يواجه الرئيس جوزيف بايدن خيارات ملحة وصعبة في أفغانستان، يفرضها عليه اقتراب فصل الربيع واليوم الأول من شهر مايو/أيار. الرئيس بايدن، مثله مثل أسلافه الثلاثة يريد الانسحاب من أفغانستان، وإنهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة، ويأمل بتحقيق ذلك في أسرع وقت ممكن، هذا إذا سمح له بذلك الأفغان أنفسهم وجيرانهم. بعد عشرين سنة من محاولات الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو احلال السلام والاستقرار في أفغانستان، وإنفاق أكثر من 2000 مليار دولار (أكثر مما انفقته واشنطن على إعادة اعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية) ومقتل أكثر من 2300 عسكري أميركي وجرح أكثر من 20 الفاً، يقوم الرئيس الأميركي الرابع، الذي ورث حرب أفغانستان “بمراجعة الاستراتيجية الأميركية تجاه أفغانستان”، كما قال وزير الخارجية أنطوني بلينكن في رسالة قوية اللهجة وجهها للرئيس الأفغاني أشرف غاني قبل بضعة أسابيع.
جميع الرؤساء الأميركيين، الذين أشرفوا على الحرب في أفغانستان، أجروا مراجعات من هذا النوع، وجميع هذه المراجعات لم تؤد إلى خروج الولايات المتحدة من مأزق أفغانستان. الخيارات المتوفرة كانت إما زيادة عديد القوات الأميركية، وهذا ما فعله الرئيس الأسبق باراك أوباما، قبل أن يعدل عن رأيه ويبدأ تخفيض القوات، أو تخفيض القوات الأميركية بنسبة كبيرة كما فعل الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث خفض القوات إلى حوالي 2500 عسكري. هذه الخيارات كانت تناقش في سياق التسليم الأميركي – في الأوساط السياسية والعسكرية – باستحالة نجاح الخيار العسكري في أفغانستان، الدولة الفقيرة التي أحبطت الطموحات العسكرية لإمبراطوريات سابقة مثل بريطانيا والاتحاد السوفياتي.
خلال ولاية الرئيس ترامب، أشرف المبعوث الأميركي لأفغانستان، زالماي خليل زاد على مفاوضات بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان في الدوحة، قطر، استمرت لثمانية عشرة شهراً، حيث توصلت في فبراير/شباط 2020 إلى تفاهم سمّي “اتفاق احلال السلام في أفغانستان”، تضمن تصوراً يفترض أن يؤدي إلى اتفاق سلام نهائي، بعد قيام كل من الحكومة الأفغانية وطالبان والولايات المتحدة باتخاذ قرارات متزامنة مع المفاوضات. وتضمن هذا الاتفاق الأولي بدء سحب القوات الأميركية من أفغانستان، وإنهاء هذه العملية بعد 14 شهراً، أي مع حلول أول مايو 2021. ووفقا للاتفاق، تفرج الحكومة الأفغانية عن خمسة آلاف من مقاتلي حركة طالبان، مقابل قيام طالبان بالإفراج عن ألف جندي أفغاني. ولكن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود لأكثر من سبب، من بينها تأخر الحكومة الأفغانية في الافراج عن أسرى طالبان، ومماطلة حركة طالبان التي أرادت أن تكسب الوقت بانتظار الانسحاب الأميركي، خاصة وأن قواتها لا تزال تملك القدرة على المبادرة العسكرية، الأمر الذي أدى إلى سيطرتها على المزيد من الأراضي الأفغانية. ومع اقتراب موعد الأول من مايو/أيار، وعدم وجود إعلان أميركي رسمي حول الانسحاب، هددت حركة طالبان بأن بقاء القوات الأميركية يعني أنها ستقوم بحملة عسكرية في الربيع، كما هي عادتها ضد القوات الأفغانية والأميركية.
وفي فبراير/شباط الماضي، وجهت طالبان، باسم “إمارة أفغانستان الاسلامية” رسالة إلى الشعب الأميركي، أكدت فيها ضرورة تنفيذ اتفاق الدوحة، وأن حل النزاع في أفغانستان يجب أن يتم في سياق مفاوضات بين الأفغان أنفسهم، وحاولت فيها طمأنة الأميركيين إلى أن الإمارة تحترم حقوق جميع الفئات الأفغانية، وسوف تضمن حقوق المرأة، “التي يوفرها القانون الاسلامي” وحريات التعبير “في سياق المبادئ الاسلامية والمصالح الوطنية”.
