تقليدياً، تحتل قضايا السياسة الخارجية، باستثناء الحروب التي تشارك فيها الولايات المتحدة، مكانة متأخرة بين القضايا التي تحسم انتخابات الرئاسة الأميركية، مثل الاقتصاد ومشتقاته، مثل معدلات التضخم والبطالة، أو معدلات الجريمة أو التوترات الثقافية، مثل الخلاف حول الاجهاض واقتناء الأسلحة النارية. ولكن مع بداية هذه السنة الانتخابية الجديدة، تبين مختلف استطلاعات الرأي أن حوالي ثلث الناخبين الأميركيين يقولون أن القضايا الساخنة الخارجية، مثل الغزو الروسي لأوكرانيا، والحرب بين اسرائيل وحركة حماس، والتي أدت إلى احتلال إسرائيل للقطاع، وتدمير أجزاء كبيرة منه، إضافة إلى احتمال تحول التوتر بين الصين وتايوان إلى نزاع عسكري مفتوح، سوف تؤثر على خياراتهم الانتخابية. وتتضاعف نسبة الناخبين الذين يعتبرون القضايا الخارجية محورية في تحديد خياراتهم الانتخابية، إذا اضيف التوتر على الحدود الأميركية-المكسيكية وأزمة اللاجئين والمهاجرين وتهريب المخدرات عبر هذه الحدود إلى هذه القائمة.
كما يبين تاريخ الانتخابات الرئاسية أن القضايا الخارجية تخدم مصلحة الرئيس الذي يسعى إلى تجديد ولايته. ولكن الشعبية المتدنية للرئيس بايدن، كما تعكسها معظم استطلاعات الرأي وغيرها من المؤشرات، تُظهر أن هذه الانماط التاريخية وغيرها، مثل تلك التي تقول إن تحسن الاقتصاد الأميركي وانحسار معدلات التضخم والبطالة، كما هو الحال في هذا الموسم الانتخابي، لا تنطبق على الرئيس بايدن، وهذا استثناء بارز لهذه الانماط. وما يجعل هذا الاستثناء سافرًا هو أن المنافس المتوقع للرئيس بايدن في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبلة هو الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي يواجه أكثر من تسعين تهمة جنائية ومدنية في مدينتي نيويورك وواشنطن وولايتي جورجيا وفلوريدا، يمكن إذا صدرت في بعضها أحكام قضائية قبل يوم الانتخابات أن تؤدي إلى حالة غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة، أي وجود مرشح رئاسي مذنب بارتكاب جرائم جنائية أو مدنية، وربما صدرت بحقه أحكام بالسجن.
تاريخياً، تعتبر قضايا الهجرة واللاجئين قضايا تناقش في سياق “حقوق الانسان” أو “الاقتصاد”، ولكن الوضع الراهن على الحدود الأميركية-المكسيكية، والارتفاع الكبير في أرقام اللاجئين والمهاجرين، الذين إما يعبرون الحدود كمهاجرين غير موثقين أو كمطالبين باللجوء السياسي، والذي وصل في الأسابيع الماضية إلى حوالي 10 آلاف شخص في اليوم، عزز قناعة أكثرية من الأميركيين بأن الولايات المتحدة تواجه اليوم “غزوًا خارجياً” عبر الحدود الجنوبية للبلاد، يتطلب رداً تاريخياً واجراءات جذرية تتناسب مع حجم هذا “الغزو”. وتتحول أزمة الحدود مع المكسيك بالفعل إلى أزمة خارجية خانقة حين يضاف إليها خطر تهريب المخدرات عبر الحدود، خاصة مخدر الفنتانيل، والذي يتسبب بمقتل حوالي مئة ألف مواطن أميركي في السنة.
