قبل ستة أشهر أدلى الرئيس جوزيف بايدن بقسم اليمين لتطبيق وحماية الدستور، بصفته الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، خلال أكثر لحظة داكنة في تاريخ البلاد منذ الحرب العالمية الثانية. أدلى بايدن بقسمه وورائه مبنى الكابيتول، صرح الديموقراطية الأميركية، بعد أقل من أسبوعين من تعرضه لاجتياح من مئات المتطرفين والعنصريين الذين حاولوا ترهيب الكونغرس لمنعه من التصديق على انتخاب بايدن، مدفوعين بقوة “الكذبة الكبرى” التي خلقها وروجها الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي اتهم بايدن والديموقراطيين، ومن ورائهم معظم وسائل الاعلام، بأنهم سرقوا البيت الأبيض منه وحرموه من ولاية ثانية.
التركة التي ورثها بايدن رسميًا في العشرين من يناير/كانون الثاني الماضي تاريخية بالفعل. أكبر جائحة قاتلة منذ قرن، جلبت معها كارثة اقتصادية، هي الأوجع والأخطر منذ الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي. كما ورث بايدن مجتمعًا عصفت به التوترات العنصرية، التي انزلقت إلى شوارع بعض كبريات المدن الأميركية، وأدت إلى اشتباكات بين المطالبين بالمساواة ونبذ العنصرية الممنهجة وأنصار حركة “حياة السود هامة” من جهة، وأنصار الرئيس السابق ترامب، الذي نضحت سياساته ومواقفه بالعنصرية والتمييز، وعناصر الشرطة من جهة أخرى.
قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس، مثل زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ آنذاك ميتش ماكونال، وزعيم الأقلية في مجلس النواب كيفن ماكارثي وآخرون من الذين صعقهم، كما صعق غيرهم، الاجتياح الدموي للكابيتول، سارعوا في الساعات والأيام، التي تلت ذلك الانتهاك الصارخ للديموقراطية الأميركية إلى إدانة ولوم دونالد ترامب لتحريض أنصاره على رفض نتائج الانتخابات، وتحميله المسؤولية الأخلاقية عن الاجتياح. ولكن في الأسابيع التي تلت الاجتياح، وبعد أن أدرك هؤلاء القادة أن ترامب لا يزال يملك الحزب الجمهوري، خاصة قاعدته المتحمسة له، تراجعوا عن مواقفهم الأولية، وعادوا إلى تقديم البيعة للرئيس، الذي يرفض تصديق هزيمته، والذي يقضي أيامه في المنفى متنقلا بين منتجعه في مارا لاغو (حيث زاره النائب ماكارثي لتقبيل خاتم الطاعة) في ولاية فلوريدا، وقصره الرحب في بلدة بيدمينستر في ولاية نيوجرزي.
وخلال الأشهر الستة الماضية، نجح الجمهوريون في اجهاض أي محاولة لإنشاء لجنة تحقيق مستقلة يختارها قادة الحزبين لإجراء تحقيق شامل في خلفية اجتياح الكابيتول: من خطط له ومن موله؟ وما هي مضاعفاته؟ وكيف يمكن تفادي انتهاكات مماثلة في المستقبل؟ الجمهوريون ادعوا أن تحقيقات وزارة العدل كافية، ولكن الأسباب الحقيقية هي خوفهم من أن تؤثر التحقيقات ونتائجها على الانتخابات النصفية في 2022، أو الكشف عن تواطؤ بعض المشرعين الجمهوريين، وخاصة في مجلس النواب، مع الرعاع الذي اقتحموا الكابيتول، إضافة إلى القلق من احتمال استدعاء قادة جمهوريين من بينهم دونالد ترامب وزعيم الاقلية الجمهورية ماكارثي، الذي اتصل بترامب لحضه على مناشدة أنصاره وقف الاجتياح بعد احتلالهم للكابيتول.
على الصعيد الداخلي، تعامل بايدن بفعالية، وحقق انجازات هامة في مجال مكافحة فيروس كورونا عبر التعجيل بتلقيح الأميركيين، وتوفير تلقيح واحد على الأقل لأكثر من 68 بالمئة من الأميركيين مع نهاية شهره السادس في البيت الأبيض. اقرار خطة بايدن الطموحة (قيمتها 1.9$ ترليون) لمكافحة الجائحة، ودعم الاقتصاد الأميركي وتقديم المساعدات المالية المباشرة للأميركيين كانا من أبرز انجازاته خلال الأشهر الأولى لولايته. الديموقراطيون وحدهم في مجلسي الكونغرس أقروا الخطة التي عارضها جميع الأعضاء الجمهورين. في مجلس الشيوخ، المنقسم بالتساوي بين الحزبين، اضطرت نائبة الرئيس كامالا هاريس للإدلاء بصوتها لإعطاء الديموقراطيين أكثرية من صوت واحد لتمرير الخطة.
