لخّص الرئيس بايدن في الكلمات الأولى في خطابه أمام الكونغرس – بمناسبة مرور مئة يوم له في الحكم، التحديات التاريخية التي يواجهها، حين أشار إلى أنه ورث أمّة في أزمة غير معهودة: “أسوأ جائحة منذ قرن، أسوأ أزمة اقتصادية منذ الكساد الكبير ( في ثلاثينات القرن الماضي)، وأسوأ هجوم علي ديموقراطيتنا منذ الحرب الأهلية”، في إشارة إلى اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير/الماضي من قبل مئات المتطرفين من أنصار الرئيس السابق ترامب في محاولة لقلب نتائج الانتخابات. ولكنه سارع للقول إن ما حققه في أول مئة يوم، وما يريد أن يحققه من خلال خططه الطموحة، الهادفة إلى إحداث تغييرات جذرية في الاقتصاد والتعليم، والاستثمار المكثف في خلق الوظائف الجديدة، وإعادة بناء البنية التحتية، وتوفير شبكة أمان اجتماعي وصحي أوسع، سوف تؤهل الولايات المتحدة “لامتلاك القرن الحادي والعشرين” ومواجهة خصومها المتسلطين في الخارج.
وعلى الرغم من أن معظم الخطاب ركز على برامج وطموحات بايدن الداخلية، إلا أنه ربط إعادة بناء اقتصاد قوي وحديث، يعتمد على مجتمع موحد تنحسر فيه الاستقطابات السياسية، والفروقات الاقتصادية النافرة والتناقضات الاجتماعية والتعليمية المحرجة، باستعادة الولايات المتحدة لمكانتها المتميزة كدولة متقدمة صناعيًا وعلميًا، وكقائدة لائتلاف دولي من الديموقراطيات للانتصار في المواجهة التاريخية الراهنة بين الأنظمة الأوتوقراطية السلطوية المتمثلة بالنظامين الصيني والروسي، والديموقراطيات التي عادت الولايات المتحدة لتقودها بعد انتخابه. وبينما حظيت روسيا بكلمات معدودة من بايدن، التي يراها كدولة سلبية قادرة فقط على القرصنة، حظيت الصين في المقابل باهتمام حقيقي عكس أهميتها المتنامية كمنافس اقتصادي واستراتيجي قوي بقيادة الرئيس جي شينغ بينغ، الذي قال بايدن أنه “جاد بالمطلق لتحويل الصين إلى الدولة الأكثر أهمية والأكثر تأثيرًا في العالم”.
وأشار بايدن إلى الاستقطابات السياسية والأيديولوجية، التي ازدادت خطورة خلال ولاية سلفه ترامب، وإلى التناقضات الاقتصادية التي أبرزتها إلى السطح بشكل نافر جائحة كورونا، في سياق رؤية خصوم الولايات المتحدة لهذه الانقسامات والمشاكل الداخلية على أنها “الدليل على أن الشمس تغيب على الديموقراطية الأمريكية”. ولهذا السبب، تابع بايدن “علينا أن نثبت أن الديموقراطية لا تزال صالحة، وبأننا قادرون على أن نحقق الانجازات لشعبنا”.
