فيما تدخل دول الخليج فترة جديدة من هبوط أسعار النفط، تواجه مملكة البحرين أصعب اختبار، إذ إنّ نقطة التعادل المالي فيها هي الأعلى في الخليج، وخلافًا لجاراتها من الدول الأغنى منها، تفتقر البحرين للاحتياطات المالية القادرة على تغطية العجز في الموازنة لفترة طويلة. وكذلك، أصبح الاقتراض في سوق الائتمانات أصعب وأغلى، ففي شباط/فبراير، عانت البحرين من الوضع المخزي بأن تصبح البلد الأوّل في الخليج الذي انخفض تصنيفه الائتماني دون درجة الاستثمار، وأصبح من المحتّم إذًا القيام بتخفيضات مالية كبرى.
ومن المتوقّع ظهور تصدٍّ سياسي ملحوظ للتخفيضات التي ستلحق بالإعانات الحكومية والتوظيف، نظرًا لتاريخ البحرين المتميّز بالنشاط العمّالي والمجموعات السياسية القوية. إلّا أنّ الخطوات الأولى التي اتّخذتها الحكومة لتخفيف النزف المالي مرّت من دون ردّة فعل مجتمعية عكسية. فما الذي يفسر هذا الهدوء السياسي؟
مرحلة التقشّف الاقتصادي الجديدة
انضمّت الحكومة البحرينية إلى جاراتها من دول الخليج في اقتطاع قسم كبير من الإعانات الشعبية استجابةً لأسعار النفط المتدنية. فتمّ إلغاء الإعانات الخاصة باللحوم في تشرين الأول/أكتوبر 2015، ووصلت الأسعار إلى أكثر من ضعف قيمتها نتيجة لذلك. أمّا تخفيض إعانات البنزين في كانون الثاني/يناير فأدّى إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 60 في المئة. وكان من المتوقّع قطع إعانات الكهرباء والمياه تدريجيًّا في آذار/مارس عن الشركات الكبيرة والأجانب والبحرينيين الذين يملكون منزلًا ثانيًا. وحتى مع إمكانية التقدّم بطلب أمام الحكومة للحصول على تعويضات مبنية على الدخل، سيزيد غلاء تكلفة المعيشة الناجم عن هذه التغيّرات من الضغوطات على ميزانية الأسرة المعيشية.
ولن تتم الاستجابة للعجز المالي بالتخفيض من الإعانات فحسب، بل من المؤكد أن يتأثّر التوظيف والرواتب في القطاع العام أيضًا. فحدّت الحكومة في العام 2015 من عدد الوزارات ووضعت خططًا لدمج الهيئات الحكومية. ويبدو القطاع الخاص ملاذًا غير مضمون، إذ يواجه العدد المتزايد من البحرينيين المقبلين على فتح مؤسسات صغيرة ومتوسطة الحجم تكاليفَ أعلى، كما يواجه بعضهم انخفاضًا في طلب المستهلكين إثر هبوط الدخل المخصص للإنفاق. وسيُلمَس تردّي مستويات المعيشة خصوصًا في الطبقة الوسطى وبين الفقراء.
في هذا السياق، يدرك مواطنو الخليج وجود معيار جديد للحياة فيما تستجيب حكوماتهم معًا على ما يبدو لأسعار النفط المتدنية بتخفيض الدعم الحكومي. هذا وبدأ البعض، خصوصًا في عدد من مجتمعات الأعمال، يتقبّل عدم استدامة مستويات الإعانات والتوظيف الحكومي المضمون. إلّا أنّ تدابيرًا كهذه لا تزال غير محبّذة سياسيًّا.
وفي أوقات كهذه تتّسم بالتقشّف الاقتصادي، قد تسمح السلطات التشريعية المنتخبة في الحكومات الملكية في كلّ من البحرين والكويت ومؤخّرًا عُمان للمواطنين بالتنفيس عن الإحباطات السياسية، ويُحتمل أن تتفاوض على تشارك الأعباء. لكن يبدو أنّ الحكومة التي تترأسها العائلة المالكة في البحرين لا تجد مجالًا كافيًا للتسوية. وينتج ذلك عن تدهور مجموعات البحرين السياسية وديناميكياتها البرلمانية.