يوم الأربعاء وصل الخلاف والتوتر بين قادة الحزبين في مجلس النواب إلى مستوى غير معهود في العقود الماضية، حين رفضت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي الموافقة على تسمية عضوين جمهوريين متطرفين، يدينان بولاء أعمى لترامب، ويبشرون “بالكذبة الكبرى”، للمشاركة في لجنة تابعة للمجلس للتحقيق في اجتياح الكابيتول، بحجة أنهما غير مؤهلين للخدمة فيها، بعد أن اتهموا اللجنة بأنها تريد تحقيق الأهداف “الاوتوقراطية اليسارية” للحزب الديموقراطي، واستخدام اللجنة كمحاكمة ثالثة لترامب. وفي اليوم ذاته، جمّد الجمهوريون في مجلس الشيوخ عملية بدء مناقشة خطة بايدن الضخمة لإعادة بناء البنية التحتية القديمة، والتي تصل قيمتها إلى ترليون و200 مليار دولار، والتي حظيت بدعم أولي من بعض الأعضاء الجمهوريين.
هذه المعارضة الجمهورية التي يرى الكثير من المحللين أنها تعكس وصول الحزبين في الكونغرس، وخاصة في مجلس النواب، إلى نقطة اللاعودة في خلافاتهما، مؤشر مقلق على الشلل شبه التام في العملية الديموقراطية في الكونغرس، قبل 18 شهرًا من موعد الانتخابات النصفية. تركيز الجمهوريين، في هذا الوقت المبكر نسبيًا ،على الانتخابات النصفية، يعني أن الأشهر المتبقية من هذه السنة، هي مدى النافذة الزمنية المحدودة لبايدن والديموقراطيين لتمرير خططتهم الطموحة، قبل أن يؤدي انشغال المشرعين بالانتخابات النصفية إلى تحييد الكونغرس.
التقدم الذي أحرزه بايدن في مجال مكافحة فيروس كورونا واحياء الاقتصاد، لا يخفي حقيقة أن إدارته لم تنجح حتى الآن في التصدي الفّعال لمحاولات الجمهوريين تشريع وإقرار قوانين محلية في عشرات الولايات التي يسيطرون على مجالسها التشريعية لخلق عقبات إدارية ولوجستية في وجه الشرائح الاجتماعية، التي تصوت تقليديًا لمرشحي الحزب الديموقراطي، وخاصة في أوساط الاميركيين من اصل أفريقي أو الفقراء.
إدارة بايدن لم تنجح، أيضا، في تقليص عدد المهاجرين، الذي يدخلون إلى الولايات المتحدة بشكل غير شرعي. كما لم ينجح بايدن في إقناع الجمهوريين في الكونغرس بالموافقة على مشروع قانون اصلاحي جديد لأساليب تعاطي الشرطة مع الشباب الأميركيين من أصل أفريقي، أعطي اسم جورج فلويد، تيمناً بفلويد الأميركي، من أصل أفريقي، الذي قتلته ركبة شرطي أبيض في مايو 2020 في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، وهي الجريمة التي فجرت تظاهرات شعبية احتجاجية عارمة ضد التمييز العنصري في المدن الأميركية، ساهم الرئيس ترامب في أشهره الاخيرة وعبر تصريحاته الاستفزازية في تأجيجها.
وعلى الرغم من محاولات ترامب وأنصاره لخلق صورة نمطية عن بايدن بأنه اشتراكي واهن، أظهر آخر استطلاع للرأي اجرته شبكة التلفزيون سي بي أس أن 58 بالمئة من الأميركيين يوافقون على أدائه. خلال سنواته الأربع في البيت الأبيض، بقيت شعبية دونالد ترامب دون الخمسين بالمئة.
انجازات بايدن على الصعيد الخارجي لا تزال في بداياتها وقيد التطور، وبعضها رمزي. بايدن نجح في رأب الشروخ والانقسامات العميقة والخطيرة التي تسبب بها الرئيس السابق ترامب في علاقات الولايات المتحدة التقليدية والقوية بأعضاء حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وكذلك مع الحليفين الهامين في شرق آسيا: اليابان وكوريا الجنوبية، وكلها تعرضت للاهتزازات والخلافات خلال ولاية ترامب، الذي اختار إقامة علاقات شخصية وودية (وسرية) مع أحد أقسى طغاة العالم، زعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون. كما أعاد بايدن مسألة احترام حقوق الانسان إلى السياسية الخارجية الأميركية، وهي مسألة تجاهلها، كليًا، سلفه ترامب. ورحب المجتمع الدولي بعودة واشنطن إلى اتفاقية باريس حول حماية البيئة، وإلى منظمة الصحة العالمية.