أبرز انجازات بايدن الداخلية كانت في اقرار خطة إنعاش الاقتصاد الأمريكي ومساعدة ضحايا فيروس كورونا، والتي أقرها الكونغرس بأصوات الغالبية الديموقراطية البسيطة، والسرعة النسبية التي تمت بها عملية تلقيح أكثرية الأمريكيين ضد فيروس كورونا. تحديات بايدن في المئة يوم المقبلة، وما يلحقها، هي اقناع الكونغرس والأمريكيين بجدوى خططه الطموحة الأخرى، مثل خطة إعادة بناء البنية التحتية، والتي تزيد عن ألفي مليار دولار، “وخطة العائلات الأمريكية” والبالغة قيمتها 1800 مليار دولار، لتوفير المساعدات للعائلات في مجالات التعليم والعناية الصحية، التي اقترحها في خطابه. كلفة هذه الخطط الثلاثة تزيد عن الـ 6 ترليون دولار، وفي حال تنفيذ الخطتين الجديدتين، أو حتى جزء أساسي منهما، فإن ذلك يعني إحداث تغييرات جذرية في مختلف أوجه الحياة بالنسبة للأميركيين، مماثلة في عمقها وتاريخيتها لتلك الإنجازات التي حققها الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت في ثلاثينات وأربعينيات القرن الماضي. ما حاول بايدن أن يفعله في خطابه، هو في إعادة الاعتبار لما يمكن أن تقوم به الحكومة الفيدرالية لتغيير حياة الأمريكيين إلى الأفضل. وهذا موقف مغاير للطروحات التي نادى بها الرئيس رونالد ريغان قبل أربعة عقود، حين حاول إقناع الأمريكيين بأن الحكومة الفيدرالية “هي المشكلة”، وأن الحد من برامجها المكلفة ضروري لإحياء الاقتصاد الأمريكي الحر والمبادرة الفردية. وفي الخطاب السياسي لبعض المحافظين المتشددين، يتم رسم الحكومة الفيدرالية، أحياناً، وكأنها العدو الذي يجب مواجهته وعدم الثقة به. ولكن بايدن، الذي أثرت على تفكيره جائحة كورونا، التي أبرزت بشكل صارخ أهمية الدور المركزي للحكومة الفيدرالية في التصدي لهذه الكارثة الصحية، حاول أن يقنع الأمريكيين إن الحكومة الفدرالية – بمساعداتها المالية والصحية المباشرة للمواطنين، وإعادة بناء بنيتها التحتية وتوفير الفرص المتساوية لمواطنيها – يجب أن تكون أيضًا جزءًا من الحل.
الرئيس بايدن يدرك أن أمامه حوالي 18 شهرًا، لتحقيق بعض، إن لم نقل، جميع طموحاته، أي قبل موعد الانتخابات النيابية النصفية في 2022. وهو يدرك أيضاً أن الجمهوريين، الذين يصفون برامجه “بالاشتراكية”، سوف يعارضونه بكل ما لديهم من قوة، وسوف يحاولون استغلال تحفظات بعض المشرّعين الديموقراطيين على برامج بايدن، ما يعني أن عليه أن يبذل أقصى جهده للحفاظ على أكثرية نيابية بسيطة للغاية. وبايدن يدرك عمق الخلافات والاستقطابات السياسية والأيديولوجية الداخلية، والتي أوصلت إلى اقتحام مبنى الكابيتول، وصعوبة مواجهة تحدي الصين بوجود جبهة داخلية غير صلبة. ولكن بايدن، الذي كان يطمح للرئاسة منذ انتخابه لمجلس الشيوخ قبل حوالي نصف قرن، يتصرف الآن، وكأن أمامه بضعة أسابيع لتحقيق طموحاته وليس 18 شهرًا، حين يصبح في الثمانين من العمر.
حتى الآن، انجازات بايدن في مجال السياسة الخارجية محدودة، وهي كما لاحظ المعلق دافيد اغناتيوس تتميز بما حاول أن يفككه، وليس فيما حاول أن يحققه، وذلك في إشارة لمحاولة اصلاح الخراب الذي تسبب به سلفه ترامب، الذي شكك بجدوى حلف الناتو، والذي عزز علاقاته مع الحكام المتسلطين مثل فلاديمير بوتين، وزعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان وغيرهم. ولم يكن صدفة أن يلتقي بايدن بأول قائد وجهاً لوجه حين استضاف رئيس وزراء اليابان يوشيهيدي سوغا في البيت الأبيض.
بايدن تطرق بشكل عابر إلى التحديات الخارجية التي يواجهها، والتي ستزداد ضغوطها مع الزمن إذا لم تتم معالجتها بسرعة، وهي الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية. وهذه الدول الأربعة وصفها آخر تقرير لأجهزة الاستخبارات الأمريكية بأنها أثبتت “قدرتها وعزمها على الدفاع عن مصالحها على حساب الولايات المتحدة وحلفائها”.
