لقد وجهت عمليات الإغلاق الصارمة وغيرها من التدابير المشددة لمكافحة فيروس كورونا في دول الخليج العربية ضربةً للصناعات الإقليمية من الطيران إلى السياحة والضيافة. ومع ذلك، لا يزال الاقتصاد الرقمي في الخليج نشطًا -وفي بعض القطاعات – يتأهب لنموٍ متسارع. وتثير سرعة تبني التطبيقات والمنصات الرقمية وتطبيقها أسئلة مهمة لصُناع السياسات الاقتصادية في الخليج. فهل من فرصٍ لجني فوائد استثمارات الاقتصاد الرقمي في البلاد؟ وكيف يمكن للشراكات التجارية القائمة على التكنولوجيا أن تشكل العلاقات الخارجية؟
أدت المخاوف الصحية الناجمة عن تفشي فيروس كورونا عالميًا إلى تحول مفاجئ نحو العمل عن بعد. ومن المرجح أن يثبت الاستخدام الأوسع للمنصات الرقمية، والطلب على الخدمات الرقمية تأثيره الكبير على اقتصادات الخليج على المدى الطويل. تساعد تطبيقات التطبيب عن بُعد (Telemedicine) والرعاية الصحية ومنصات التجارة الإلكترونية وبرامج التعلم عبر الإنترنت وخدمات التكنولوجيا المالية سكان الخليج على الامتثال لإجراءات السلامة العامة الصارمة.
لقد ترسخت هذه الأساليب الرقمية لتبادل المعلومات بعمق في سلوكيات المستهلك. وتنصح الهيئات الحكومية مثل هيئة الصحة بدبي السكان بتجنب استخدام العملات الورقية المادية، ما أدى إلى زيادة المدفوعات الإلكترونية الجارية في جميع أنحاء العالم. وفي حين أن العديد من أشكال التبادل الاقتصادي التقليدية والمادية ستعود في نهاية المطاف، إلا أنه من غير المرجح أن يتراجع الطلب الجديد على الخدمات والتطبيقات الرقمية.
بدت آفاق النمو للاقتصاد الرقمي في الخليج واعدة قبل تفشي جائحة فيروس كورونا. حيث تمتلك جميع دول الخليج العربية أجندات تحول رقمي كالتزام سياسي ومالي بإقامة اقتصادات قائمة على المعرفة. ويتوقع أن تنمو إيرادات خدمات الكلاود (cloud) الإلكترونية العامة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 21٪، لتصل إلى حوالي 3 مليارات دولار في عام 2020، وفقًا لتقديرات جارتنر.
وعلى نحو مشابه، ساهم الدخل الفردي ومستويات نفاذ الإنترنت المرتفعة في احتمالية نمو التجارة الإلكترونية. ووفقًا لشركة باين & كومباني (Bain & Company)، فإن النمو السنوي في قطاعات التجارة الإلكترونية لدول الخليج العربية ومصر يبلغ 30٪. هنالك تفاؤل في التوقعات بتصاعد المبيعات في سوق التجارة الإلكترونية في الخليج عام 2022، لتتجاوز 41 مليار دولار. ورغم الاحتمال القوي بأن تعمل الصدمة المزدوجة الناجمة عن فيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط على تثبيط طلبات المستهلكين في مجالات معينة على المدى القصير والمتوسط، إلا أنه من غير المرجح أن يتغير المسار الواسع لتوقعات النمو هذه بشكل كبير.
لقد سعت دول الخليج العربية إلى المواءمة بين أجندات التحول الرقمي ومبادرات محددة في التنمية الاقتصادية. تتوقع وثيقة الخمسين، التي أصدرتها إمارة دبي، وجود مدينة تجارية افتراضية قادرة على استضافة 100 ألف شركة. وينظر مسؤولو مجلس التنمية الاقتصادية في البحرين إلى قرار أمازون ويب سيرفيسز (Amazon Web Services) بفتح مقرها الإقليمي في البحرين على أنه دليل على استراتيجية ناجحة في وضع البلاد كمركز لاستضافة البيانات. وزد على ذلك، تسعى بحرين فينتك باي (Bahrain Fintech Bay) إلى تطوير فرص جديدة لتنمية قطاع تمويل متكامل. وتخطط جامعة السلطان قابوس لاستضافة مؤتمر دولي في أكتوبر/تشرين الأول حول الكيفية التي يمكن من خلالها أن يحقق التحول الاقتصادي والرقمي رؤية عُمان 2040.