أخر استطلاعات الرأي تُظهر أن أكثرية من الأميركيين من مختلف الخلفيات السياسية ترى أن البلاد تتعرض إلى مثل هذا “الغزو الخارجي”. تصل هذه النسبة في أوساط الجمهوريين إلى 75 بالمئة، ولكنها تصل إلى 40 بالمئة في أوساط الديموقراطيين، ما يعني أن الرئيس بايدن يواجه تحدياً خطيرًا يمكن أن يهدد فرصه بالتجديد لنفسه لولاية ثانية بسبب عدم قدرته على ضبط تدفق المهاجرين عبر الحدود الجنوبية. وتعتبر قضية الحدود من أبرز القضايا الخلافية بين الحزبين. الجمهوريون بأكثريتهم يؤيدون الإجراءات المتشددة، وحتى القاسية، التي اتخذها الرئيس السابق ترامب لضبط الهجرة غير الموثقة، بما فيها إعادة المهاجرين الذين يدخلون الأراضي الأميركية دون أوراق شرعية إلى بلادهم الأصلية أو إجراءات اعتبرها الديموقراطيون ومنظمات الحقوق المدنية “غير إنسانية”، مثل فصل الأطفال عن أهاليهم بعد عبورهم الحدود ووضعهم في معسكرات خاصة. اخفاق الحزبين في التوصل إلى سياسية شاملة حول الهجرة في السنوات الماضية، أصبح من أبرز الخلافات السياسية-الثقافية بين الحزبين، وسبباً للتوتر، وحتى لارتكاب أعمال عنف من قبل المتشددين والعنصريين ضد المهاجرين أو المواطنين الأميركيين من أصول لاتينية أو آسيوية.
في السنة الماضية، امتدت الأزمة من المناطق الحدودية إلى قلب بعض أبرز وأكبر المدن الأميركية، حين بدأ حاكمي ولاية تكساس وفلوريدا غريغ آبوت ورون ديسانتيس سياسية راديكالية ومشينة، تتمثل في ارسال آلاف المهاجرين غير الموثقين مع عائلاتهم وأطفالهم في باصات إلى مدن كبيرة مثل نيويورك وشيكاغو ودينفر، وهي مدن لها تقاليد قديمة في قبول ومساعدة اللاجئين، ويدير شؤونها رؤساء بلدية من الديموقراطيين. وصول عشرات الآلاف من اللاجئين إلى هذه المدن، دون انذار ودون توفير أي دعم مسبق لهم، خلق تحديات مالية واجتماعية وثقافية لهذه المدن، التي تتعرض بدورها إلى “غزو” ديموغرافي هي غير قادرة على التعامل معه دون مساعدة طويلة الأمد من الحكومة الفيدرالية. هذا التحدي الجديد، ساهم في تعميق الخلافات بين الجمهوريين والديموقراطيين، وأبرز إلى العلن مرة أخرى عجز السلطات الأميركية على مختلف المستويات الفيدرالية والمحلية في احتواء هذه الأزمة.
وفي الأسابيع الماضية، أدى الخلاف بين الحزبين حول الهجرة إلى تعطيل سياسة الرئيس بايدن تجاه النزاعين العسكريين في أوكرانيا وغزة، وذلك حين ربط الحزب الجمهوري الذي يسيطر على مجلس النواب إقرار خطة بايدن لتقديم حزمة مساعدات عسكرية واقتصادية لأوكرانيا بقيمة 61 مليار دولار، و14 مليار دولار لإسرائيل، بقبول سلسلة من الاجراءات المتشددة على الحدود لضبط الهجرة. هذا الموقف أرغم إدارة الرئيس بايدن على الدخول في مفاوضات صعبة مع الجمهوريين لم تؤد إلى اتفاق قبل نهاية دورة المجلس في نهاية السنة الماضية قبل عطلة عيدي الميلاد ورأس السنة. ومن المرجح أن تظل هذه المساعدات لأوكرانيا وإسرائيل معلقة إلى حين حسم الخلاف حول الهجرة. ويرى بعض المراقبين أن الجمهوريين قد لا يريدون التوصل إلى اتفاق حول الهجرة لأنهم يعتبرون الأزمة على الحدود الجنوبية من بين القضايا التي ستساعدهم في معركتهم لهزيمة الرئيس بايدن في الانتخابات الرئاسية.
