من المبكر إصدار تقويم نهائي لجولة الرئيس بايدن في الشرق الأوسط، وخاصة محطتها السعودية، أكثر من القول بعد أيام من انتهائها أن أهم ما فيها هو مجرد حدوثها. من الواضح أن قرار بايدن زيارة السعودية كان قرارًا صعبًا، وجاء بعد تردد ومشاورات طويلة مع مساعديه، وأيضًا عبر مستشاريه مع المسؤولين السعوديين.
قبل أقل من سنة لم تكن فكرة الزيارة مطروحة، حين كانت إدارة الرئيس بايدن تخطط لانسحابها السريع، ولاحقًا الفوضوي والدموي، من أفغانستان. معدلات التضخم وأسعار النفط العالية لم تكن من بين القضايا الملحة التي فرضت نفسها على الرئيس الأميركي، الذي لم يكن في الصيف الماضي يعاني من انحسار كبير في شعبيته، ولم يكن يفكر بأنه سيواجه وحزبه امتحانًا صعبًا في الانتخابات النصفية بعد ثلاثة أشهر كما هو الوضع اليوم.
ولكن الغزو الروسي لأوكرانيا والمضاعفات الاستراتيجية والاقتصادية السلبية التي خلقها، ومن بينها الارتفاع الحاد في أسعار النفط والغاز غيّر الكثير من المعادلات الدولية، وأرغم إدارة الرئيس بايدن على إعادة النظر ببعض السياسات التي وضعها قيد التنفيذ سلفيه باراك أوباما ودونالد ترامب، أي تخفيض “البروفيل” العسكري وحتى الديبلوماسي الأميركي في الشرق الأوسط. واستنادًا إلى هذه الخلفية، يمكن القول أنه لو لم يغزُ الرئيس فلاديمير بوتين أوكرانيا، لربما لم يجد جوزيف بايدن نفسه يمشي على الطريق إلى جدة.
صعوبة اتخاذ قرار زيارة السعودية هو نتيجة طبيعية لميل بايدن المعروف للمبالغة في مواقفه وتصريحاته العلنية، وجنوحه لإصدار تقويمات حاسمة وسريعة لا تقتضيها الضرورة. مضاعفات قول بايدن قبل انتخابه أنه سيعامل السعودية كدولة “منبوذة”، وتجميد صفقات الأسلحة إليها بعد انتخابه، والكشف عن تقرير وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي أيه) الذي وجه أصبع اللوم لولي العهد الأمير محمد بن سلمان بشأن اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، ليست أمرًا سهلًا، خاصة وأن بايدن لم يسع إلى تحقيق ذلك قبل أن يرغمه بوتين على مراجعة حساباته، ومن بينها إعادة النظر بالعلاقات الأميركية-السعودية القديمة، ووضعها في سياق التنافس الدولي مع روسيا والصين في منطقة الخليج، وكذلك علاقاته الشخصية مع ولي العهد السعودي.
خلال الأسابيع التي سبقت وصوله إلى جدة، أدلى بايدن بتصريحات مختلفة ومتناقضة حول طبيعة زيارته للسعودية، كلها مصممة للتخفيف من وقع لقائه مع ولي العهد السعودي وحتى شكل اللقاء. بايدن قال إنه لن يزور المملكة للقاء الأمير محمد بن سلمان، بل للمشاركة في قمة موسعة لمجلس التعاون الخليجي دعي إليها أيضا قادة مصر والعراق والأردن. وأحيانًا تفادى الإجابة على سؤال محدد حول ما إذا كان سيجتمع بولي العهد السعودي. كما كان ينفي أنه سيزور السعودية من أجل اقناع قادتها بزيادة انتاجهم من النفط لتخفيف الأسعار العالية التي يعاني منها المستهلك (والناخب) الأميركي، الذي يلوم تقليديًا الرئيس في البيت الأبيض (بغض النظر عن اسمه أو الحزب الذي ينتمي إليه) على ارتفاع الأسعار.
