في الأسابيع القليلة الماضية، تعرضت الحكومة السورية المؤقتة لعدة انتكاسات، مما يثير تساؤلات حول أدائها الأولي، الذي حظي بالكثير من التقدير عقب سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024. تسلط هذه التطورات الأخيرة، بما فيها العنف المتصاعد في محافظة اللاذقية، والفشل المتواصل في رفع العقوبات الاقتصادية الدولية، الضوء على الضغوط الشديدة التي تتعرض لها هذه الحكومة السورية الجديدة. ولكن من ناحية إيجابية، تمكنت الحكومة من تحقيق إنجازاً حقيقياً، يتمثل في التوصل إلى اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تسيطر على شمال شرق سوريا، يقضي بدمجها في الجيش الوطني السوري.
تشكل أعمال العنف التي اندلعت في محافظة اللاذقية قبل عدة أيام، في المناطق التي تعتبر معقل الأقلية العلوية، أحدث انتكاسات الحكومة وأكثرها تدميراً. ينتمي آل الأسد، حكام سوريا السابقون وأهم رجال النظام السوري السابق للطائفة العلوية. في الأسبوع الماضي، قُتل ما يصل إلى 1000 شخص، ومن ضمنهم عدد كبير من المدنيين، وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يتخذ من بريطانيا مقراً له، على الرغم من أن الأرقام الدقيقة لا تزال غير مؤكدة. وقدمت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي تتخذ من البلاد مقراً لها، أرقاماً أقل بكثير، ولكنها أيضاً مروعة من حيث عدد الضحايا. وأفادت مصادر الحكومة السورية بمقتل حوالي 300 من عناصر قواتها الأمنية.
خروج الأوضاع عن السيطرة
تشير الروايات الإعلامية إلى أن أعمال العنف اندلعت في السابع من مارس/آذار عندما نصبت عناصر الميليشيات الموالية لنظام الأسد المخلوع كميناً لمجموعة من قوات الأمن الحكومية أثناء انسحابها من إحدى البلدات التي سيطرت عليها القوات الموالية للأسد، وقتلت 16 عنصراً منهم. وقد أدى ذلك إلى رد فعل قوي من قبل عناصر الميليشيات الموالية للحكومة وقيادتها التي تهيمن عليها هيئة تحرير الشام، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف لخروج الأمور عن السيطرة بشكل متزايد. وقد وثقت منظمات حقوق الإنسان السورية عشرات الإعدامات في صفوف المدنيين. ومن الواضح أيضاً أن المؤشرات المتزايدة حول قيام الموالين للأسد بتمرد مسلح في القرداحة، المعقل السابق لآل الأسد، قد أجج من شراسة رد فعل القوات الموالية للحكومة. ويبدو أن دعوات الحكومة في الأسابيع الأخيرة للعناصر الموالية للأسد لتسليم أسلحتهم قد ساهمت كذلك في تأجيج الأجواء المتوترة، والتي أفضت إلى موجة العنف هذه. وأفاد المراقبون أن العنف قد بلغ ذروته في العاشر من مارس/آذار، وبدأ ينحسر في المحافظة الساحلية، رغم وقوع حادثة في دمشق ليلة التاسع من مارس/آذار، حيث هاجم مسلحون مجهولون موقعاً أمنياً حكومياً في حي المزة، الأمر الذي يثير التساؤل حول ما إذا كان قد تم احتواء العنف بالكامل.
للمرة الأولى منذ سقوط نظام الأسد، وجدت الحكومة السورية نفسها في موقف دفاعي حرج، حيث تراجع أداؤها، الذي فاق التوقعات، بشكل كبير. فقد أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع عدداً من التصريحات، دعا فيها بدايةً للتهدئة والوحدة الوطنية، وحث قواته على مواصلة التحلي بضبط النفس؛ ومع انتشار أخبار العنف، أشار إلى أن الحكومة قد صُدمت، إلى حد ما، من حجم العنف الذي قوض قدرتها على الحفاظ على السيطرة؛ ولكنه سعى لتهدئة مخاوف السوريين، عن طريق بالتعهد بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في أعمال العنف ومحاسبة الجُناة. في وقت لاحق، أصر الشرع على أنه ينبغي فهم اندلاع العنف على أنه استفزاز من جانب عناصر نظام الأسد السابق، بمساعدة قوى أجنبية.