تدهور مجموعات البحرين السياسية
تركت خمس سنوات من الاضطراب السياسي والاستقطاب الاجتماعي بصمتها على السياسة في البحرين، إذ أُضعفت كافة المجموعات السياسية القانونية في البلاد (فالأحزاب السياسية ممنوعة في البحرين والخليج)، واستُبعِدت “جمعية الوفاق الإسلامية” الشيعية التي تمثّل المجموعة السياسية الأكبر في البلاد عن الساحة. وقدّم نوابها الـ18 استقالتهم معًا من البرلمان المؤلّف من 40 عضوًا ردًّا على قمع الحكومة للاحتجاجات السياسية بعنف في العام 2011، وقاطعت الجمعية الانتخابات النيابية في العام 2014. وحُكم على الأمين العام للجمعية الشيخ علي سلمان بالسجن لأربع سنوات في العام 2015 بتهمة التشجيع على العصيان والحث على الكراهية. ومُنعت التجمعات السياسية التي تعقدها الجمعية أسبوعيًّا في الشارع إثباتًا لشأنها منذ أن وسّعت البحرين إطار تشريعاتها المتعلقة بالإرهاب في العام 2013 لتشمل منعًا كاملًا للاعتصامات والتجمعات في العاصمة المنامة. فضلًا عن ذلك، تواجه “جمعية الوفاق” بشكل أساسي أزمة هوية، فهي نشأت في مرحلة إصلاح سياسي ووجدت جوهر وجودها في الالتزام الحكومي. وفي غياب كل عملية تفاوض أو تسوية حكومية كافية لإعادة “الوفاق” إلى النظام السياسي، يبقى شأنها وحتى وجودها بحدّ ذاته مهددين. إلى جانب ذلك، أضعف استبعاد “جمعية الوفاق” ائتلافَ المعارضة، ففي ظلّ الضغوطات الناجمة عن الطائفية المتزايدة بعد العام 2011، عانت المجموعات السياسية اليسارية الأصغر حجمًا المشارِكة في ائتلاف المعارضة الذي يشمل “جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد)” والشيوعيين في ” المنبر التقدمي الديمقراطي” والبعثيين في ” التجمع القومي الديمقراطي”، عانت من انسحابات من جبهة المعارضة لجزء من أعضائها، خصوصًا من السنّة. ويبدو أنّ هذه المجموعات تبتعد الآن عن “جمعية الوفاق” وتعمل على تشكيل تحالف ديمقراطي جديد. ولكن نظرًا لتقلّص صفوف المعارضة وحرمانها من القيادة بسبب الاعتقالات، يصعب على الائتلاف التأثير في الساحة السياسية.
ولم تنجُ المجموعات السياسية الإسلامية السنّية هي الأخرى من آثار الصخب السياسي، إذ واجهت قيادات جماعة “الإخوان المسلمين” والمجموعات السياسية السلفية في البحرين حراكًا جديدًا ذي أغلبية سنّية ظهر ردًّا على الانتفاضة السياسية الشيعية إجمالًا. إلّا أنّ هذا الكيان السياسي الجديد الذي سُمّي بـ”تجمّع الوحدة الوطنية” فشل في تشكيل قوّة سياسية معترَف بها إذ لم يتمكن من انتخاب عضو واحد في الانتخابات النيابية للعام 2014.
وشهدت جماعة “الإخوان المسلمين” انحصارًا في مكانها السياسي تماشيًا مع الانقلاب العام في الخليج على حركتها منذ الربيع العربي، فاستُبدِل وزراؤها في الحكومة، وتقلّص تمثيلها النيابي إلى مقعد واحد عقب تعديل الدوائر الانتخابية غير المحبذ الذي نصّت عليه الحكومة. أمّا المجموعات السياسية السلفية فبدت أفضل حالًا وحافظت على وزير واحد وائتلاف نيابي صغير يرتكز على عضوين فيها إلى جانب نواب مستقلين تابعين لها. ومع ذلك لا شكّ في تدهور المجموعات السياسية الإسلامية النافذة سابقًا في البحرين، سواء الشيعية أو السنّية منها، ذلك فيما اتّخذت مجموعة من المستقلين الجدد مكانها.