ولكن النبرة السلمية لرسالة “الإمارة” للأميركيين، تعارضت مع الواقع الميداني، لأن قوات طالبان، حتى خلال أشهر الشتاء، واصلت تقدمها وتمركزها حول بعض المدن الحيوية لبقاء الحكومة في كابول على قيد الحياة، مثل قندوز وقندهار وپلخمری، حيث سيطروا على طرق هامة تمكنهم من تهديد الامدادات إلى العاصمة كابول، تمهيداً لأي عمليات عسكرية واسعة في الربيع.
قبل بضعة أيام، قال الرئيس بايدن، في مقابلة مع شبكة التلفزيون أي بي سي، أنه لم يتخذ بعد قراره بشأن موعد سحب القوات من أفغانستان، وإن أشار إلى أن “الصفقة التي توصل إليها الرئيس السابق ليست راسخة”. وأشار بايدن إلى أن المشاورات بهذا الشأن مستمرة مع الحلفاء في الناتو ومع الحكومة الأفغانية. أكد بايدن أن القرار سيكون قريباً، ولكنه لم يستبعد بشكل واضح الانسحاب وفقاً لموعد الأول من مايو/أيار، وإن ألمح مسؤولون آخرون إلى أن إدارة بايدن لا تعتبر الموعد ملزماً، كما أن الانسحاب سوف يتطلب أكثر من بضعة اسابيع، ويفترض أن يتم بالتنسيق مع الحلفاء ومع الحكومة الأفغانية. تشير الأخبار القادمة من البنتاجون اليوم أن بايدن قد يطلب استمرار القوات الأمريكية لمدة ستة شهور إضافية لإعطاء فرصة للجهود الدبلوماسية في أفغانستان لتنجح. الرئيس بايدن أعرب عن احباطه للتأخر في اتخاذ مثل هذه القرارات الحاسمة حول أفغانستان وحول فيروس كورونا وغيرها، ووضع اللوم على إدارة الرئيس السابق ترامب لأنها لم تتعاون مع فريقه خلال الفترة الانتقالية بين الانتخابات في الثالث من نوفمبر وتسلمه لمهامه في العشرين من يناير.
وإذ أشار بايدن بشكل عابر لإحباطه بشأن الانسحاب من أفغانستان، فإن وزير خارجيته بلينكن عبّر عن هذا الاحباط بوضوح بالغ، وحتى بفظاظة في رسالة، بعثها إلى الرئيس الأفغاني أشرف غاني حول تصور الولايات المتحدة للخطوات الديبلوماسية الضرورية للتعجيل بالمفاوضات، ولتفادي الحملة العسكرية التي تهدد بها حركة طالبان مع حلول فصل الربيع.
اقترح بلينكن في رسالته المؤلفة من ثلاث صفحات قيام الأمم المتحدة بعقد اجتماع لوزراء خارجية الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا والصين وإيران والهند وباكستان للتوصل إلى “تصور موحد لدعم السلام في أفغانستان”. وهذه هي المرة الأولى التي تقترح فيها الولايات المتحدة مؤتمراً دوليا، يشمل جميع الدول التي لها حدود مشتركة مع أفغانستان أو القريبة منها أو المعنية بالنزاع فيها، ولها القدرة على التأثير عليه سلباً أو إيجاباً، وهذا ما يفسر اشراك إيران في المؤتمر. وأضاف بلينكن أن حكومته سوف تطلب من تركيا استضافة ممثلين عن الحكومة الأفغانية وحركة طالبان لإجراء مفاوضات خلال الأسابيع المقبلة للتوصل لاتفاق سلام. وطلب بلينكن من الرئيس غاني أن يطور “مواقف بناءة” بهذا الشأن ليناقشها مع المبعوث زالماي خليل زاد، وحضه على أن يؤكد “قيادته الجدية” التي يتوقعها منه هو الرئيس بايدن.
وألحق بلينكن برسالته ثماني صفحات من الملاحق، التي تضمنت مقترحات حول مستقبل أفغانستان وأفكار حول طبيعة اتفاق السلام والدستور المقترح. وأشار بلينكن إلى أن حكومته سوف تتقدم بمقترحات للتوصل لاتفاق لتخفيض أعمال العنف لتسعين يوما “بهدف منع الحملة العسكرية لطالبان في الربيع، ولكي يتزامن ذلك مع جهودنا الديبلوماسية لدعم التسوية السياسية بين الأطراف” الافغانية.