وبينما بنى ترامب علاقات حميمة وشخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (وأيضا مع الرئيس الصيني جي شينغ بينغ قبل جائحة كورونا) فرض بايدن عقوبات إضافية ضد روسيا، وحذر روسيا والصين من مغبة مواصلة الهجمات السابيرانية ضد الأجهزة الحكومية أو الشركات الأميركية. أن يتخذ بايدن اجراءات عقابية أكثر تجاه البلدين، كما يدعو البعض من اليمين واليسار، هي مسألة مفتوحة ولا تزال قيد البحث وواردة.
خلال شهر ابريل/نيسان أعلن بايدن أن جميع القوات الأميركية في أفغانستان سوف تنسحب قبل الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر/أيلول الإرهابية التي أدت إلى غزو أفغانستان. وعلى الرغم من الانجازات الميدانية التي حققتها قوات طالبان، وخاصة في شمال البلاد، يواصل بايدن التأكيد على أن قراره – الذي يحظى بتأييد أكثرية الأميركيين – نهائي وغير قابل للتعديل. آخر تقويم للاستخبارات الأميركية حول مستقبل الحكومة الافغانية في العاصمة كابول، لا يستبعد احتمال سقوطها خلال ستة أشهر. وإذا واصل بايدن تحقيق انجازاته الداخلية، فإن مثل هذا التطور السلبي في أفغانستان، أي عودة حركة طالبان لحكم البلاد بعد عشرين سنة من الاحتلال والقتال، سوف يكون محرجًا ومؤلما لتلك الأقلية من الأميركيين التي تواصل مراقبة أفغانستان، ولكن ذلك قد لا يؤدي إلى الاضرار بمكانة وشعبية بايدن. ولكن في حال عودة التنظيمات الإرهابية، مثل القاعدة وغيرها، إلى الحصول على الملجأ الآمن في أفغانستان، وبمباركة من حركة طالبان، وإذا هددت هذه التنظيمات باستئناف حربها ضد الولايات المتحدة، عندها سوف يتعرض بايدن إلى نكسة هامة.
خلال حملته الانتخابية، وجّه بايدن انتقادات قوية إلى قادة تركيا ومصر والسعودية وتعهد بمحاسبة هؤلاء القادة بسبب سجلهم الرديء في مجال حقوق الانسان ولإضرارهم بالعلاقات الثنائية، كما هو الحال مع الرئيس التركي طيب رجب أردوغان، الذي اشترى منظومة صواريخ مضادة للصواريخ من صنع روسي، وعرّض نفسه لعقوبات أميركية وأطلسية. بايدن أعلن أنه سيسعى لإنهاء الحرب في اليمن، وفي هذا السياق عيّن المبعوث الخاص تيم لينديركينغ لهذا الهدف، كما عين المبعوث جيفري فيلتمان لمنطقة القرن الافريقي.
موقف بايدن النقدي من حرب اليمن دفعه لتجميد صفقات أسلحة وافقت عليها إدارة ترامب للسعودية ودولة الإمارات في بداية ولايته، ولكنه تراجع عنها، بما في ذلك الموافقة على الالتزام بتنفيذ صفقة أسلحة ضخمة لدولة الامارات بقيمة 23 مليار دولار، على الرغم من استمرار التحديات السياسية (في الكونغرس) والقانونية (من قبل عائلات أميركية قتل بعض أفرادها على أيدي القوات الإماراتية في ليبيا) لهذه الصفقة.
انتقادات بايدن لقادة هذه الدول، على الرغم من أهميتها، لا تعني أن “مراجعته” لجدوى هذه العلاقات ستؤدي إلى قطيعة نهائية معها، كما يتبين من استقبال كبار المسؤولين في إدارة بايدن للأمير خالد بن سلمان شقيق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، على الرغم من الانتقادات اللاذعة التي وجهها بايدن وغيره من المسؤولين الأميركيين لولي العهد السعودي، وكشفهم عن تقرير وكالة الاستخبارات المركزية، والذي حمّل عمليًا ولي العهد السعودي مسؤولية اغتيال الصحفي السعودي والمعلق في صحيفة واشنطن بوست جمال خاشقجي.