دول الخليج تعلن دعمها وتطالب برفع العقوبات
أصدرت حكومات دول الخليج، إلى جانب دول أخرى في المنطقة، وهيئات إقليمية مثل جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، بيانات تؤكد فيها على دعم الحكومة السورية، وتلقي باللائمة في أعمال العنف على الجماعات المسلحة التي تستهدف قوات الأمن الحكومية. ودعت الأمم المتحدة إلى ضبط النفس وحماية المدنيين ومحاسبة الجناة. كما شددت الولايات المتحدة على ضرورة المحاسبة، وأعربت عن دعمها للأقليات العرقية والدينية في سوريا. في المقابل، كانت إسرائيل الحكومة الوحيدة من بين الحكومات المجاورة لسوريا التي وجهت انتقادات لاذعة للحكومة السورية. ورداً على أعمال العنف، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس الشرع بأنه “إرهابي جهادي من مدرسة القاعدة يرتكب أعمالاً مروعة ضد السكان المدنيين”.
وفي حين أن أعمال العنف التي اندلعت في محافظة اللاذقية تعد الأكثر دموية منذ سقوط الأسد وحتى الآن، إلا أنها لم تكن حادثة العنف الأولى ذات الصبغة الطائفية في الفترة الأخيرة. ففي نهاية شهر فبراير/شباط، تم نشر قوات حكومية إضافية في بلدة جرمانا الدرزية في ضواحي دمشق، بعد أن أسفرت الاشتباكات هناك عن مقتل ضابط أمن وإصابة تسعة آخرين. وسعت إسرائيل لإقحام نفسها في الصدام بين الحكومة السورية والعناصر الدرزية، حيث نقلت وسائل الإعلام عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قوله، “إذا ألحق النظام الأذى بالدروز – فسوف نؤذيه”. لكن قادة الدروز السوريين رفضوا علناً عرض المساعدة الإسرائيلي.
خطط إسرائيل لمنطقة جنوبية منزوعة السلاح وحكم ذاتي موسّع للأقليات
اندلعت اشتباكات بين الحكومة السورية والعلويين والدروز في الوقت الذي بدأت فيه إسرائيل توضح للشركاء الدوليين والحلفاء معارضتها لفرض حكومة الشرع سيطرتها على كامل الأراضي السورية، وإعادة فرض السيادة السورية. حتى في الوقت الذي حققت فيه دمشق إنجازات دبلوماسية حاسمة مع حكومات الخليج والمنطقة على نطاق أوسع وأوروبا، فإن إسرائيل تتدخل بخطاباتها وتحركاتها العملية، للدفع نحو رؤية فيدرالية موسعة لسوريا، تقوم على حكم ذاتي قوي للأقليات العرقية والدينية، وخاصة الدروز في جنوب سوريا، وكذلك أيضاً للعلويين في الغرب، والأكراد في الشمال الشرقي. يقترن هذا الحكم الذاتي المعزز للأقليات في سوريا بوجود حكومة مركزية ضعيفة. ومن شأن هذا النموذج، الذي تروج له إسرائيل في أوساط المجتمع الدولي، أن يفرض قيوداً شديدةً على السيادة السورية التي تمارسها الحكومة بقيادة الشرع. وقد اقترح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر هذه الرؤية لسوريا في اجتماع مع وزراء الاتحاد الأوروبي في بروكسل في أواخر فبراير/شباط، ومع مسؤولين أمريكيين في واشنطن والقدس. كما يصرّ كبار المسؤولين الإسرائيليين على وجوب بقاء جنوب سوريا بأكمله “منزوع السلاح“، وهو مصطلح عرّفوه بأنه يعني عدم السماح لقوات حكومة الشرع بدخول المنطقة.