وإذا نجح الرئيس السابق ترامب في الفوز في الانتخابات الحزبية في ولاية آيوا في منتصف الشهر الجاري، وبعدها بإسبوع في ولاية نيوهامبشير وفي انتخابات ولاية ساوث كارولينا في 24 فبراير/شباط، حيث تبين مختلف استطلاعات الرأي أنه متقدم في هذه الولايات الثلاثة، فإنه من المرجح أن يحسم معركة ترشيح الحزب الجمهوري لصالحه قبل نهاية الشهر المقبل. وإذا حقق ترامب هذا الانجاز، فإن قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس وخارجه سوف يصطفون ورائه، ويعكسون مواقفه المتشددة حول الهجرة عبر الحدود الجنوبية. وفي الأشهر والأسابيع الماضية صعّد ترامب من هجماته الشنيعة والعنصرية ضد المهاجرين، الذين ادعى انهم “يسممون دماء” الأميركيين. وهذا بدوره يعني أن الرئيس بايدن لن يكون قادرًا من خلال القرارات التنفيذية وحدها، وغياب تعاون الحزب الجمهوري، على احتواء الأزمة الحدودية خلال هذه السنة، ما يعني أنه سوف يكون معرضًا لانتقادات الجمهوريين الذين سيحملونه مسؤولية الفشل في احتواء هذا “الغزو” الخارجي الخطير.
قبل أسابيع، قام الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي بزيارة مفاجئة لواشنطن – بتشجيع من الرئيس بايدن – لمحاولة اقناع قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس بالموافقة على خطة بايدن لمساعدة أوكرانيا عسكرياً في السنة الجديدة. الاستقبال الفاتر الذي لقيه هذه السنة اختلف جذرياً عن الترحيب الحار الذي لقيه قبل سنة. تعليق المساعدات العسكرية لأوكرانيا أو حتى تخفيضها، سوف تكون له مضاعفات استراتيجية وعسكرية ضخمة على مستقبل أوكرانيا وحلف الناتو والأمن الأوروبي، ومكانة الولايات المتحدة في العالم، وسمعتها كحليف يمكن الاعتماد عليه.
ومع اقتراب ترامب من الفوز بترشيح الحزب الجمهوري لولاية ثانية، ونظرَا لمعارضته لتسليح أوكرانيا ورغبته بإحياء علاقته الجيدة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن ذلك يعني تخلي الولايات المتحدة عن أوكرانيا ووضعها تحت رحمة بوتين. الدعم الأوروبي لأوكرانيا سوف ينحسر بسرعة إذا تم تعليق الدعم الأميركي، والدول الأوروبية غير قادرة حتى ولو أرادت تقديم الدعم العسكري الكافي لمساعدة أوكرانيا في الحفاظ على أراضيها، ناهيك بتحرير الأراضي التي احتلتها روسيا. ولولا الدعم الأميركي والأوروبي لأوكرانيا خلال السنتين الماضيتين، والذي فاق 200 مليار دولار، لما استطاعت أوكرانيا الصمود في وجه الغزو الروسي. قد ينجح بايدن بتقديم بعض المساعدات لأوكرانيا، ولكن سوف يكون من الصعب عليه إقرار خطته المقترحة في الكونغرس في أي وقت قريب، وربما لن ينجح في تقديم أي مساعدات هامة إذا فاز ترامب بترشيح حزبه لولاية ثانية، لأنه سيضغط ضد أي التزام أميركي حقيقي بدعم أوكرانيا.
وفي دراسة اجرتها مؤسسة الشؤون الدولية في المجموعة الأوروبية-الآسيوية (Group Eurasia) في أكتوبر/كانون الأول الماضي تبين أنه عند سؤال الجمهوريين والمستقلين ما هو الهدف الرئيسي الذي يجب أن تعتمده الولايات المتحدة في سياستها الخارجية؟ كان الجواب “حماية أميركا من الأخطار الخارجية ومنع الدول الأخرى من استغلال الولايات المتحدة”. الديموقراطيون قالوا إن الهدف الرئيسي يجب أن يكون “تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان وسلطة القانون في العالم” بصفتها قائدة العالم الحر.
الدراسة أظهرت أيضًا أن عددًا كبيرًا من الأميركيين يشاركون الجمهوريين في شكوكهم بالتحالفات الدولية، وقلقهم بشأن انحسار مخزون الأسلحة الأميركية (بسب تسليح أوكرانيا)، ورغبتهم بسحب القوات الأميركية المنتشرة في أوروبا. هذه المواقف تعزز ميول الانعزالية التي ميزت ولاية ترامب، والتي ستصبح بارزة أكثر في حال فوزه بالرئاسة في نوفمبر/كانون الثاني المقبل.