كل هذه التصريحات لم تغير من حقيقة أن زيارة بايدن للسعودية ولقائه بولي العهد الأمير محمد بن سلمان – على الرغم من تأكيدات بايدن بأنه أثار وبصرامة قضية خاشقجي – قد أغلقت عمليًا ملف جمال خاشقجي في العلاقات الثنائية بين البلدين. الزيارة ولقاء الرئيس الأميركي بالأمير السعودي، بغض النظر عن كل التفسيرات والتبريرات، أعادت الاعتبار إلى ولي العهد، الذي يمكن أن يقول مع غيره من المسؤولين السعوديين أن رئيس أقوى دولة في العالم جاءه إلى جدة وقرع بابه وأعاد الاعتبار له، كما فعل قبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون. الرئيس بايدن ليس أول رئيس أميركي يدافع عن حقوق الإنسان في العالم ليعود لاحقا إلى تجنب الحديث عن هذه الحقوق حين تصطدم بالمصالح الحيوية، الاقتصادية أو الاستراتيجية للولايات المتحدة.
وفور “تبادل القبضات” بين الرئيس الأميركي والأمير السعودي، والذي سارع المسؤولون السعوديون إلى بث صوره للإعلام السعودي، حقق ولي العهد ما يريد أن يحققه من الزيارة رمزيًا وحتى سياسيًا. المسؤولون السعوديون رسموا اللقاء بين ولي العهد والرئيس بايدن بأنه كان لقاءًا بين ندّين، وخاصة حين أثار بايدن قضية اغتيال خاشقجي، ليرد عليه الأمير محمد بن سلمان بتذكيره بتعذيب أسرى سجن أبو غريب في العراق، واغتيال الإسرائيليين للصحفية الفلسطينية-الأميركية شيرين أبو عاقلة، على الرغم من اختلاف ظروف ومضاعفات هذه الأحداث.
المسؤولون السعوديون قالوا إن الاجتماع القريب لمجموعة الدول المصدرة للنفط أوبك والدول من خارج أوبك، والمعروفة باسم أوبك بلس، سوف يدرس احتمال زيادة معدلات انتاج النفط، وألمحوا إلى أن القرار سيكون ايجابيًا، ولكنهم لم يلزموا أنفسهم علنًا بأي زيادة محددة، الأمر الذي فسره بعض المراقبين بأن بايدن لم يحمل معه أي وعود مؤكدة. الرأي السائد في أوساط المحللين والخبراء في شؤون الطاقة هو أنه حتى ولو زادت دول هامة مصدرة للنفط، مثل السعودية ودولة الإمارات، انتاجها من النفط، فإنها لن تكون قادرة – على الأقل خلال الأشهر القليلة المقبلة – على تقليص أسعار النفط في العالم بشكل جذري، أولا لأنها لا تملك كميات كبيرة من احتياط النفط والتي يمكن ضخها بسرعة، وثانيًا لأنها لا ترى أنها ستخدم مصالحها إذا بدت وكأنها تنتهك التفاهم مع ثالث أكبر منتج للنفط في العالم، روسيا.
الشرق الأوسط الذي زاره بايدن هذه المرة تغير كثيرًا عن الشرق الأوسط الذي زاره آخر مرة قبل ست سنوات. هناك علاقات سياسية واقتصادية وأمنية رسمية بين إسرائيل ودول عربية، من بينها دولة الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وعلاقات اقتصادية واستراتيجية جديدة بين دول خليجية مثل السعودية والإمارات وروسيا والصين، تطورت خلال ولايتي أوباما وترامب، حين بدأت الولايات المتحدة بتخفيض “بروفيلها” العسكري في المنطقة، كما يتبين من الانسحابات العسكرية من سوريا والصومال والعراق (بعد إنهاء المهام القتالية هناك)، وسحب المعدات المتطورة، مثل صواريخ باتريوت وغيرها الموجودة في الخليج، والتي يفترض أنها كانت للتصدي للصواريخ والمسيرات التي تطلقها ايران او عملائها في المنطقة ضد أهداف سعودية أو إماراتية.