برلمان يفتقر إلى الخبرة
أجريت الانتخابات النيابية في العام 2014 في ظلّ استمرار مقاطعة المعارضة لها وتقسيم الدوائر الجديد الذي أضرّ بالمجموعات الإسلامية السنّية النافذة سابقًا. وأظهرت الانتخابات أيضًا مستوى من الإحباط العام إزاء الطبقة السياسية. وتَشكّل ثلاثُ أرباع النواب المنتخبين – وهي نسبة عالية جدًّا – من نواب مستقلين مؤيدين للحكومة بشكل كبير يتقلدون المنصب للمرة الأولى.
ومن جهته، لم يستطع البرلمان البحريني الموالي للحكم بأغلبيته وضع حدّ لإلغاء الإعانات بالرغم من عدم تقبّل الشعب البحريني لهذه السياسات بشكل عام. وعارض البرلمان الاقتطاع من الإعانات في موازنة الدولة للسنة المالية 2015-2016، وحثّ الحكومة على استشارته في ما يتعلق بخطط كهذه. ومع ذلك، وبعد مرور شهر من التفاوض مع المشرّعين حول إلغاء إعانات اللحوم، مضت السلطة التنفيذية قدمًا بالرغم من سخط السلطة التشريعية. وكان من المفترض أن تناقش لجنة برلمانية إعانات البنزين كذلك، إلّا أنّ السلطة التنفيذية رفعت الأسعار مع إشعار بأقلّ من يوم واحد بمفردها، وإن كان ذلك وفقًا للدستور. وألغيت الإعانات الخاصة بالكهرباء والماء هي الأخرى بموجب مرسوم أقرّ بين ليلة وضحاها، ناقضة اتفاقًا مسبقًا مع البرلمان لتأجيل ذلك حتى العام 2017.
وظهر افتقار البرلمان للخبرة والتماسكَ في إدارته لإرتفاع أسعار البنزين الذي فرضته الحكومة. وكانت ردّة الفعل العامة سلبية للغاية، وتصاعدت الضغوطات الممارسة على المشرعين لاستجواب وزيرَي الطاقة والمالية علنًا باستخدام السلطات الرقابية التي مُنحت للبرلمان بموجب تعديلات دستورية طُبّقت في العام 2012 نتيجة لعملية “الحوار الوطني”. إلّا أنّ هذا الإجراء فشل بسبب تعديل البرلمان لقواعده الداخلية، مشترطًا دعم 75 في المئة من المجلس للسماح باستجواب الوزراء بعدما كانت النسبة المطلوبة 50 في المئة. ولجأ ناخبون مستاؤون إلى مواقع التواصل الإجتماعي ولاحقت الأمانة العامة لمجلس النواب عددًا منهم، ما أدى إلى رفع دعاوى تشهير ضدهم باسم البرلمان. وأفضى ذلك إلى بيان مشترك نادر صدر عن 11 مجموعة سياسية للتنديد بهذا الفعل.
حركة عمالية متصدّعة
شكّلت إضافة نقابات العمال التي يمثّلها “الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين” إحدى أهمّ الإصلاحات التي نفّذها الملك حمد بن عيسى آل خليفة في بداية القرن الواحد والعشرين. إلّا أنّ الحكومة، وابتداءً من العام 2011، عمدت إلى إضعاف اتحاد العمال الذي اعتُبر مؤيّدًا للمعارضة البحرينية بعدما نسّق إضرابات معها في العام 2011. وفتح مرسوم ملكي صدر في العام نفسه المجال أمام إنشاء عدّة اتحادات وأدّى إلى تشكيل “الاتحاد الحر لنقابات عمال البحرين”. والجدير بالذكر أنّ هذا الاتحاد الجديد يضمّ نسبة عالية من الأعضاء من العمال الأجانب، ويبدو أنّ ذلك للتماشي مع سياسة عامة لتمكين العمالة الأجنبية.
