القضايا التي تطغى على السجال الانتخابي الحاد بين الرئيس دونالد ترامب ومنافسه الديموقراطي جوزيف بايدن، والتي ستحسم مواقف الناخبين الأميركيين، هي الاقتصاد وجائحة فيروس كورونا وغيرها من القضايا الداخلية الهامة، مثل برامج وكلفة العناية الصحية، ومواقف المرشحين حول مسائل خلافية داخلية، من أبرزها العنصرية النظامية ضد الأميركيين من أصل أفريقي. وعلى الرغم من الانتقادات التي يوجهها الرئيس ترامب إلى الصين، التي يلومها على جلب ما يسميه “الفيروس الصيني” إلى الولايات المتحدة، والانتقادات التي يوجهها المرشح بايدن لسياسات روسيا العدائية ورئيسها فلاديمير بوتين، فإن السياسة الخارجية، بما فيها الخلاف بين المرشحين حول كيفية التعامل مع الحلفاء التقليديين، وقضايا ونزاعات الشرق الاوسط، لم تكن حاضرة بقوة في المؤتمرين الوطنيين للحزبين في الشهر الماضي. مواقف المرشحين تعكس اتجاهات واهتمامات ومخاوف الرأي العام كما يتبين من معظم استطلاعات الرأي.
خلال إدارة الرئيس السابق باراك أوباما (ونائبه بايدن) بدأت واشنطن سياسة ما سمي آنذاك “التحول إلى آسيا”، والتي صاحبها بداية الانكفاء عن منطقة الشرق الأوسط. أوباما شجع دول المنطقة على تحمل مسؤولية الدفاع عن نفسها، ومحاولة حل نزاعاتها بنفسها. جاء تدخل إدارة أوباما عسكرياً في ليبيا، ومساعدة المعارضة المسلحة في سوريا، بعد تردد ولم تكن مبنية على قناعات قوية للرئيس أوباما، وهذا ما يفسر اخفاق واشنطن (وحلفائها الأوروبيين والعرب) في متابعة وتسهيل عملية التغيير السياسي في ليبيا، وتراجع أوباما في آخر لحظة عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري حتى بعد استخدامه للأسلحة الكيمائية ضد المدنيين السوريين.
الرئيس أوباما سحب القوات الأميركية من العراق في 2011، على الرغم من وجود مخاوف حقيقية من أن ذلك سيخلق فراغاً أمنياً وسياسياً، الأمر الذي تحول إلى واقع مأساوي مع ظهور تنظيم ما سمي “بالدولة الاسلامية” (داعش) واحتلالها للموصل، ثاني أكبر مدينة عراقية في 2014. الرئيس أوباما بذل جهوداً كبيرة لتخفيض عدد القوات الأميركية في أفغانستان بنسبة كبيرة، ولكن عجز حكومته عن التوصل إلى تسوية مع حركة طالبان منعه من تحقيق رغبته بإخراج الولايات المتحدة من أطول حرب في تاريخها.
الرئيس ترامب الذي لم يخف خلال حملته الانتخابية رفضه واحتقاره لما يسميه “الحروب التي لا نهاية لها”، والتي تورط فيها أسلافه من جمهوريين وديموقراطيين، والتي تدور فوق مسرح كبير يمتد من أفغانستان إلى ليبيا، حاول، ولا يزال يحاول، إنهاء أو تقليص الوجود العسكري في هذه المنطقة. وفي ترجمة لهذا الشعار أعلن الجنرال فرانك ماكنزي قائد القوات المركزية، التي تشرف على القوات الأميركية في الشرق، عن تخفيض عدد القوات الأميركية في العراق من 5200 إلى 3000 عسكري في نهاية الشهر الجاري، أي قبل اسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية. كما كشف ماكنزي تفاصيل إضافية حول خطط تخفيض عدد القوات المنتشرة في أفغانستان من 8600 إلى 4500 عسكري مع نهاية شهر أكتوبر، أي قبل أيام من الانتخابات. ووضع الرئيس ترامب في هذا السياق زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو إلى الدوحة لاستئناف المفاوضات الرامية إلى التوصل إلى اتفاق سياسي في افغانستان. وخلال السنتين الماضيتين، حاول الرئيس ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا، ولكنه واجه معارضة من وزارة الدفاع، ساهمت في التعجيل باستقالة وزير الدفاع الأسبق جيمس ماتيس من منصبه. ولا يزال هناك حوالي 500 عسكري أميركي في سوريا. وكان الجنرال ماكنزي قد قال في الشهر الماضي أنه لا يتوقع بقاء هذه القوات في سوريا لوقت طويل.