قرار إدارة الرئيس ترامب سحب هذه الصواريخ، ورفضها الرد على اسقاط إيران لطائرة استطلاع أميركية متطورة، قالت واشنطن إنها كانت تحلق في الأجواء الدولية قرب مضيق هرمز، ورفض واشنطن الرد على القصف الإيراني الصاروخي وعبر المسيرات لمنشآت النفط السعودية (كلها تطورات حدثت في 2019)، أدى إلى تعميق شكوك السعودية والإمارات بإلتزام واشنطن بالبقاء كقوة عسكرية هامة في منطقة الخليج، أو باستعدادها أو رغبتها بالدفاع عسكريًا عن المصالح الحيوية لحلفائها الخليجيين.
هذه الأحداث هي الخلفية التي دفعت بالرئيس بايدن لطمأنة دول مجلس التعاون الخليجي بأن الولايات المتحدة لا تعتزم الانسحاب من المنطقة. قادة دول المنطقة يريدون تصديق الرئيس الأميركي، ولكنهم يدركون، أيضا، أن الرئيس السابق ترامب، الذي كانت تربطه بهم علاقات أوثق، لم يسارع للتصدي عسكريًا لإيران، بل واصل تخفيض الحضور العسكري في المنطقة، كما لم يلتزم بالاتفاق النووي الدولي مع إيران، كما أن بايدن انسحب من أفغانستان وهو يدرك أن حركة طالبان سوف تستولي على السلطة في كابول. قادة هذه الدول يدركون أيضًا أنه من المرجح أن يخسر الرئيس بايدن وحزبه الديموقراطي الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني، ما يعني تحويل بايدن إلى رئيس لتصريف الأعمال خلال السنتين المتبقيتين من ولايته. قبل أيام قال أحد مستشاري الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، انه “لا داع لاتفاق نووي جديد مع الولايات المتحدة لأن إدارة الرئيس بايدن مثل البطة العرجاء (lame duck) لا تستطيع تنفيذ أي شيء حتى ولو أرادت لأن الجمهوريين سوف يفوزون بالانتخابات”.
محادثات الرئيس بايدن مع القادة العرب في السعودية، وتصريحاته حول بقاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج لا تلغي حقيقة المعطيات والحقائق السياسية والاقتصادية، التي دفعت بالرؤساء أوباما وترامب (وحتى بايدن قبل زيارته) إلى العمل على تخفيض الوجود العسكري في المنطقة، وتخفيف توقعات قادة وشعوب المنطقة بأنها ستبقى الطرف الذي يريد ضمان استقرار وأمن المنطقة، والسعي لحل خلافاتها وأزماتها القديمة، مثل النزاع الفلسطيني-الاسرائيلي وغيره. هناك ارهاق أميركي شعبي ورسمي من أعباء المنطقة الممتدة من جنوب آسيا وحتى شمال أفريقيا، وهي المنطقة التي بقيت فيها القوات الأميركية في حروب لم تتوقف منذ حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، حتى الانسحاب من أفغانستان، وهي حروب أدت إلى احتلال العراق وأفغانستان ومجابهة إرهاب تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش). ويجب التنويه في هذا السياق أنه على الرغم من عمق الاستياء الأميركي من السلوك الإيراني التخريبي في المنطقة، واستمرار طهران في تطوير قدراتها النووية، إلا أن هناك معارضة حقيقية داخل المؤسسة العسكرية وفي معظم أوساط الطبقة السياسية لحرب جديدة ضد إيران. وباستثناء إسرائيل، التي قال قادتها أن على الرئيس بايدن ضرورة التخلي عن الكلام في المواجهة مع إيران والتحضير لإجراء عسكري عقابي، لا توجد هناك أي دولة عربية تريد حربًا ضد إيران.
