكرياً في بعض جبهاتها الإقليمية، وقبل تسعة أشهر من موعد الانتخابات الرئاسية، ومع استمرار الخلل السياسي في واشنطن، والذي يمنع الحزبين من تحقيق حتى الحد الأدنى من التعاون بينهما حول القضايا والتحديات الجسيمة التي تواجه البلاد، نجد أن القضية التي تحظى باهتمام وانشغال وتعليقات الأوساط السياسية والإعلامية في واشنطن هي السنّ المتقدم لكلا المرشحين المتوقعين للحزبين الديموقراطي والجمهوري لمنصب الرئاسة، الرئيس جوزيف بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب، وجدارتهما الذهنية والمعرفية لتحمل المسؤوليات الصعبة والمعقدة التي يتطلبها هذا المنصب الحساس. وحين يتوجه الناخبون في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل إلى مراكز الاقتراع، سوف يصوتون إما للرئيس بايدن الذي سيكون في الثانية والثمانين من العمر، أو لترامب الذي سيكون في الثامنة والسبعين من العمر.
هذه هي المرة الأولى التي سيختار فيها الناخب الأميركي بين مرشحين لمنصب الرئاسة هما الأكثر تقدماً في السّن في تاريخ الولايات المتحدة. وفقاً لمختلف المؤشرات السياسية والانتخابية، فقد حسم بايدن وترامب عملياً معركة اختيار كل حزب لمرشحه في بداية الانتخابات الحزبية التمهيدية وليس في نهايتها. ومع أن الفارق في السن بين المرشحين هو أقل من أربع سنوات، إلا أن معظم التعليقات السلبية والمخاوف في الأوساط السياسية وفي وسائل الاعلام تركز على بايدن، الذي بدا عليه التقدم في السنّ في السنوات الأخيرة، وعلى هفواته وكبواته اللفظية وذاكرته البطيئة، أكثر مما تركز على ترامب الذي يبدو وكأنه أصغر من بايدن بأكثر من أربع سنوات، على الرغم من أن هفواته اللفظية وذاكرته غير المتيقظة، واستخفافه بالوقائع، هي في الواقع أسوأ من هفوات بايدن وكبواته وارتباكه.
العمر المتقدم لكلا المرشحين برز كعقبة، أو كمسألة مثيرة للجدل، منذ إعلان كل من بايدن وترامب رغبتهما بالترشح لولاية ثانية. ولكن هذه المسألة هيمنت بشكل سافر ومحرج على الخطاب السياسي في البلاد في الأسبوع الماضي بعد أن أصدر المحقق الخاص روبرت هير (Robert Hur) تقريره حول الوثائق السرية الرسمية التي وجدت بحوزة الرئيس بايدن، وقوله أنه لم يتهم الرئيس بايدن بانتهاك القانون لأن أي هيئة محلفين سوف تجد أنه “رجل عجوز وحسن النية وذو ذاكرة ضعيفة”. وسرد المحقق تفاصيل، رأى العديد من المراقبين وأنصار الرئيس، أنها غير ضرورية، وربما عكست ميوله السياسية بصفته جمهوري، ومن المسئولين الذين عينهم ترامب في وزارة العدل، مثل قوله إن بايدن لم يتذكر السنة التي توفي فيها نجله المحبوب بو (Beau)، أو السنوات التي خدم فيها كنائب للرئيس باراك أوباما، وأنه وجد خلال استجواب الرئيس بايدن أن هناك “حدود لقدرته على تذكر الماضي”.
هذا التقويم لذاكرة الرئيس بايدن، وقدرته على استعادة الماضي، أثار غضب الرئيس ومساعديه، وخاصة بعد أن سارع الرئيس السابق ترامب وقادة الحزب الجمهوري لاستغلال هذا التقويم للتشكيك بالقدرات الذهنية والعقلية للرئيس. الرئيس السابق ترامب سخر من “الذاكرة الضبابية” لبايدن، وقال لأنصاره، “لا أعتقد انه يدرك أنه لا يزال على قيد الحياة “. وقرر المسؤولون في البيت الأبيض مساء الخميس الماضي تنظيم مؤتمر صحفي سريع للرئيس بايدن لإيضاح موقفه من تقرير المحقق وتقويمه لذاكرته. تحدث بايدن بلهجة غاضبة، وقال أن ذاكرته جيدة، ورأى أن المحقق تطرق إلى أشياء خارج صلاحياته. وتميزت أجوبة بايدن على اسئلة الصحفيين بالغضب، وخلال إجابته على سؤال حول الوضع في غزة أشار إلى الرئيس “المكسيكي” عبد الفتاح السيسي، ما أبرز من جديد الشكوك بذاكرته الضعيفة، التي أراد وضع حد نهائي لها.