فور بداية الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في غزة، تحول هذا الصراع إلى قضية خلافية داخل الولايات المتحدة، حيث واجه الدعم غير المشروط تقريبًا الذي قدمه الرئيس بايدن لإسرائيل، وخاصة في الأسابيع الأولى للقتال، معارضة شعبية متنامية صاحبها أسئلة مشككة من مشرعين ديموقراطيين في الكونغرس، طالبوه بالضغط على إسرائيل لتحقيق وقف إطلاق نار فوري، وكذلك تعليق بعض شحنات الأسلحة.
هذا الدعم القوي لإسرائيل من بايدن أبرز إلى العلن الخلافات داخل الحزب الديموقراطي حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث يرى الديموقراطيون الشباب والتقدميين والديموقراطيين من أصل افريقي، إضافة إلى شريحة كبيرة من المسلمين والعرب-الأميركيين إسرائيل كدولة محتلة في الضفة الغربية، ساهم حصارها القاسي لغزة بالتسبب بالقتال الراهن. والرأي السائد داخل هذه الأوساط هو أن الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة غير قانوني ويجب أن يتوقف، كما ينتقد هؤلاء بشدة أداء إسرائيل العسكري، ويتهمونها بارتكاب جرائم حرب، بسبب الخسائر المدنية الهائلة في صفوف الفلسطينيين، وخاصة آلاف القتلى من الأطفال.
وجاء في استطلاع للرأي أجرته شبكة التلفزيون إن بي سي في نوفمبر/كانون الثاني الماضي أن 70 بالمئة من الأميركيين دون سن الخامسة والثلاثين لا يوافقون على معالجة الرئيس بايدن للحرب بين إسرائيل وحركة حماس. كما تبين استطلاعات أخرى أن أكثرية الناخبين الشباب لا يؤيدون إرسال المزيد من الأسلحة لإسرائيل. اتجاهات هذه الشرائح الاجتماعية المختلفة من الناخبين الأميركيين، يمكن أن تؤثر على النتائج النهائية للانتخابات في بعض الولايات المحورية، التي تتواجد فيها هذه الجماعات مثل ميتشغان وفيرجينيا وويسكونسن وبنسلفانيا، ما يمكن أن يهدد فرص الرئيس بايدن بالفوز بولاية ثانية، خاصة وأن المراقبين يتوقعون أن يحظى المرشح الفائز بأكثرية ضئيلة في المجمع الانتخابي.
الديموقراطيون الذين يعارضون سياسة بايدن تجاه الحرب في غزة يقولون إن الرئيس الأميركي قد وصل بدعمه لإسرائيل إلى نقطة اللارجوع، وبالتالي لن يكون باستطاعته فعل أي شيء لإصلاح الضرر الهائل الذي ألحقه بحاضر ومستقبل الفلسطينيين خلال الأشهر المقبلة لإقناعهم بالتصويت لصالحه.
من الصعب التنبؤ بما سيحدث خلال الأشهر المتبقية في هذا الموسم الانتخابي الطويل، وهناك الكثير من الصحة في القول السائد بأن أسبوع واحد في موسم الانتخابات الأميركية أحيانا يبدو طويلًا وكأنه أبدية. ولكن إذا نظرنا إلى المشهد الانتخابي الراهن، نجد أن الرئيس بايدن ليس في وضع جيد، وأن منافسه الذي يواجه روزنامة طويلة ومعقدة من تواريخ الدعاوي القضائية يبدو في وضع أفضل، وفقا لبعض استطلاعات الرأي، بغض النظر عن التحسن الملحوظ الذي طرأ على الاقتصاد الأميركي وانحسار معدلات البطالة والتضخم في السنة الماضية. المفارقة أن الرئيس بايدن، الذي يفاخر وأنصاره بأنه يتمتع بخبرة في مجال السياسة الخارجية أكثر من جميع الرؤساء الذين سبقوه إلى البيت الأبيض في العقود الأخيرة، يجد نفسه ينزف رصيدًا سياسياً هامًا في مجال السياسة الخارجية سواء في تعامله مع الغزو الروسي لأوكرانيا، أو في ضبط الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، وعلى الأخص خسارته لجزء هام من قاعدته الديموقراطية بسبب قصر نظره وضيق أفقه السياسي وتهوره عندما عانق بنيامين نتنياهو حين التقاه في إسرائيل، وعانق أيضا بإدراك أو بجهل أهداف نتنياهو الحربية.