واختتم بلينكن رسالته بفقرة تحذيرية، غابت عنها الديبلوماسية، جاء فيها “السيد الرئيس، مع استمرار مراجعة خياراتنا في واشنطن، فإن الولايات المتحدة لا تستبعد أي خيار. نحن ندرس الانسحاب الكامل لقواتنا مع حلول الأول من مايو/أيار، كما ندرس الخيارات الأخرى. وحتى مع استمرار الدعم المالي من الولايات المتحدة إلى قواتكم بعد الانسحاب الأميركي، أنا أشعر بالقلق لأن الوضع الأمني سوف يزداد سوءاً، وأن حركة طالبان سوف تحقق تقدما ميدانياً سريعاً. أنا أوضح لك هذا الأمر، لكي تدرك مستوى الالحاح في نبرتي حول العمل الجماعي المذكور في هذه الرسالة”.
رسالة بلينكن للرئيس غاني غير اعتيادية لأكثر من سبب، أولها نبرتها الفظة وغير الديبلوماسية، وثانيا لأنها موجهة من وزير خارجية إلى رئيس دولة، بدلا من أن يوجهها الرئيس الأميركي إلى نظيره الأفغاني، كما هو العرف الديبلوماسي، كما أن المؤتمر الدولي المقترح يشمل دعوة ثلاثة دول تربطها بواشنطن علاقات متوترة، وحتى عدائية، روسيا والصين وإيران. مسؤول أميركي سابق خدم في كابول، قال لنا إن الرئيس غاني “مستاء للغاية” من رسالة بلينكن.
ويوافق أندرو ستاينفيلد الديبلوماسي السابق الذي خدم في العاصمة الأفغانية لثلاثة سنوات على أن رسالة بلينكن غير اعتيادية شكلاً ومضموناً، مثل الاشارة إلى ضرورة أن يبدي الرئيس غاني “القيادة الجدية” التي يتوقعها بايدن، وضرورة أن يدرك معنى الإلحاح في نبرة بلينكن. ويضيف ستاينفيلد “بالنسبة للمضمون من الواضح أن إدارة بايدن تسعى لممارسة أقصى الضغوط على غاني للموافقة على تشكيل حكومة مؤقتة تشارك فيها طالبان، وهو أمر يعارضه الرئيس الافغاني، وعلى أن يوافق على سلسلة من الاجتماعات الدولية”. ويتابع ستاينفيلد، “وامتناع بايدن عن توقيع الرسالة يعني أنه يريد أن يبعد نفسه بعض الشيء عن المأزق الذي تحولت إليه افغانستان بعد عشرين سنة، ولسحب القوات الأميركية بأسرع وقت ممكن.”
الاحباط الذي يشعر به الرئيس الأميركي ووزير خارجيته تجاه تلكؤ الرئيس الأفغاني في المفاوضات، لن يخف عن حركة طالبان، التي تتصرف بثقة متزايدة، وأنها الطرف الذي سيقرر مستقبل أفغانستان السياسي والثقافي والاجتماعي.
خيارات بايدن وحلف الناتو، العملية والقابلة للتنفيذ دون إحراج، تتضاءل وتنحسر مع مرور كل يوم. انسحاب القوات الأميركية والحليفة في المستقبل القريب، في غياب اتفاق سلام تباركه الدول المعنية بالوضع الأفغاني، يعني أن قوات طالبان سوف تحسم النزاع لصالحها، وتطيح بالحكومة في كابول، كما فعلت قوات الفييتكونغ وقوات فيتنام الشمالية، حين أطاحت بحكومة سايغون في فيتنام الجنوبية في 1975 بعد انسحاب القوات الأميركية. وإذا أخفقت المساعي الديبلوماسية في التوصل لاتفاق سلام قريب، وهذا أمر مستبعد، لأسباب عديدة من بينها تصلب الأطراف الأفغانية وخاصة طالبان، وصعوبة توصل الأطراف الدولية إلى تصور موحد للسلام ولمستقبل أفغانستان، وإذا قرر بايدن ابقاء القوات الأميركية في أفغانستان، وحتى لأشهر معدودة، فإنه سيجد نفسه متورطاً في تصعيد عسكري خطير لا يريده هو ولا يريده الشعب الأميركي، وممنوع عليه الانتصار فيه. خيارات بايدن في أفغانستان أحلاها بالغ المرارة.