بدأ الرئيس جوزيف بايدن جولته العالمية الأولى في أوروبا حاملاً معه طموحات وآمال كبيرة بإقناع العالم، وتحديدًا حلفاء واشنطن التقليديين، أن الولايات المتحدة قد “عادت” لاستئناف دورها التاريخي بقيادة ديموقراطيات العالم، خاصة حلفاء واشنطن التقليديين، الذين صعقتهم سياسات الرئيس السابق ترامب الانعزالية وحتى الأوتوقراطية. الرئيس بايدن يريد أيضًا أن يؤكد لخصوم واشنطن، وتحديداً في روسيا والصين، أن حقبة الرئيس ترامب هي الاستثناء للقاعدة، وأن الإدارة الجديدة في واشنطن مستعدة وقادرة على قيادة ديموقراطيات العالم في مواجهتها الوجودية الجديدة ضد الأنظمة الأوتوقراطية الصاعدة في العالم.
قبل بدء جولته الأوروبية، لخص بايدن أهدافه في مقال نشره في صحيفة الواشنطن بوست بالقول “هذه الجولة تهدف إلى إعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة بحلفائنا وشركائنا، ولتأكيد قدرة الديموقراطيات على مواجهة التحديات وردع أخطار العصر الجديد”. وقبل مغادرته واشنطن قال بايدن “أريد ان أوضح لبوتين والصين أن أوروبا والولايات المتحدة متحدين، وأن مجموعة الدول السبعة (الديموقراطية) سوف تتقدم”.
وفي أول خطاب له في محطته الأولى في بريطانيا، كرر بايدن هذا الهدف حين قال لمئات الجنود الأميركيين في قاعدة ميلدنهال التابعة لسلاح الجو البريطاني “أعتقد أننا في نقطة انعطاف في تاريخ العالم. نحن في لحظة يجب علينا أن نثبت فيها أن الديموقراطيات لن تبقى فقط على قيد الحياة، بل سوف تتفوق وتغتنم الفرص الضخمة المتوفرة في هذا العصر الجديد”. بايدن يرى أن مهمة الولايات المتحدة في هذه اللحظة المفصلية في العالم هي انقاذ الديموقراطيات المتعثرة، بما فيها الولايات المتحدة، من خلال قيادتها في معركتها الوجودية الجديدة مع الأنظمة الأوتوقراطية، والتي استفادت من صعود الصين الاقتصادي والاستراتيجي في العالم، ومن سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العدائية في أوروبا والشرق الأوسط.
ولكن ما لم يقله جو بايدن في رسائله العلنية للحلفاء والخصوم، هو أن الولايات المتحدة وغيرها من الديموقراطيات الغربية، مثل فرنسا وألمانيا، تشهد أيضًا مواجهات وجودية داخلية بين القوى الديموقراطية والقوى الانعزالية الرافضة للقيم والتقاليد الليبرالية، التي تستخدم المؤسسات الديموقراطية، بما فيها البرلمانات الوطنية والمجالس المحلية، لاعتماد سياسات أوتوقراطية في جوهرها تنعكس في مواقفها الرافضة للحقوق المدنية للأقليات والمهاجرين، والتي تشكك بدور الصحافة المستقلة، وتسعى لإقامة علاقات أوثق مع الصين وروسيا وغيرها من الأنظمة الأوتوقراطية.
هذا الصراع داخل الديموقراطيات الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، لا يقل خطورة أو تاريخية عن الصراع العالمي كما يراه بايدن بين معسكر الديموقراطيات ومعسكر الأوتوقراطيات. خلال حقبة الرئيس السابق ترامب، كتب العديد من المحللين الاستراتيجيين مقالات حول الهجمة الأوتوقراطية الحالية في العالم، وأكدت دراسات دولية عديدة، بمن فيها تقرير منظمة فريدوم هاوس لعام 2019، حول حالة الديمقراطية في العالم، أن “الديموقراطية في تراجع“. أي مراجعة لمحاولات القوى الديموقراطية في العالم مواجهة الأنظمة الأوتوقراطية تبين تراجع هذه القوى تحت وطأة الضربات التي تتلقاها من الأنظمة القمعية، كما هو الحال في ميانمار وتركيا وهنغاريا وروسيا والفيليبين، وانتهاكات حقوق الانسان التي تزداد قسوة في الصين، وصعود القوى المعادية للقيم الليبرالية والديموقراطية في دول هامة، مثل البرازيل والهند، حيث رأى قادة هذين البلدين: جائير بولسونارو وناريندرا مودي في الرئيس ترامب وطروحاته الشوفينية والأوتوقراطية نموذجا يحتذى به.