الامدادات العسكرية البحرية والجوية التي أرسلها الرئيس ترامب إلى مياه الخليج وإلى السعودية، جاءت كرد فعل على التصعيد الإيراني العسكري ضد منشآت النفط السعودية، وفي اعقاب الهجمات الصاروخية التي شنتها القوات الحوثية ضد المرافق المدنية في السعودية. وجاء سحب بطاريات صواريخ باتريوت وطائرات عسكرية أميركية من السعودية في شهر مايو/أيار ليؤكد أن هذه الامدادات مؤقتة، وإن جاء سحبها على خلفية خلافات بين البلدين، بعد أن طلب الرئيس ترامب من السعودية تخفيض انتاجها من النفط بسبب التأثير السلبي على انتاج الشركات الأميركية.
سياسة الرئيس ترامب في الشرق الاوسط تمحورت حول تعزيز علاقات واشنطن مع حلفائها التقليديين في المنطقة وخاصة اسرائيل، ولكن أيضا مع مصر والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وتركيا، وهي دول كانت علاقاتها مع الرئيس السابق أوباما قد شابها الفتور وحتى التوتر لأسباب مختلفة. قلب ترامب العلاقات الأميركية-الإيرانية رأساً على عقب، حين انسحب في 2018 من الاتفاق النووي، الذي وقعته إدارة الرئيس أوباما مع إيران، إضافة إلى الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي وألمانيا في 2015. كما فرض الرئيس ترامب عقوبات قاسية ضد إيران وكل من يساعدها بشكل مباشر وغير مباشر، شملت تشديد القيود والعقوبات على حلفاء إيران في المنطقة، وفي طليعتهم حزب الله في لبنان. مواقف ترامب المتشددة ضد إيران وصلت الى حد استهداف وقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني خلال وجوده في العراق.
الرئيس ترامب قدم دعماً غير مشروطاً لإسرائيل، شمل الاعتراف بالقدس كعاصمة لها، كما نقل السفارة الأميركية إلى القدس، واعترف بضم اسرائيل لهضبة الجولان السورية المحتلة، إضافة إلى قطع جميع المساعدات الاقتصادية والديبلوماسية مع السلطة الفلسطينية. اعتبر الرئيس ترامب اتفاق تطبيع العلاقات بين دولة الإمارات العربية المتحدة واسرائيل انتصاراً لسياسته “كصانع سلام” في الشرق الاوسط، ولكن على الرغم من أهمية هذه الخطوة، فإن سياسة ترامب أبعدت اسرائيل والفلسطينيين عن السلام أكثر من أي وقت مضى.
إذا كانت علاقة أو معرفة الرئيس ترامب بقضايا وشؤون وشجون الشرق الأوسط محدودة للغاية، فإن لمنافسه بايدن علاقات قديمة وواسعة، ومعرفة أعمق بمنطقة تعامل معها كعضو في مجلس الشيوخ وكنائب للرئيس أوباما خلال عقود طويلة. بايدن كان معروفاً بتأييده القوي لاسرائيل، وهو الذي وصف نفسه ب “الصهيوني” قبل سنوات، ولعب دوراً هاماً ومباشراً في التعامل مع العراق وسوريا وإيران عندما كان نائبا للرئيس اوباما.
الخلافات بين ترامب وبايدن حول الشرق الاوسط جدية وعميقة وكذلك الخلافات بين الرجلين حول كيفية التعامل مع الدول المسلمة في العالم والجاليات المسلمة والعربية والمهاجرين بشكل عام وحقوقهم المدنية في الولايات المتحدة.
قبل حوالي أسبوعين، أصدر المرشح بايدن خطة شراكة مع العرب–الأميركيين تعهد بتطبيقها في حال انتخابه، تضمنت مباديء أساسية تختلف جذريا عن سياسة ترامب، تشمل كيفية التعامل مع الجاليات العربية في الولايات المتحدة، وكذلك بعض المباديء التي سيعتمدها في التعامل مع قضايا الشرق الاوسط ومع بعض دول المنطقة.
ركزت خطة بايدن على قضايا الحقوق المدنية والسياسية للجاليات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة، بما في ذلك نبذ جميع أشكال التعصب والتمييز ضد هذه الجاليات، وذلك في سياق احترام حقوق جميع المواطنين الأميركيين بعض النظر عن خلفياتهم. وجاء في نص الخطة “إن التعصب ضد العرب قد استخدم لمحاولة عزلهم واخراسهم وتهميش جماعة كاملة، وبايدن يؤمن بضرورة رفض هذا التعصب في أي شكل يبرز فيه، بما في ذلك عندما يصدر عن مسؤولين منتخبين، أو أولئك الذين يسعون لمناصب رسمية”.