في الواقع، تصاغ قوانين العمال في البحرين بطرق تجعل من مقاومة الاقتطاعات المتوقعة في التوظيف والرواتب في القطاع العام أمرًا صعبًا على النقابات. ولا يمكن لموظفي القطاع العام إنشاء نقابات، في حين يمكنهم أن ينضموا إلى نقابات القطاع الخاص، التي لا تستطيع المساومة باسمهم. فضلًا عن ذلك، تُمنع الإضرابات العمالية في 10 قطاعات حيوية في البحرين بما فيها قطاع النفط والغاز. ولا يمكن للعمال البحرينيين إذًا اتخاذ إجراءات عمالية كتلك التي يشهدها الوضع الحساس في قطاع النفط في الكويت اليوم.
الأمن وهيمنة حالة من الرضوخ
لا تلقى الخلافات في البرلمان صدى لدى كثير من أفراد المجتمع البحريني حيث غدت السياسة أمرًا مقيتًا. ودفع ربط السياسة بالانتفاضة السياسية التي هزّت هذه الدولة الجزيرية المحاطة بالمياه في شباط/فبراير 2011 بكثير من البحرينيين خصوصًا في المجتمع السنّي إلى المساواة بين المعارضة والخيانة. واستخدمت السلطة التنفيذية في البحرين هذا الميل إلى حدّ كبير ما وجّه الإحباط المتعلق ببرامج التقشّف المرتبطة بالكساد الاقتصادي نحو البرلمان.
أما بالنسبة للبحرينيين الذين أيّدوا الانتفاضة، لا أهمية للبرلمان بشكل مماثل. فقد حصرت تكتيكياتُ الحكومة الأمنية والقانونية، بما فيها اللجوء إلى سحب الجنسية، بشدّة الاحتجاجات التي كانت تُجرى يوميًّا. ولكن في غياب حوار يُذكر بين الحكومة والمعارضة تبقى الشؤون السياسية جامدة. وعلى الصعيد الاقتصادي، ستتحمل المجموعات الشيعية نسبة غير متكافئة من كلفة تضييق الخناق عليها نظرًا للمعاملة التفضيلية للسنّة في القطاع الأمني، وبحسب التقارير، للعقود الحكومية. إلّا أنّ البحرينيين قد يصبحون أكثر تنافسًا في القطاع الخاص في ظلّ ارتفاع أجور العمالة الأجنبية لتعويض التخفيضات في الإعانات والتكاليف التي يتكبدها الأجانب بنسب غير متكافئة.
وقد تكون حكومة البحرين راضية حتى الآن عن إدارتها السياسية للخطوات الصعبة نحو التقشّف، لكنّ المخاطر المالية والسياسية لا تزال كبيرة. ففي الأسبوع الماضي، صنّفت “خريطة الإرهاب والعنف السياسي” الصادرة عن شركة “أي أو إن” العالمية للتأمين الخطر في البحرين الأعلى في مجلس التعاون الخليجي إلى جانب المملكة العربية السعودية. وفي الواقع، تذكّر الهجمات بالعبوات الناسفة المتفرّقة، كتلك التي ضربت بلدة شيعية الأسبوع الماضي، بالاضطراب المدني المحدود والتفجيرات خلال فترة هبوط أسعار النفط السابق في منتصف التسعينات. ويزيد ربط الحكومة هذه الهجمات بمحاولات إيرانية لإثارة اضطرابات في البحرين من قدرتها على المناورة مع الشعب. إلّا أنّ هذا التاريخ يسلّط أيضًا الضوء على خطر الركود السياسي والجبرية السائدين اليوم في المجموعات السياسية في البحرين. في هذا الإطار، همس أحد الناشطين السياسيين قائلًا: “الكلّ يشعر بالعجز وكأنّ الأمر خارج عن إرادتنا”.