يتحول كبار قيادات الأعمال في الصناعات التقليدية في دول الخليج بشكل متزايد إلى المنصات والتطبيقات الرقمية الجديدة، وذلك لتحسين قدراتهم على التكيف وزيادة الربحية. وتقدم الشركات التي تتخذ من الإمارات العربية المتحدة مقرًا لها أمثلة وجيهةً على ذلك. أنشأت شركة بترول أبو ظبي الوطنية (أدنوك) مركز بانوراما للتحكم الرقمي في عام 2018، واستثمرت ما يقارب 13.6 مليون دولار في هذه المبادرة. ووفقًا لما ذكره مسؤول كبير في أدنوك، فإن مركز التحكم الرقمي قد حقق أكثر من مليار دولار من قيمة الأعمال التجارية، من خلال توفير التكاليف وتطوير الكفاءة. في أواخر عام 2019، شكلت شركات الدفاع المملوكة للدولة في الإمارات العربية المتحدة تكتلاً بقيمة 5 مليارات دولار(ايدج)، لتطوير الصناعات الدفاعية ذات التقنية العالية التي، حسب مهمة المجموعة، سوف “تزود السوق بتقنيات مبتكرة، وخدمات متطورة بسرعة وكفاءة أكبر”.
وقد سرّع الانتشار العالمي لفيروس كورونا هذا التوجه التجاري. في أبريل/نيسان، أعلنت شركة موانئ دبي العالمية عن أدوات وخدمات جديدة عبر الإنترنت لزيادة رقمنة إدارة الخدمات اللوجستية و”الحفاظ على استمرارية الحركة التجارية خلال الأزمة الحالية”، وفقًا لـ سلطان أحمد بن سليم، الرئيس التنفيذي للشركة. إن الشركة التي تتخذ من دبي مقرًا لها قد استحوذت مسبقًا على برامج رقمية –ومن ضمنها SeaRates.com، و LandRates.com، وAirRates.com– كما أسست أيضًا تحالف الشحن الرقمي (Digital Freight Alliance)، وهو اتحاد لوكلاء الشحن عبر الإنترنت.
في الواقع، لا تعتبر الرقمنة السريعة للتبادل الاقتصادي هي العلاج. وليس من المرجح أن يؤدي الطلب المتزايد على الخدمات الرقمية واعتماد منصات وتطبيقات رقمية جديدة إلى تعويض الفوائض وحالات الإفلاس وانخفاض الناتج الاقتصادي في مجالات أخرى من اقتصاد المنطقة. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي التباطؤ في صناعة الطيران إلى فقدان أكثر من 500 ألف وظيفة في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وحدهما. ويذكر أن صناعة الطيران في قطر قد شكلت 11٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام 2014، في حين كان مسؤولو دبي يأملون نمو قطاع الطيران ليصل إلى 37.5٪ من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2020.
لن تزدهر جميع الشركات التي تركز على التكنولوجيا في دول الخليج في ظل حالة الارتياب الناجمة عن جائحة فيروس كورونا وتوقعات سوق الطاقة. وتعتزم شركة “كريم”، التابعة لشركة أوبر تكنولوجيز (Uber Technologies) ومقرها دبي، للتخلص من 31٪ من قواها العاملة. حيث شهدت الشركة انخفاضًا في أعمالها بنسبة 80٪. وأوقفت شركة أوبر إيتس (Uber Eats) عملياتها في المملكة العربية السعودية، وحولت عملياتها في الإمارات العربية المتحدة إلى “كريم”. ويذكر أن شركة الإمارات للاتصالات المتكاملة، المعروفة باسم “دو” والتي تدير الاتصالات في الإمارات، قد أعلنت عن انخفاض بنسبة 21٪ في صافي الدخل في الربع الأول من عام 2020، إذا ما قورنت بأرقام 2019. وتتوقع الشركة قيودًا على أنشطة البيع، وتغييرًا في سلوك المستهلك، وتقليص الأنشطة السياحية والتجارية ما يعني مزيدًا من الانخفاض في الإيرادات في الربع الثاني.
سوف تحتاج بعض شركات التكنولوجيا المحلية إلى تعديل أساليب عملها. حتى كبار مزودي خدمات “الكلاود” الإلكترونية في العالم قد واجهوا صعوبات في ترجمة الطلب المتزايد إلى نمو في الإيرادات. وسوف يبقى تأمين العقود الجديدة من العملاء الحكوميين والهيئات التي تملكها الدولة في دول الخليج يشكل تحديًا في المستقبل المنظور. ومع ذلك، وفي خضم الطلب الكامن وراء الخدمات الرقمية، تصبح الربحية الهدف الأساسي. تواجه الشركات في الأسواق المتخصصة الأكثر تضررًا تحديات وجودية ملحة جدًا بسبب انعدام الطلب أو القيود الصارمة المفروضة عليه.