أما على الصعيد العملياتي، وتعزيزاً للخطاب والوثائق الاستراتيجية، فقد قصفت إسرائيل بشكل دوري أهدافاً في جنوب سوريا منذ سقوط الأسد مستهدفةً مواقع عسكرية في بلدة الكسوة على بعد 12 ميلاً من دمشق في أواخر فبراير/شباط. كما شنت القوات الإسرائيلية غارات في جنوب سوريا للاستيلاء على أسلحة. وقد شُنت بعض الغارات على مواقع بعيدة عن المنطقة العازلة التي تفصل سوريا عن مرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل. وكان قد تم إنشاء هذه المنطقة العازلة كجزء من اتفاق وقف إطلاق النار بين البلدين عام 1974.
تقدم تدريجي على صعيد رفع العقوبات
بالإضافة لأعمال العنف في المناطق الجنوبية والغربية في الأسابيع القليلة الماضية، لم تحقق الحكومة السورية سوى نجاح محدود في جهودها لرفع العقوبات الاقتصادية الغربية، على الرغم من إقناع السعوديين والقطريين والتجمعات الإقليمية بالمطالبة برفعها. كما أن الاستثناء المحدود نسبياً لمدة ستة أشهر، الذي تم الحصول عليه قبل مغادرة إدارة الرئيس جوزيف بايدن، والإجراءات الأوسع نطاقاً التي اتخذها وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في الأسابيع الأخيرة لتخفيف العقوبات المفروضة على النفط والغاز والكهرباء والنقل – بالتزامن مع رفع تجميد الأصول عن خمسة بنوك سورية – لم يحقق ما يكفي من الإنجازات. ولا يزال الوضع الإنساني الكارثي مهيمناً، حيث يعتمد 70% من السوريين في البلاد على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة. ولا تزال حكومات الخليج مثل حكومة قطر، التي التزمت بتمويل زيادة رواتب الموظفين الحكوميين، الذين هم بأمس الحاجة إليها، مترددة في المضي قدماً في اتخاذ تدابير أساسية كبديل مؤقت، خوفاً من مخالفة قيود قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين والعقوبات الأمريكية الأخرى. كما تستمر العقوبات في حجب مئات المليارات من الدولارات على شكل استثمارات أجنبية ومساعدات إعادة الإعمار اللازمة لإعادة إعمار سوريا. ويقوم مسؤولون سوريون بجولات، كان آخرها حضور وزير الخارجية أسعد حسن الشيباني لاجتماع حكومات دول الجوار في عمّان، واجتماعه بمسؤولي دول مجلس التعاون الخليجي في مكة بهدف حشد الدعم لرفع العقوبات، وهو ما تتجاهله واشنطن باستمرار. والأخطر من ذلك بالنسبة للحكومة السورية الجديدة، هو أن أعمال العنف الأخيرة في اللاذقية قد توفر لصناع السياسة الأمريكية مبرراً إضافياً للإبقاء على العقوبات، رغم أن النظام الوحشي الذي فُرضت عليه هذه العقوبات، وهو نظام الأسد، لم يعد موجوداً.