بالتأكيد سوف يحظى الرئيس بايدن بترحيب حار من قادة مجموعة الدول السبعة الصناعية ومن قادة حلف الناتو، أولا لأنه النقيض لسلفه ترامب، الذي الحق أضرارًا بالغة وغير مسبوقة بالعلاقات الأطلسية، ولأنه مثل أسلافه قبل ترامب، يؤمن بالمعاهدات الدولية ويرفض مفاهيم الانعزالية.
ومع وصول بايدن إلى أوروبا، جاء في استطلاع أجراه مركز الأبحاث الدولية التابع لمؤسسة بيو (Pew) أن نسب عالية من مواطني الدول الصناعية الديموقراطية يوافقون مع شعار بايدن بأن “أميركا قد عادت” من عزلتها خلال حقبة ترامب، حين انحسرت ثقة الحلفاء الأوروبيين بالولايات المتحدة كحليف يعتمد عليه. وفي 12 دولة ارتفع عدد المواطنين الذين يقولون أن بايدن “سوف يفعل ما هو صحيح في مجال الشؤون الدولية” إلى 75 بالمئة، مقارنة ب 17 بالمئة فقط خلال ولاية ترامب. وقال 62 بالمئة من المشاركين في الاستطلاع أن لديهم موقف إيجابي من الولايات المتحدة، مقارنة ب 34 بالمئة فقط مع نهاية ولاية ترامب.
ولكن الشكوك الأوروبية بصلابة وقيادة واشنطن في العالم، أو الاعتماد عليها كحليف موثوق لا تزال عميقة. ووفقا لدراسة أجراها صندوق مارشال الألماني، هناك ثقة محدودة بالولايات المتحدة. ففي فرنسا وألمانيا هناك أكثريات بسيطة ترى الولايات المتحدة الدولة الأكثر نفوذًا في العالم. كما رأى 51 بالمئة فقط من الألمان الولايات المتحدة كشريك “يعتمد عليه”. وهذا يظهر أن النفوذ الإيجابي للرئيس بايدن على العلاقات الأميركية-الأوروبية لا يزال محدودًا، وأن انحسار نفوذ الولايات المتحدة في العالم برأي الأوروبيين لم يتحسن كثيرًا منذ ولاية ترامب.
الأوروبيون الذين استقبلوا أو سيستقبلون بايدن بالترحيب الحار، يدركون أيضًا أن الأضرار التي تسبب بها ترامب، لم يتم تخطيها بمجرد انتخاب بايدن، لأن الرئيس الأميركي السابق لا يزال يخيم بظله الثقيل فوق الحزب الجمهوري، ولأن قيادات هذا الحزب رفضت حتى انشاء لجنة تحقيق مستقلة في الكونغرس تنظر بالعمق بالأسباب التي أدت إلى اجتياح مبنى الكابيتول بالقوة قبل خمسة أشهر فقط، لأنها لا تريد أي تحقيق جدي بدور دونالد ترامب في محاولة تقويض نتائج انتخابات نزيهة وحرة.
وهذا يعني أن القادة الاوروبيين حين يصافحون أو يعانقون بايدن، سوف يتساءلون في الوقت ذاته هل بايدن هو الاستثناء لنمط من الرؤساء الأميركيين الجدد من قماشة دونالد ترامب؟ هذه التساؤلات في محلها لأن ترامب نجح خلال 4 سنوات في إحداث شروخ عميقة في حلف الناتو ومؤسساته وفي العلاقات الأطلسية التي بقيت على متانتها لخمسة وسبعين سنة عبر رؤساء جمهوريين وديموقراطيين في واشنطن، قبل ظاهرة ترامب. ونظرًا لاستمرار وثبات الميول الأوتوقراطية في الحزب الجمهوريون، والتي تعكسها محاولات الجمهوريين في عشرات الولايات الأميركية، التي يسيطرون على مجالسها المحلية، لتعديل القوانين الانتخابية لخلق عقبات اجرائية ولوجستية وإدارية لتقليص حجم مشاركة الفئات الديموقراطية في الانتخابات، فإن مخاوف الأوروبيين لن تختف لأن بايدن لا يستطيع إقناع الأوروبيين أن ترامب هو الاستثناء للقاعدة الأميركية.
