في 25 سبتمبر/أيلول، احتفل إقليم كردستان العراق بالذكرى السادسة لاستفتائه على الاستقلال. جاء هذا الاستفتاء التاريخي عندما كان النفوذ السياسي والعسكري والدبلوماسي للأكراد في ذروته عام 2017. ومع ذلك، فقد تسبب هذا التحرك الجسور نحو الاستقلال في سلسلة من الانتكاسات العويصة للإقليم، بما في ذلك خسارة 40% من الأراضي التي كانت تخضع لسيطرة الأكراد منذ عام 2014، وأكثر من 250 ألف برميل يوميًا من إنتاج النفط من حقول كركوك بسبب هجوم قوات الأمن العراقية. علاوة على ذلك، فقد تعرض الوضع القانوني لحكومة إقليم كردستان لتدقيق واعتداءات مكثفة، ليس فقط من الحكومة العراقية، وإنما من دول الجوار أيضًا.
منذ عام 2017، تنفذ بغداد استراتيجية شاملة تهدف إلى تعضيد السلطة في العراق عن طريق استخدام الضغوط القانونية والمالية والسياسية والعسكرية ضد حكومة إقليم كردستان. ويتجلى النهج المنظم ضد إقليم كردستان بشكل واضح في رسالة كتبها مؤخرًا رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان مسرور برزاني وموجهة للرئيس جوزيف بايدن. أعرب البرزاني في رسالته عن مخاوفه بشأن احتمال انهيار المشروع الكردي إذا لم تتدخل واشنطن لحماية الفيدرالية في العراق.
معركة العراق الاقتصادية والقانونية
لقد سعت بغداد جاهدة بكل السبل القانونية للحد من صادرات النفط الكردية، وتأكيد سيطرتها على موارد النفط الكردية. وتتمثل إحدى الاستراتيجيات المهمة التي اتبعتها بغداد في إدراج الشركات العاملة في الأنشطة النفطية في إقليم كردستان منذ عام 2007 دون موافقة بغداد على القائمة السوداء، ما يشكل تهديدًا قانونيًا، ويعمل بمثابة رادع لشركات النفط الدولية. بالإضافة إلى ذلك، لجأ العراق إلى محكمة التحكيم التابعة للغرفة التجارية الدولية ومقرها باريس، ورفع دعوى ضد تركيا بشأن دورها في تسهيل صادرات النفط الكردية عبر خطوط الأنابيب التركية. وقضت المحكمة في مارس/آذار بأن تركيا انتهكت اتفاقية خط الأنابيب بين تركيا والعراق عام 1973، وأمرت أنقرة بدفع نحو 1.5 مليار دولار لبغداد. ردًا على ذلك، أوقفت أنقرة صادرات النفط الكردي عبر ميناء جيهان التركي. وتسبب هذا في خسارة تصل إلى 5 مليارات دولار من إيرادات حكومة إقليم كردستان، ما تسبب في تباطؤ النمو الاقتصادي، وتأخير دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية في كردستان.
وبموازاة جهود الحكومة العراقية لتعزيز سلطتها على حساب حكومة إقليم كردستان، انخرط القضاء العراقي في صراع دستوري ضد إقليم كردستان. ونظرًا للإحباط من الخلل الوظيفي الذي يعاني منه القضاء في إقليم كردستان، لجأت أحزاب المعارضة الكردية إلى القضاء العراقي. في الأحكام المتعلقة بالدعاوى القضائية التي تقدمت بها أحزاب المعارضة الكردية، مثل الجيل الجديد وأعضاء البرلمان الأكراد يوسف محمد وسروى عبد الواحد وكاوا عبد القادر، أكدت المحكمة العراقية العليا اختصاصها القضائي، وطلبت رسميًا حل المؤسسات الحيوية، بما في ذلك البرلمان والمجالس المحلية التي تعد ضرورية للتشريع وصنع القرار، ما من شأنه أن يعرقل قدرة حكومة إقليم كردستان على العمل كحكومة طبيعية.
على الرغم من التردد الأولي لحكومة إقليم كردستان في الاعتراف باختصاص المحكمة العراقية العليا، توجهت حكومة إقليم كردستان تدريجيًا، ولو بنوع من التردد، نحو قبول قراراتها. ويرجع هذا بالدرجة الأولى إلى ضرورة التخفيف من التعقيدات المتزايدة في القضايا المستمرة حول الموازنة بين أربيل وبغداد. ومع خسارتها لأكثر من 90% من عائداتها النفطية، أصبحت حكومة إقليم كردستان في وضع متزعزع حيث أصبح الامتثال لأحكام المحكمة ضروريًا لمنع تدهور علاقتها مع الحكومة الفيدرالية.
تستغل بغداد ببساطة الانقسامات السياسية الكردية الداخلية والأخطاء التي ارتكبها الأكراد أنفسهم. وكان من الممكن تجنب بعض هذه النكبات لو التزمت حكومة إقليم كردستان ببرنامجها الانتخابي، وقدمت نموذجًا فعالاً للحوكمة. ومع ذلك، فإن الانقسامات السياسية بين الأحزاب الكردية قد أعاقت محاولات الحوكمة الرشيدة، كما أن تردد النخبة السياسية الكردية، إلى جانب الخلاف حول إجراء الانتخابات وفق قانون انتخابي جديد قد تصدر الأولوية على حساب المصالح الكردية الأكبر. حيث كانت آخر مرة جرى فيها انتخابات لإقليم كردستان في سبتمبر/أيلول 2018.