تعهد بايدن باشراك العرب–الأميركيين في حملته، “وسوف يشرك العرب-الاميركيين في مختلف اجهزة حكومته”. كما ألزم بايدن نفسه في أول يوم له في الحكم “بإلغاء قرار (ترامب) الذي يتناقض مع القيم الأميركية، والذي فرض بموجبه الحظر على سفر المسلمين واللاجئين” إلى الولايات المتحدة، كما سيلغي سياسة تفريق العائلات التي وصفها بغير الأخلاقية، وتعهد بالترحيب بالذين يسعون إلى تحقيق “الحلم الأميركي” بمن فيهم المهاجرين من العالم العربي.
كما تعهد بايدن بنبذ العنصرية النظامية وغيرها من سياسات التمييز التي تستهدف وتشكك بالجاليات العربية-الأميركية، وذكر بعض هذه السياسات ومن بينها لوائح السفر المصممة لمراقبة هذه الجاليات. كما تعهد بصيانة حق التعبير للمواطنين الأميركيين” ولذلك فهو لن يؤيد جهود أي دولة ديموقراطية لقمع حرية التعبير، ولهذا انتقد بايدن قرار اسرائيل عدم السماح لمشرعين أميركيين (النائبتين رشيدة طليب والهان عمر) بزيارة اسرائيل بسبب دعمهما لمقاطعة اسرائيل”.
وحول سياسة بايدن في المنطقة أكدت الخطة” ان علاقات الرئيس بايدن مع الدول الشرق أوسطية، التي يقودها حكام متسلطون، سوف تأخذ بعين الاعتبار وبشكل بارز حقوق الانسان والمباديء الديموقراطية. ومكانتنا الاخلاقية في العالم سوف تتعرض للضرر، كما سيعاني المعارضون في العالم عندما يبرر الرئيس ترامب الانتهاكات السعودية، وحين يتزلف للقادة المتسلطين، أو عندما يدعو الرئيس المصري: ديكتاتوري المفضّل”.
ودعا بايدن إلى احترام قيمة كل فلسطيني وكل اسرائيلي، وألزم نفسه بالعمل على “ضمان تمتع الفلسطينيين والاسرائيليين بالمساواة في مجالات الحرية والأمن والازدهار والديموقراطية. كما أن سياساته سوف تكون مبنية على التزامه بحل الدولتين”. كما أعرب بايدن عن معارضته لأي اجراءات أحادية الجانب، وأكد معارضته لضم اسرائيل للأراضي الفلسطينية، كما عارض أعمال الاستيطان الاسرائيلي أو توسيعه، وتعهد في حال انتخابه باستئناف برامج المساعدات الأميركية الاقتصادية والانسانية للفلسطينيين، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، والسعي لإعادة فتح بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. ولكن نص خطة بايدن لم يتضمن كلمة “الاحتلال” خلال اشارته إلى الأراضي الفلسطينية.
وسوف يعمل بايدن في حال انتخابه على التعاون مع المجتمع المدني في لبنان لمساعدة المواطنين اللبنانيين على تطوير وبناء مستقبل سياسي واقتصادي متحرر من الفساد. كما تعهد بمواصلة دعم القوات اللبنانية المسلحة باعتبارها عمودا اساسيا لاستقرار لبنان.
ورأى بايدن “إن الرئيس ترامب قد أعطى السعودية صكاً أبيضاً لمواصلة سياسات كارثية، بما في ذلك الحرب المستمرة في اليمن وجريمة قتل جمال خاشقجي، وقمع المعارضة في الداخل، بما في ذلك استهداف النساء الناشطات. بايدن سوف يراجع علاقات الحكومة الأميركية مع الحكومة السعودية، وسوف ينهي الدعم الموجه للحرب التي تقودها السعودية في اليمن”.
وحول سوريا، تعهد بايدن بدعم المجتمع المدني السوري وشركاء الولايات المتحدة المؤيدون للديموقراطية، ومواصلة قيادة الائتلاف الدولي ضد (داعش)، واستخدام نفوذ الولايات المتحدة للضغط على الأطراف المختلفة للتوصل إلى حلول سياسية.
ولكن تصور بايدن للشرق الاوسط، تفادى ذكر إيران وسياساتها العدائية، والتي تستهدف مصالح الولايات المتحدة وأصدقائها في المنطقة. كما تفادى التطرق إلى ما سيفعله في حال انتخابه، بشأن الاتفاق النووي مع إيران الذي قوضه الرئيس ترامب. كما لم يتطرق بايدن إلى الدور العسكري الروسي السلبي في سوريا (حيث تسببت القوات الروسية مؤخراً في جرح أربعة عسكريين أميركيين في سوريا) أو في ليبيا، كما تفادى بايدن الإشارة إلى التدخل التركي العسكري في سوريا وليبيا.
ترامب وبايدن يختلفان حول قضايا عديدة في الشرق الأوسط، ولكنهما يلتقيان إلى حد ما في رغبتهما بتقليص أو حتى إنهاء الدور العسكري الأميركي في المنطقة وتفادي التورط في نزاعاتها.