صفقة تاريخية مع الأكراد في الشمال الشرقي
في خضم هذه الانتكاسات الأخيرة والمتواصلة، حققت الحكومة نجاحاً لافتاً في العاشر من مارس/آذار، حيث توصل الشرع إلى اتفاق مع قائد قسد، اللواء مظلوم “كوباني” عبدي، لدمج قواته في مؤسسات الدولة السورية. وقد وقّع القائدان هذا الاتفاق التاريخي في دمشق، واتفقا على الدمج بحلول نهاية العام. كما سيؤدي الاتفاق إلى دمج المؤسسات المدنية التابعة لقسد، التي تسيطر على معظم الإدارات المحلية والمجتمع المدني في الشمال الشرقي الاستراتيجي. كما سيتم أيضاً دمج حقول النفط والغاز ذات الأهمية الحيوية في الشمال الشرقي، ومطار القامشلي في محافظة الحسكة، والمعابر الحدودية الخاضعة لسيطرة قسد منذ عام 2011. وقد وصف عبدي الاتفاق بأنه “فرصة حقيقية لبناء سوريا الجديدة”. وقد تم في الاتفاق الاعتراف بالأكراد، الذين يمثلون حوالي 10% من سكان سوريا، كمجتمع أصلي ومنحهم كامل الحقوق السياسية والدستورية، وهو اعتراف بالغ الأهمية لمجموعة تم تهميشها بصورة منتظمة في سوريا، وتعرضت في ظل نظامي الأسد الأب والابن لمحاولات تهدف إلى تجريد أعداد كبيرة من جنسيتهم السورية.
من المرجح أن يكون تنفيذ الاتفاق في غاية الصعوبة، ومن شبه المؤكد أنه سيبقى هناك غموض يكتنف المعلومات المعلنة حول مدى التنازلات التي قدمها كل طرف للتوصل للاتفاق اللازم. ولكن يبقى الاتفاق إنجازاً يستحق التقدير لكلا الطرفين. بالنسبة لقسد، وبناءً على التفاصيل الدقيقة لهذا الاتفاق، من المرجح أنه سيسمح لهذه القوات بفرض سيطرتها التامة في الشمال الشرقي، حيث إن حكومة الشرع منهكة لدرجة عدم تمكنها من أن تنازع على كل منعطف تسيطر عليه قسد في المنطقة. ومن المتوقع أن تكشف صياغة الاتفاق والتفاصيل التنفيذية التي ستظهر مع مرور الوقت عن أن حكومة الشرع ستكتفي بالقيادة الشاملة والسيطرة الاستراتيجية على الحدود، ووضع صيغة معينة لتقاسم عائدات النفط، بينما تقلص في الوقت نفسه بعضاً من نفوذ قسد في المناطق غير الكردية من الشمال الشرقي، مثل محافظة دير الزور. كما أن الاتفاق سيساعد قسد في التخلص من الضغوط التركية المتزايدة، إذ تنظر أنقرة إلى تنامي قوة قسد العسكرية ونفوذها السياسي، نتيجة تحالفها مع الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش، بعين القلق. ويبدو من الواضح أيضاً أن السياسة الكردية في تركيا – ولا سيما الدعوات الأخيرة التي وجهها زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) عبد الله أوجلان من سجنه لنزع سلاح الحزب الذي يتزعمه، ووقف الصراع المسلح ضد تركيا – قد لعبت كذلك دوراً غير مباشر في تسهيل التوصل لهذا الاتفاق (وضمان دعم تركيا له). وبعدها أعلن الحزب وقف إطلاق النار.
من شأن هذا الاتفاق أن يعيد رسم خريطة المشهد السياسي في سوريا، بعد أن قلبت موجة العنف البغيضة في محافظة اللاذقية، وتلك المتأججة في الجنوب، والتي تضمنت قصفاً وغارات من قبل القوات الإسرائيلية، موازين الأمور. وبصرف النظر عن الاتفاق، فإنه يتعين على الحكومة السورية التحقيق في أعمال العنف في اللاذقية ومحاسبة المتورطين فيها، وينبغي عليها أيضاً تكثيف جهودها الدبلوماسية لرفع العقوبات. كما أن الشفافية في المساءلة والمحاسبة، وتعزيزها بالمتابعة النزيهة على صعيد الحوار الوطني الأخير، مع الإشارة للتقدم في الإصلاحات الدستورية والانتخابات في نهاية المطاف، والانتقال السياسي الذي يتمتع بالمصداقية في سوريا، من شأنها أن تدعم الجهود الدبلوماسية الرامية لإقناع الحكومات الغربية المتشككة بالتحرك بشكل أسرع وأقوى في اتجاه رفع العقوبات الاقتصادية الخانقة.