فقدان النفوذ السياسي
كان الأكراد يتمتعون ذات يوم بنفوذ سياسي كبير في بغداد، ولعبوا دورًا محوريًا في تشكيل الحكومة العراقية، على الأغلب من خلال المفاوضات التي جرت في أربيل، إلا أنهم قد فقدوا اليوم سلطة سياسية كبيرة في بغداد نظرًا لتضافر مجموعة من العوامل. لقد أدى الانقسام بين الفصائل الكردية إلى إضعاف موقفهم التفاوضي الجماعي في بغداد، الأمر الذي قلل من تأثيرهم كقوة سياسية موحدة للدفاع عن الحقوق الكردية. في حين أن الرئيس العراقي السابق، جلال طالباني، قد استفاد من فترة رئاسته، التي كانت حكرًا تقليديًا للأكراد، بما يتجاوز الحدود الدستورية، فقد كافح خلفاؤه لملء الفراغ الذي خلفه وفاته في عام 2017، واستخدام المنصب لممارسة نفوذ كبير في البلاد على المستوى الوطني. وفي الوقت ذاته، أدى تزايد الاستقرار وانخفاض العنف في بغداد إلى تعزيز قوة الحكومة المركزية، ما سمح لها بتركيز السلطة، وهو ما أسفر بدوره عن إضعاف الأكراد في الساحة السياسية. إن السيطرة على الأمور المالية وتركزها في حكومة بغداد قد مكنا الأحزاب الشيعية الحاكمة من التصرف بنوع من الإفلات من العقاب. إن رجوح كفة ميزان القوى لصالح الأحزاب الشيعية قد دفعها إلى تجاهل الدستور والاتفاقيات السابقة مع الأكراد. وفي حين تسبب هذا في تعزيز السلطة العراقية الفيدرالية بشكل ملحوظ – ونفوذ الأحزاب السياسية الشيعية – إلا أنه كلف الأكراد غاليًا في السلطتين السياسية والاقتصادية.
كما عملت النخبة السياسية الشيعية أيضًا على تقليص الحضور الكردي على الساحة الدولية. ففي حين كان الرئيس، وهو كردي، يمثل العراق في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أن رئيس الوزراء، وهو شيعي، قد حضر القمتين الماضيتين بدلاً منه، الأمر الذي حرم الأكراد من منصة مهمة للانخراط الدبلوماسي على المستوى العالمي.
التحديات الأمنية
كما اتخذت الحكومة العراقية إجراءات عسكرية لإضعاف إقليم كردستان. فقد نشطت قوات الحشد الشعبي، التي تعد مظلة للميليشيات الشيعية العراقية وتضم قوات موالية لإيران، في تجنيد الأكراد، وتبذل وزارة الدفاع العراقية جهودًا مماثلة لوضع كتائب الاتحاد الوطني الكردستاني على جدول رواتبها. وقد عمل الاقتتال الداخلي بين الأكراد على إعطاء الحكومة العراقية ميزة استراتيجية لتحقيق اختراقات عسكرية وأمنية في إقليم كردستان. علاوة على ذلك، عززت بغداد تواجدها على طول الحدود مع إقليم كردستان، ونشرت قوات وكاميرات للمراقبة. قامت القوات الشيعية شبه العسكرية التي تشكل جزءًا من قوات الأمن العراقية بمهاجمة الأكراد واستهداف البنية التحتية الرئيسية في المنطقة.
لم تكن بغداد الوحيدة التي تعمد إلى تقطيع أوصال السلطة السياسية والأمنية للأكراد. فقد صعدت تركيا بشكل كبير من عمليات المراقبة والضربات بالمسيرات في إقليم كردستان، في حين هددت إيران بتوغلات عسكرية محتملة بحجة استهداف جماعات المعارضة الكردية الإيرانية.
آفاق علاقة جديدة
يبدو أن ازدهار إقليم كردستان – ومدى الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية الكردية – على مدى العقدين الماضيين كان مرتبطًا بشكل مباشر بحجم الاضطرابات وعدم الاستقرار السائد في العراق. في السنوات الست الماضية، وبشكل أسرع في العامين الماضيين، كان النفوذ الفيدرالي العراقي، الذي يغذيه الاستقرار النسبي في معظم أنحاء البلاد، يتصاعد في ظل علاقة عكسية مع النفوذ في أربيل. يحتاج الأكراد لإقناع بغداد بأن مثل هذه المحصلة الصفرية ليست أمرًا حتميًا، يمكن لبغداد وأربيل أن يزدهرا معًا عبر تبني عقلية وسياسات مفيدة للطرفين. ومن خلال تبني تنمية كردستان كجزء لا يتجزأ من التنمية العراقية، فإنه يمكن للعراق أن يتحول إلى دولة قوية ومتماسكة، حيث يشعر الشعب الكردي بالاندماج الكامل. هذا هو الأمر الذي يجب على قادة الأكراد وصناع الرأي أن يفعلوه مع بغداد، ومن الأفضل أن يسبق ذلك وحدة سياسية كردية تكون أكبر مما يمكن حشده في الوقت الحالي. لطالما انزعجت بغداد، التي تجري حساباتها ببرود، من فكرة حظوة الأكراد في الوقت الذي كانت بقية البلاد تعاني، وتشعر بالمزيد من السعادة الآن مع انقلاب الحظوة لصالحها، ومن المرجح أن تبقى متشككة في سيناريوهات فوز الطرفين. إذا توفرت وحدة سياسية كردية أكبر، ربما يتمكن أكراد العراق من الإعداد وانتظار حدوث تحول في الظروف لتصبح مواتية بشكل أفضل للعلاقات والنفوذ المتوازنين بين أربيل وبغداد. في الوضع الحالي، تتمتع بغداد بالأفضلية وهي تفضل هذا الأمر.
إن الآراء الواردة هنا هي آراء خاصة بالكاتب أو المتحدث ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية في واشنطن أو موظفيه أو مجلس إدارته.