حتى الآن بايدن يتحدث – عن حق – عن أن بداية التصدي لهذه التحديات، هي في اصلاح التحالفات التقليدية للولايات المتحدة في أوروبا وفي شرق آسيا على الأخص، ولكن هذا يبقي الولايات المتحدة في مرحلة اصلاح الأضرار التي تسبب بها ترامب، ولا يرقى إلى مستوى استراتيجية شاملة ومتكاملة تطرحها واشنطن وتقنع حلفائها بالالتزام بها لمواجهة هذه التحديات. الرئيس بايدن قال إن الولايات المتحدة لا تسعى إلى تصعيد التوتر مع الصين وروسيا، وأنها ترحب بالتنافس الاقتصادي مع الصين، ولكنها ستواجه الممارسات التجارية غير المنصفة. ولكنه لا يزال بحاجة إلى تصور أوسع وقابل للتنفيذ بالتعاون مع الحلفاء للتصدي لممارسات الصين وروسيا السلبية في مختلف المجالات الاقتصادية والاستراتيجية. بايدن يواجه في هذا السياق شكوكًا أوروبية وآسيوية حقيقية ومبررة، في ضوء سياسات سلفه ترامب، من أن تعود واشنطن في المستقبل إلى اعتماد سياسة انعزالية مماثلة لسياسة ترامب. وعلى بايدن أن يطور آليات فعالة أكثر لمواجهة أخطار الصين وروسيا، ولإقناع الحلفاء بأن ولاية ترامب هي الاستثناء للقاعدة.
تحدث بايدن بشكل عابر عن الطموحات النووية لكل من إيران وكوريا الشمالية، مشيرًا إلى أن هذه الطموحات “تمثل تهديدًا جديًا لأمن الولايات المتحدة والأمن العالمي”، وأضاف “سوف نعمل عن كثب مع حلفائنا لمعالجة هذه الأخطار التي تمثلها هاتين الدولتين من خلال الديبلوماسية والردع الصارم”. ولكنه لم يتطرق إلى كيفية تعديل وتطوير الاتفاق النووي مع إيران، وكيف سيسعى إلى الحد من خطر الصواريخ الباليستية الإيرانية؟ وكيف سيعمل على الحد من ممارساتها التخريبية في المنطقة؟ وهل يمكن أن يحقق ذلك دون إعطاء دور أكبر للحلفاء في أوروبا وفي الشرق الاوسط؟ والشيء ذاته يمكن قوله بالنسبة للحد من الخطر النووي الذي تمثله كوريا الشمالية، بغض النظر عن حديث بايدن عن “الردع الصارم” وما يعنيه.
بايدن، الذي ورث مع الرئيس باراك أوباما عبء الحرب في أفغانستان، هو الرئيس الرابع الذي يرث هذه الحرب الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، والمصمم على عدم توريثها لخلفه، وهو موقف يحظى بتأييد واسع في الكونغرس وفي المجتمع الأميركي.
سياسات وإجراءات بايدن ومواقفه حتى الآن، تؤكد عزمه مواصلة تخفيض البروفيل الأميركي العسكري وحتى الديبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط – بايدن لم يتطرق للقضايا التي كانت تحظى باهتمام أسلافه في الشرق الأوسط، باستثناء المباحثات النووية مع إيران – وهي عملية بدأها الرئيس الأسبق باراك أوباما حين سحب القوات الأمريكية من العراق في 2011، والتي واصلها الرئيس ترامب، الذي خفض عديد القوات في العراق وأفغانستان، وسحب القوات الأميركية من الصومال. إدارة الرئيس بايدن غيرت من مهام القوات الأميركية في العراق وحصرتها فقط بالتدريب، ربما تمهيدًا لسحبها في المستقبل القريب، هي والقوات الأميركية المحدودة في سوريا.
خطاب بايدن، وتركيزه على مواجهة التحدي الصيني، يعني من جملة ما يعنيه، أن عملية التحول البطيئة من الشرق الأوسط والخليج إلى الشرق الأقصى وتحدياته المتنامية، سوف تستمر، لأسباب عديدة اقتصادية واستراتيجية، ليس أقلها إن الولايات المتحدة دفعت ثمنًا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا باهظًا لحربيها في أفغانستان والعراق، وضد تنظيمي القاعدة وداعش، وهي حروب أظهرت محدودية القوة العسكرية الأمريكية، في منطقة لم تعد حيوية أو جوهرية لأمن واقتصاد الولايات المتحدة كما كانت من قبل.