الأوروبيون يراقبون عن كثب التحديات التي يواجهها بايدن في الكونغرس، ليس فقط بسبب إصرار الجمهوريين على افشال خططه وطموحاته كما فعلوا مع الرئيس الأسبق باراك اوباما، بل أيضًا لأن بايدن غير قادر على ضمان تأييد جميع أعضاء مجلس الشيوخ الديموقراطيين الخمسين لسياساته وبرامجه، كما يتبين من مواقف العضويين الديموقراطيين جو مانشين (Joe Manchin) وكريستن سينيما (Kyrsten Sinema) اللذين يرفضان التعاون مع زملائهم للتخلص من بعض القواعد البرلمانية التي تصر على اتخاذ بعض القرارات الهامة بأكثرية من 60 صوتا وليس بالأكثرية البسيطة 51 صوتا. الأوروبيون يدركون ما يدركه أي مراقب جدي للمشهد الانتخابي الأميركي، أي احتمال خسارة الديموقراطيين لأحد مجلسي الكونغرس أو ربما مجلسي النواب والشيوخ في السنة الانتخابية المقبلة.
وإذا كانت شكوك ومخاوف الحلفاء التي سيواجهها بايدن في بريطانيا (قمة السبعة) وبلجيكا (قمة الناتو) هامة، وسوف تتطلب معالجتها اهتماما خاصًا ومستمرًا من بايدن، فإن القمة الأولى بين بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جنيف يوم الأربعاء المقبل سوف تكون ربما الامتحان الأصعب لبايدن في جولته الأوروبية. قبل القمة تبادل الرئيسان رسائل تحذير علنية. بايدن قال للجنود الأميركيين في خطابه الأول، أنه سيقول لبوتين “ما أريده أن يعرفه”، في إشارة ضمنية إلى أنه سيحذره من الاستمرار بانتهاكاته السياسية والالكترونية للولايات المتحدة وشركاتها، وبأنه سيتصدى لسياساته الدولية المؤذية وانتهاكاته لحقوق الانسان في روسيا.
وكان بوتين قد قال قبل أكثر من أسبوع أنه لن يقبل بمناقشة طبيعة النظام السياسي في روسيا مع بايدن. ولكن في تصعيد ملحوظ وفظ، تزامن مع وصول بايدن إلى أوروبا، بعث بوتين بصفته الزعيم الأوتوقراطي الأبرز في أوروبا برسالة مدوية لبايدن وحلفائه من خلال إعلان محكمة روسية، وبإيعاز من بوتين، تصنيف ثلاث منظمات مرتبطة بالمعارض الروسي البارز والمعتقل أليكسي نافالني كمنظمات “متطرفة”. وكما هو متوقع سارعت واشنطن إلى إدانة الخطوة.
قمة جنيف تختلف عن جميع سابقاتها من القمم السوفياتية-الأميركية أو الأميركية–الروسية، لأنها تأتي بعد حقبة ترامب، الذي تخلى عمليًا عن الدور الأميركي القيادي في العالم، وسمح لبوتين بالهيمنة على لقاءاته مع ترامب، (التي أبقى ترامب ما جرى خلالها سرًا حتى عن كبار المسؤولين في حكومته) بما فيها قمة هلسينكي، حين ناقض ترامب علنًا ، وبحضور بوتين، تقويم الاستخبارات الأميركية لانتهاكات بوتين، ووقف إلى جانب صديقه الأوتوقراطي، الذي يراه عدد متزايد من الجمهوريين الأميركيين (واليمينيين المتطرفين الأوروبيين) على أنه يمثل آخر زعيم أبيض مسيحي في أوروبا يقف أمام موجة هجرة المسلمين والأفريقيين للمجتمعات الأوروبية.
بايدن تعهد علنًا باعتماد سياسات قوية للتصدي لانتهاكات بوتين للقانون الدولي ولسيادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وخاصة أوكرانيا وجمهوريات بحر البلطيق، وفي نفس الوقت محاولة التعاون مع روسيا في مجالات تخدم مصلحة واشنطن، مثل معالجة التغيير البيئي، وضبط أعمال القرصنة في الفضاء الإلكتروني (والتي تمارسها جماعات داخل روسيا) وغيرها، وتفادي الانزلاق مرة أخرى إلى حرب باردة مع موسكو. بوتين، الأوتوقراطي المخضرم سوف يمتحن بايدن، كما امتحن أوباما قبله، ولكنه هذه المرة سيحصّن نفسه ضد انتقادات الرئيس الأميركي لانتهاكات حقوق الإنسان، بتذكير بايدن، كما فعل علنًا قبل أيام، بأنه لا يستطيع التبشير بمزايا الديموقراطية الأميركية بعد الأحداث الدامية خلال اجتياح مبنى الكابيتول في السادس من يناير الماضي. هزيمة بايدن لترامب في نوفمبر 2020، لن تمنع الرئيس السابق من أن يخيم بظله الثقيل فوق قمة بايدن-بوتين في جنيف.