وبالرغم من تحديات السوق، تواصل الشركات الأجنبية التعبير عن اهتمامها بالاقتصادات الرقمية الخليجية. في 28 أبريل/نيسان، قامت لجنة الاختيار لـ هاب 71 (Hub 71)، وهو نظام بيئي تكنولوجي ناشئ يقع في سوق أبو ظبي العالمي، “بإعطاء الأولوية للشركات الناشئة العالمية في مجال تكنولوجيا الصحة وتكنولوجيا التعليم” عند اختيارها للفوج الجديد من المشاركين في البرنامج. وقامت شركة إن كنتري (InCountry) الواقعة في الولايات المتحدة، وهي منصة سريعة التوسع لاستقبال البيانات وحفظها، باختيار هوب 71 كمقرٍ لها في الشرق الأوسط. وقامت شركة وان كونيكت (OneConnect)، وهي شركة لخدمات تكنولوجيا المال وفرع لشركة التأمين الصينية Ping An، بعقد شراكة مع المختبر الرقمي ADGM لتوسيع الفرص التجارية في الشرق الأوسط.
تنظر شركات التكنولوجيا الصينية إلى أسواق الشرق الأوسط على أنها السبيل لتنمية العائدات الدولية. ووقعت هواوي مذكرة تفاهم مع وزارة التكنولوجيا والاتصالات العمانية في أوائل مايو/أيار، وهي الأحدث من بين سلسلة من الشراكات بين شركة التكنولوجيا الصينية والهيئات الحكومية الخليجية. في أبريل/نيسان، طرحت شركة تينسنت هولدنجز (Tencent Holdings) لعبة ساحة الشجاعة (Arena of Valor) الشهيرة في الشرق الأوسط كجزء من جهودها لجني نصف إيرادات الألعاب من الخارج. وهناك خطط إضافية لتوسيع المحطات والخدمات التي تعمل شركة ويتشات باي WeChat Pay على تفعيلها في الإمارات العربية المتحدة. كما أعلن المسؤولون السعوديون أن (eWTP Capital)، وهو صندوق مرتبط بمجموعة علي بابا الصينية، سوف يبني له مقرًا في مدينة الإعلام السعودية الناشئة.
قد تعمل أصول الاستثمارات الداخلية المباشرة في الاقتصاد الرقمي للخليج كنقطة توتر في العلاقات الخارجية. وحذر مسؤولون أمريكيون نظراءهم الإسرائيليين من تداعيات الأمن القومي للاستثمارات الصينية في شركات التكنولوجيا المتقدمة الإسرائيلية خلال فترة الركود الاقتصادي الناجم عن فيروس كورونا. وفي حين تسعى حكومات الخليج إلى شراكات تجارية فعالة، من حيث التكلفة، للمبادرات المتعلقة بالتكنولوجيا والشركات الإقليمية التي تسعى للحصول على رأس مال استثماري، فإن تدقيقًا مماثلًا قد يتحول نحو منطقة الخليج. وقد حذرت وزارة الخارجية الأمريكية حكومات الخليج من مغبة “تجاهل قيمة شراكاتها مع الولايات المتحدة”، عندما تنظر في العلاقات الاقتصادية مع بكين.
وتتزايد، على نحوٍ مماثل، المخاطر التي يفرضها موقع القدرات الرقمية وتطبيقها. حيث كشفت التسوية بين مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية وشركة سيتا (SITA)، وهي شركة سويسرية لتكنولوجيا المعلومات، أنه يمكن معاقبة شركات التكنولوجيا غير الأمريكية لانتهاكها نظام العقوبات الأمريكية.
قد تعتمد الحكومات الخليجية ميزانيات أصغر وتقلص من طاقتها على الإنفاق بعد أن ينحسر تهديد فيروس كورونا. ويعتبر هذا السيناريو الاقتصادي هو الأرجح، خصوصًا إذا بقيت أسعار الطاقة منخفضة وغير مستقرة. ومع ذلك، من المتوقع أن يزداد حجم النفقات المخصصة لتعزيز القدرات الرقمية للحكومات، والارتقاء بتنمية الصناعات التي تقوم على التكنولوجيا. إن الإنفاق الذكي أمرٌ ضروري لجلب أكبر قدر ممكن من قيمة هذه الاستثمارات إلى داخل البلاد، ومنع التوترات التي يمكن تجنبها في مجال السياسة الخارجية.