أيضا انتقادات بايدن القوية للرئيس التركي أردوغان، لا تلغي حاجة ورغبة واشنطن بأن تقوم تركيا بحماية وإدارة مطار كابول الدولي في افغانستان بعد الانسحاب الكامل لقوات حلف الناتو من البلاد.
اتخذ الرئيس بايدن قرارات عديدة سعى من خلالها إصلاح أو احتواء الأضرار الكبيرة التي تسبب بها سلفه ترامب للفلسطينيين ولخدمة مصالح إسرائيل، ومن بينها الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس (وكذلك الاعتراف بضم إسرائيل لهضبة الجولان السورية المحتلة) وقطع المساعدات الاقتصادية عن الفلسطينيين، وإغلاق القنصلية الأميركية في القدس، التي كانت صلة الوصل الأساسية مع الفلسطينيين، وكذلك اقفال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
وعاد بايدن لتأكيد التزام واشنطن ،المبدئي على الأقل، بحل الدولتين للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، (وهو ما كرره خلال استقباله للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قبل أيام في البيت الأبيض) وهو ما تخلت عنه إدارة سلفه ترامب، واستئناف المساعدات الاقتصادية، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس. وساهم التدخل الأميركي الديبلوماسي في احتواء المواجهة العسكرية الاخيرة بين اسرائيل وحركة حماس في غزة، وإن أوضحت واشنطن بأكثر من طريقة، أن هذه الجهود لا ترقى، ولن ترقى في أي وقت قريب، إلى محاولة لإحياء الوساطة الاميركية والسعي العملي لتحقيق حل الدولتين للنزاع.
عودة إدارة بايدن للتفاوض مع إيران، عبر الدول الأخرى الموقعة على الاتفاق النووي في 2015، والذي انسحب منه الرئيس ترامب في 2018، لم تؤد إلى أي اختراق بعد ست جولات من المفاوضات في فيينا. المفاوضات تراوح في مكانها على خلفية ازدياد التوتر في علاقات البلدين، كما يتبين من الاتهامات الأميركية القوية لطهران بتعطيل التقدم، ووضع اللوم على واشنطن لتعثر المفاوضات. ولكن الاتهامات التي وجهها الجمهوريون لبايدن، ومخاوف الدول العربية في الخليج وإسرائيل من أنه مستعجل للعودة إلى الاتفاق النووي دون تعديلات هامة عليه، تبدو الآن أنه مبالغ فيها.
في الأسابيع الماضية، قامت وزارة الدفاع الأميركية بسحب منظومات عسكرية، معظمها صاروخية، وغيرها من المعدات المخزونة في دول، مثل العراق والسعودية وقطر، مع الجنود الذين يديرونها، إما إلى الولايات المتحدة، أو لإعادة تخزينها في الأردن. منذ سحب القوات الأميركية من العراق في 2011، سعى الرؤساء باراك أوباما ودونالد ترامب، والآن بايدن، إلى تقليص “البروفايل” العسكري الأميركي في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق سوف يناقش الرئيس بايدن، حين يلتقي يوم الأثنين المقبل برئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي في البيت الأبيض، مسألة تقليص عديد القوات الأميركية في العراق.
الرئيس الاسبق أوباما، كان يتحدث عن ضرورة “تحول” الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، إلى الشرق الأقصى (التسمية الأصح والشائعة، شرق آسيا)، وهذا ما واصله دونالد ترامب، وما يواصله الآن بايدن. هذا “التحول” إلى شرق آسيا لمواجهة التحدي الصيني الاقتصادي والاستراتيجي، يحظى بتأييد في الأجهزة البيروقراطية الأميركية، وبقبول متزايد من قبل الحزبين في الكونغرس، ومن قبل الشعب الأميركي. هذا التحول إلى الشرق الأقصى، لا يعني أن واشنطن ستدير ظهرها إلى الشرق الأوسط، وتحديدًا منطقة الخليج، على الرغم من أن الولايات المتحدة أصبحت أكبر منتج للنفط في العالم (19 مليون برميل في اليوم)، ولكنه يعني أنها لن تستثمر الكثير من مواردها العسكرية أو الديبلوماسية في هذه المنطقة، التي منيت فيها بنكسات عسكرية في أطول حربين في تاريخها: أفغانستان والعراق. هذا النمط في التعامل مع الشرق الأوسط سوف يستمر خلال ولاية بايدن، ويمكن القول، بكثير من الثقة، أن خلفه سيواصل العمل بهذا النمط أيضًا.