تعرضت رحلة الرئيس جوزيف بايدن للشرق الأوسط مسبقًا لانتقادات شديدة من أوساط ووجهات نظر متعددة. وبعد أن اكتملت الآن، فإن معظم التعليقات في واشنطن – وفي الشرق الأوسط – قد اعتبرتها مخيبة للآمال في أحسن الأحوال، وطالبته بتوضيح قائمة إنجازاته. ومع ذلك، فإن هذا يعكس قراءة خاطئة ليس فقط للآمال التي كان الرئيس يأمل في تحقيقها، وإنما كذلك لما كان ممكنًا من الناحية الواقعية في ظل الظروف الحالية. ونظرًا لجدول الأعمال الإقليمي ومتعدد الجوانب الذي يسعى بايدن لتحقيقه، فإن النجاح النسبي والفشل النسبي سيبدوان متشابهين بشكل ملحوظ في هذه المرحلة لأنه مشروع حساس وليس بالضرورة أن يكون منظمًا.
في الشرق الأوسط، تحاول إدارة بايدن حشد مجموعة من الدول شديدة الانقسام والتفكك والمؤيدة للولايات المتحدة، والمعادية لإيران إلى حد كبير، في معسكر أكثر تنسيقًا وتعاونًا. يأمل بايدن في تحويل هذه الكتلة المشاكسة والمؤيدة تقليديًا لواشنطن إلى تحالف مهلهل، ولكن فعال يمكنه على الأقل توفير ضغوط إضافية ضد إيران فيما يتعلق بالمحادثات النووية المجمدة، ويكون في أحسن الأحوال حجر الأساس لنظام جديد يقوم بكبح طهران وردعها. وتأمل الإدارة الأمريكية كذلك في أن إنعاش دور القيادة الأمريكية مجددًا في الشرق الأوسط يمكن أن يساعد في إبطاء اتجاه العديد من أصدقاء واشنطن التقليديين نحو تعاون استراتيجي أكبر مع الصين.
العامل الثنائي في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة
زيارة بايدن لإسرائيل كانت أنجح محطة في رحلته، لكل من الضيف والمضيف. هناك أكد بايدن مجددًا التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل، حيث وقع على إعلان القدس المشترك للشراكة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل الذي لخص فيه البلدان تعاونهما الوثيق. كان دفء العلاقات الشخصية والسياسية باديًا بشكل فريد أثناء إقامة بايدن في إسرائيل. على ما يبدو أنه كان سعيدًا ومرتاحًا، في بيئة مألوفة، ومنغمسًا في أسلوبه السياسي المشجع والسلس الذي سيحدد حياته المهنية. كما يبدو أنه كان سعيدًا بلقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤقت يائير لبيد، زعيم حزب سياسي وسطي في إسرائيل، بدلاً من رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، الذي يتزعم حزبًا صغيرًا يمينيًا متشددًا. ولكنه بدا مرتاحًا بشكل خاص لعدم اضطراره لقضاء الكثير من الوقت مع رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، على الرغم من أنه خصه بزيارة شكلية نظرًا لأنه رئيس وزراء إسرائيل الأطول خدمة، وقد يجد نفسه مرة أخرى في هذا المنصب بعد الانتخابات المقررة مبدئيًا في نهاية العام.
لكن الجانب الأكثر أهمية في رحلة بايدن إلى إسرائيل كانت تلك الفقرة في الإعلان المشترك التي تمثل التهديد الأكثر وضوحًا من الإدارة باستخدام القوة العسكرية ضد تطلعات إيران النووية. حيث تم التشديد على أن واشنطن “مستعدة لاستخدام كل عناصر قوتها الوطنية لضمان” عدم امتلاك إيران للسلاح النووي. وعلى الرغم من إصرار بايدن في مؤتمر صحفي مشترك مع لبيد على أن “الدبلوماسية هي أفضل الطرق لتحقيق هذه النتيجة”، إلا أن الهدف من الوثيقة كان بلا شك أن يتردد صداها من إسرائيل، عبر الشرق الأوسط، إلى دول الخليج العربية ليصل إلى إيران نفسها. بصرف النظر عما إذا كان النظام الإيراني يأخذ هذا التهديد على محمل الجد، فإذا كان البيان يهدف إلى طمأنة دول الخليج العربية بشأن حزم الولايات المتحدة بشأن احتواء إيران والتصدي لها، فلا يبدو أنه قد حقق نجاحًا خاصًا بهذا الصدد.
وعلى النقيض من ذلك، جاءت المحطة التالية لبايدن، وهي الزيارة التي قام بها للرئيس الفلسطيني محمود عباس في بيت لحم، بمثابة الجزء الأقل فاعلية في رحلته. حيث تمنى للفلسطينيين أطيب الأمنيات بألطف الكلمات، وقدم 300 مليون دولار لمستشفيات القدس الشرقية، ولكنه لم يقدم شيئًا جوهريًا لتعزيز مصالحهم الوطنية. قال بايدن إنه يعتقد أن الدبلوماسية الإسرائيلية-الفلسطينية هي الطريقة الأفضل لتحقيق حل الدولتين الذي ما يزال يؤيده. لكنه أصر أيضًا على أن الوقت “ليس مناسبًا” لمثل هذه المحادثات. في الواقع، يبدو أن الكثير مما فعله بايدن وقاله في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة مصمم لتقديم الدعم للبيد والقوى الإسرائيلية الأخرى المناهضة لنتنياهو خلال الفترة التي تسبق الانتخابات القادمة.