هناك أيضًا ضغوط الانقسامات والاستقطابات السياسية والثقافية والاجتماعية العميقة في البلاد، والتي أدت إلى تعطيل الحياة السياسية إلى حد كبير، وخاصة منذ بروز ظاهرة دونالد ترامب، الذي لا يزال يهيمن بظلاله السلبية والسوداوية على البلاد على الرغم من هزيمته الحاسمة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وعلى الرغم من الكلفة البشرية والمالية الباهظة لهذه الحروب، فإن النفوذ الأميركي في منطقة الخليج وشرق المتوسط اليوم هو أقل مما كان عليه قبل عقد من الزمن.
التحدي الذي مثله الغزو الروسي لأوكرانيا للولايات المتحدة وأوروبا، من المرجح أن يكون مؤقتًا، قطعًا لا يقلل من أهمية التحدي الاقتصادي والاستراتيجي الأخطر الذي تمثله الصين لنفوذ ومصالح الولايات المتحدة في شرق آسيا والعالم، ما يعني ان “التحول” الأميركي باتجاه الشرق الأقصى الذي بدأه باراك أوباما لا يزال ملحًا وضروريا. أسعار النفط العالية جدا اليوم كانت قد تدنت إلى مستويات تاريخية قبل سنتين فقط. وروسيا سوف تعود من جديد، وربما بعد أقل من سنة إلى مكانتها كثالث أكبر منتج للطاقة في العالم، وحاجة الولايات المتحدة والدول الأوروبية للنفط والغاز الطبيعي سوف تنحسر بعد عودة الوفرة النفطية إلى الأسواق العالمية. اهتمام واشنطن بالمنطقة سوف ينحسر من جديد، واهتمام دول المنطقة بتحسين علاقاتها مع دول أخرى مثل روسيا والصين سوف يتطور لتعويض الغياب الأميركي.
كل ما سبق لا يعني بالضرورة أن الولايات المتحدة سوف تنسحب من الشرق الأوسط، ولكنه يعني أن المسؤولين الأميركيين في المستقبل القريب سوف يحافظون على وجود عسكري أميركي محدود في المنطقة مقارنة بالعقود السابقة، وعلى دور سياسي متواضع مقارنة بالسنوات التي كانت فيها الديبلوماسية الأميركي تنشط لحل النزاع بين الفلسطينيين وإسرائيل، أو مساعدة الليبيين في انتفاضتهم، أو محاولة المشاركة في التوصل إلى حل للصراع داخل سوريا وغيرها.
زيارة بايدن لإسرائيل والضفة الغربية أكدت من جديد أنه سيواصل الحديث عن “حل الدولتين”، ولكنه لن ينتقل من مستوى الكلام النظري إلى مستوى المبادرات السياسية، لا بل إن بايدن اعترف بانه لا يتوقع هذا الحل في أي وقت قريب، وكأن الرئيس الأميركي وضع لافتة كتب عليها “مغلق حتى إشعار آخر” على جهود السلام. بايدن اكتفى بتخصيص مئة مليون دولار لمساعدة المستشفيات الفلسطينية، وسّلم عملياً برفض إسرائيل إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس (التي أغلقها ترامب) للإشراف على العلاقات مع الفلسطينيين، كما لم يحقق وعده بإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. ولم يصدر عن لقاء بايدن بالرئيس الفلسطيني محمود عباس بيان مشترك، لأنه لا يوجد هناك أي شيء مشترك يمكن الحديث حوله.
الولايات المتحدة التي كانت في السابق تتصرف احيانًا في الشرق الأوسط كشرطي يسعى لفرض الأمن، أو كديبلوماسي يسعى لحل الأزمات، من المرجح أن تتصرف في المستقبل في المنطقة كإطفائي يساهم في اخماد الحرائق، كما فعلت خلال المواجهة الدموية الأخيرة بين إسرائيل وحركة حماس في غزة في السنة الماضية، وليس أكثر. وعلى الرغم من كل التصريحات والتبريرات والتطمينات التي رافقت جولة الرئيس بايدن في المنطقة، فإن التطورات الميدانية فيها، واتجاهات الرأي العام الأميركي ومواقف الطبقة السياسية والتحدي الصيني في الشرق الأقصى تدفعنا للقول أن اللحظة التاريخية الأميركية في الشرق الأوسط هي في طور الأفول.