وسارع المسؤولون في الحملتين الانتخابيتين إلى استخدام سنّ كل مرشح وهفواته اللفظية وارتباكه في رسم صورة كاريكاتورية للمرشح الأخر. الجمهوريون ادعوا أن المسؤولين في البيت الابيض “يسيئون معاملة رجل عجوز”. الديموقراطيون قالوا إن قدرات ترامب العقلية تنحسر باستمرار، وبأنه مرتبك بشكل دائم. وتنافست الحملتين في جمع “الأدلة” حول التحديات الذهنية التي يواجهها كل من المرشحين، وتذكير الناخبين بهفواتهما المحرجة: الرئيس السابق ترامب الذي اثنى على الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان وقيادته للجمهورية التركية، ولخلطه بين المرشحة الجمهورية نيكي هايلي ورئيسة مجلس النواب السابق نانسي بيلوسي، حين كرر ولأكثر من مرة في خطاب له أن نيكي هايلي اخفقت في حماية مبنى الكابيتول خلال اجتياحه من قبل أنصار ترامب فور خسارته للانتخابات. الرئيس بايدن الذي قال في خطاب أخير له انه اجتمع مؤخرًا بالرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران (المتوفي قبل عقود) حين كان يقصد الرئيس ايمانويل ماكرون، كما خلط بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والمستشار الراحل هيلموت كول.
ومنذ صدور تقرير المحقق روبرت هير، والسنّ المتقدم للمرشحين طغى على التغطية الإعلامية في وسائل الاعلام المكتوبة والمرئية، وفي وسائل الاتصال الاجتماعي، ونشرت كبريات الصحف مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست والوال ستريت جورنال والمواقع الالكترونية الهامة عشرات المقالات والتعليقات حول هذا الموضوع، ما دفع بالمعلقة الاعلامية مارغريت ساليفان لانتقاد هذه الظاهرة في مقال بعنوان “المنطق الدائري للإعلام والهاجس المدمر بسنّ بايدن”. واشارت سوليفان (Margaret Sullivan) إلى تساءل صحف مثل نيويورك تايمز لماذا يتسبب سنّ بايدن وذاكرته الضعيفة وهفواته اللفظية بإيذائه أكثر بكثير مما تؤذي هذه الاشياء ذاتها دونالد ترامب؟ وخلصت سوليفان إلى القول أن وسائل الإعلام تساهم في تضخيم هذه المسألة والمبالغة بتأثيرها على الرئيس بايدن. ويمكن ملاحظة وجود عدد كبير من التعليقات التي نشرتها كبريات الصحف لكتبة العواميد الذين يساهمون فيها دورياً حول سنّ المرشحين، وخاصة سنّ الرئيس بايدن، وما إذا كان عمره المتقدم يجب أن يدفعه للانسحاب من السباق الانتخابي.
ما هو مؤكد هو أن 59 بالمئة من الأميركيين وفقا لاستطلاع اجرته شبكة التلفزيون أي بي سي ومؤسسة أيبسوس يقولون أن بايدن وترامب متقدمان في السن لكي يخدم أي منهما كرئيس للبلاد. حملة المرشحة الجمهورية لمنصب الرئاسة نيكي هايلي طرحت المنافسة بين بايدن وترامب على أنها بين “العجوز الخرف” [بايدن] “والعجوز المختل” [ترامب].
ما هو مؤكد أيضا هو أن الرئيس السابق ترامب يرتكب هفوات أكثر وأخطر من الرئيس بايدن، ويتخذ مواقف سياسية متهورة وغير مسؤولة، وخارجة عن الأعراف وعما هو مقبول تقليدياً في الخطاب السياسي، مثل ادعائه قبل أيام أنه لن يبالي بما ستفعله روسيا تجاه أي دولة عضو في حلف الناتو تتقاعس عن إنفاق 2 بالمئة من مجمل دخلها على ميزانيتها العسكرية. ولكن حتى الآن، فإن هفوات وارتباك ترامب وضبابية تفكيره لم تعرضه لانتقادات مماثلة لتلك التي يتعرض لها بايدن. وجاء في استطلاع لصحيفة نيويورك تايمز وجامعة سيينا أُجري في ست ولايات محورية أن أكثرية الناخبين يقولون أن لديهم تحفظات جدية حول سنّ الرئيس بايدن، حيث قال 70 بالمئة منهم أن بايدن متقدم جدا في السن ليخدم كرئيس للبلاد. ولكن أقل من نصف هؤلاء الناخبين أعربوا عن تحفظات مماثلة تجاه المرشح ترامب.
ويفسر بعض المحللين هذا التباين في مواقف الناخبين من رجلين مسنيّن يرتكبان هفوات مماثلة، وكيف أن الانطباع العام عن الرئيس بايدن سلبي إلى حد ما مقارنة بدونالد ترامب المعروف بمواقفه المتهورة يعود إلى حد كبير إلى الصفات والميزات الخارجية والجسدية للرجلين. كما أن التقدم بالسن يبدو مختلفاً بين انسان وآخر. الرئيس بايدن أصبح نحيلاً أكثر مع تقدمه بالسن، وشاب شعره وأصبح أقل كثافة، وأصبح صوته خافتاً أكثر، وخطابه أقل حيوية، كما أنه يتلعثم أكثر، وهو الذي كان يعاني من التأتأة عندما كان يافعاً، وتغلب عليها إلى حد كبير لاحقاً. وفي السنوات الماضية، أصبحت خطوات بايدن ثقيلة أكثر، حيث يبدو وكأنه يجر قدميه جراً وهو يمشي. هذه العوامل بدت نافرة حين تعرض بايدن لبعض الحوادث المحرجة، مثل وقوعه عن دراجته، أو تعثره ووقوعه على أحد المنابر.
بالمقابل، لا يبدو ترامب وكأنه يصغر بايدن بأقل من أربع سنوات فقط، وهو يصبغ شعره بلون أشقر برتقالي، وله سمرة غير طبيعية ويضع الماكياج. هيكله الجسدي أكبر وأطول من هيكل بايدن، وهو يستخدم كثافته الجسدية لطرح نفسه كرجل صلب وقوي، خاصة أمام جمهوره، وما يساعده على ذلك صوته الجهوري، وقدرته على التحدث – وإن بشكل مفكك ومرتبك – لوقت أطول بكثير من الرئيس بايدن. وحين يخاطب جمهوره فإنه يصفق معهم، وأحيانا كثيرة يرقص على خلفية الأغاني التي تستخدمها حملته قبل خطبه، ويلوح بيديه بحيوية ظاهرة. كما تحتوي خطبه على المواقف المباشرة والقوية، ولا تخلو من الترهيب والتهديد في محاولات واضحة لخلق الانطباع بأنه قائد قوي لا يخاف خصومه. هذه العوامل كلها ساعدت ترامب على خلق الانطباع بأن عمره المتقدم ليس سلبياً، كما هو الحال بالنسبة للرئيس بايدن.
ويرى بعض المراقبين أنه إذا واصلت حملة بايدن على إبقاء الرئيس بعيداً عن الجماهير، وتقليص نشاطاته الانتخابية والسيطرة عليها، وابعادها عن أي عفوية، وإذا واصل بايدن تحفظاته على إعطاء المقابلات الصحفية أو تنظيم المؤتمرات الصحفية، وهو من أكثر الرؤساء الأميركيين في العقود الأخيرة الذين تفادوا التعاطي مع وسائل الاعلام، فإن ذلك سوف يضره في حملته الانتخابية لأنه سيخلق الانطباع بأن مساعديه يريدون “حمايته” من وسائل الاعلام، ومن التعاطي المباشر مع الناخبين. ويوم الأحد الماضي تساءل الكثير من المعلقين والمواطنين عن أسباب امتناع بايدن، للسنة الثانية على التوالي عن اعطاء مقابلة لشبكة التلفزيون التي تغطي أكبر حدث رياضي أميركي سنوي، أي بطولة كرة القدم الأميركية التي يشاهدها مئات الملايين في الولايات المتحدة والعالم؟
طبعًا، تقدم بايدن في السن سوف يستمر، وهذا أمر لا يستطيع هو أو أي من مساعديه تغييره أو التخفيف من وطأته، وعلى بايدن مواجهة سنّه وبطئه بصراحة وبروح النكتة، وحتى بالسخرية، تمامًا كما تعامل الرئيس الراحل رونالد ريغان مع سنه المتقدم قبل عقود. المواجهة الغاضبة بين بايدن والمراسلين المعتمدين في البيت الأبيض يوم الخميس الماضي، جعلته يبدو في موقع دفاعي ضعيف، وقللت من مكانته الرئاسية.
يبقى أن الناخبين الاميركيين محقين في احباطهم او استيائهم من طبقة سياسية فرضت عليهم مرشحين، أحدهما في عقده الثامن، والثاني سوف يبدأ في حال انتخابه عقده الثامن في البيت الأبيض، وهذا خيار غير منصف لهم أو لدولة بأهمية الولايات المتحدة تواجه تحديات سياسية وعسكرية واقتصادية وتقنية، تتطلب قيادة حيوية وشابة نسبياً وملمة بالتحديات التي يفرضها “الذكاء الاصطناعي”، والمتغيرات العلمية العميقة التي تغير وبسرعة معالم الاقتصاد والتقنيات داخل كل مجتمع وكذلك العلاقات الدولية. الهاجس الراهن للأوساط السياسية والاعلامية بالسن المتقدم لبايدن وترامب مؤشر محرج لما يمكن تسميته بؤس العملية الانتخابية الأميركية.