يُكن بايدن ومعظم قادة الحزب الديمقراطي الكثير من البغض لنتنياهو على المستويين الشخصي والسياسي، ويعتبرونه جزءاً فعليًا من جناح الحزب الجمهوري بقيادة الرئيس السابق دونالد ترامب. لذلك فإن فكرة اضطرارهم للتعامل معه عن قرب مرة أخرى تثير القلق. وهذا ما يوفر لبايدن المزيد من المبررات لعدم الضغط على لبيد لتقديم الكثير للفلسطينيين – فهو على أية حال، لا يستطيع تقديم الكثير، لكونه رئيس وزراء مؤقتًا، ولتجنب دعم نتنياهو في حملته الانتخابية. وبدلاً من ذلك، كان المقصود هو دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤقت وإعطاء الفلسطينيين كلامًا وديًا دون تحقيق أي مطالب يكون من شأنها أن تخدم الحملة لإعادة انتخاب نتنياهو، وهذا يشكل نهجًا مفيدًا لآفاق لبيد وخيبة أمل كبيرة للفلسطينيين مع عدم تقديم أي مساحة دبلوماسية للمملكة العربية السعودية.
العلاقات الثنائية وراء قبضة اليد في جدة
تركز معظم الاهتمام حول الرحلة على العلاقات الأمريكية-السعودية، وخاصة التفاعل الشخصي بين بايدن وولي العهد الأمير محمد بن سلمان. بعد الكثير من التكهنات، كانت التحية بينهما بقبضة اليد تماشيًا مع الجائحة، وكانت بكل تفاصيلها متصلة بالمصافحة، وباجتماع سياسي ثنائي يُذكر أن وقته قد تجاوز كثيرًا الساعة ونصف الساعة التي كانت مخصصة له. ومقارنة مع التفاعلات في إسرائيل، لم يكن ثمة دفء شخصي خاص بين بايدن والقادة السعوديين. لكن تكمن الأهمية الحقيقية في أن كلا منهما كان قادرًا على تفادي الكثير من الأشياء التي ربما كانت ستؤول إلى مسار خاطئ. بعد كل ذلك، كان ثمة احتمالية خطيرة لسوء فهم مدمر، على غرار الاجتماع الكارثي الأول بين ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز والرئيس جورج دبليو بوش في أبريل/نيسان 2002. حيث استغرق الأمر بعد ذلك ثلاث سنوات لإصلاح الأمور، كل ذلك في ظل هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على الولايات المتحدة.
في هذه الحالة، كان مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بمثابة الإسفين الأساسي بين الزعيمين، لا سيما أن بايدن قد سمح بالإعلان عمّا خلصت إليه وكالة الاستخبارات المركزية بأنه من الأرجح أن محمد بن سلمان قد صادق على المهمة التي أدت إلى القتل. كانت عملية طي صفحة هذا الفصل المؤلم صعبة ومحرجة لكلا الجانبين، ولم يكن بمقدور بايدن أو محمد بن سلمان العثور بسهولة على سبب للإساءة. كانت قدرتهما على تجاوز هذه القطيعة العميقة بمثابة خطوة هامة للأمام في العلاقات الأمريكية-السعودية.
على الرغم من التوترات بشأن مقتل خاشقجي منذ تولي بايدن منصبه، فقد تعاونت السعودية مع الولايات المتحدة بدرجة كبيرة على العديد من الجبهات، بما في ذلك وقوفها مؤخرًا إلى جانب واشنطن ضد موسكو في الأمم المتحدة بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا، والموافقة على الحفاظ على الهدنة التي استمرت لأشهر في اليمن رغم استفزازات الحوثيين. لذلك، كان أكبر طلب ثنائي بارز خلال هذه الرحلة يتعلق بإنتاج النفط لاحتواء أسعار النفط التي ارتفعت بعد العدوان الروسي على أوكرانيا. ومع ذلك، انخفض سعر النفط بالفعل إلى ما دون 100 دولار للبرميل، وهي القيمة التي ترغب واشنطن تقليديًا في التعايش معها، وقامت السعودية بزيادة الإنتاج، ولو لدرجة متواضعة على الأقل، تمشيًا مع اتفاقية أوبك بلس بين الدول المنتجة للنفط من داخل منظمة أوبك وخارجها وروسيا في المقام الأول. وعدت الرياض بإعادة النظر في قضية إنتاج النفط في الاجتماع القادم لمنظمة أوبك بلس في أغسطس/آب، لذلك لن يتم اختبار تأثير بايدن الإضافي بشأن هذه المسألة حتى يحين ذلك الاجتماع.
كان “المكسب” الأكثر واقعية لإدارة بايدن مع الرياض خلال هذه الرحلة يتمثل في اتفاقية التعاون الثنائي بشأن شبكات اتصالات الجيل الخامس والسادس والتكنولوجيا، وهي محاولة واضحة لتجنب إعطاء الفرصة للشركات الصينية، مثل هاواوي (Huawei)، التي أدى انخراطها مع دولة الإمارات العربية المتحدة في تجديد شبكة الاتصالات الإماراتية إلى نشوب توتر كبير بين واشنطن وأبوظبي.
لعبة طويلة متعددة الأطراف
على الرغم من جهود بايدن الحذرة في وضع جدول أعمال طموح حقًا ومتعدد الأطراف، فإن مثل هذا التعاون في الشرق الأوسط يعد حديث العهد في أحسن الأحوال – بما فيه من مشاريع على غرار مشروع “قمة النقب” لإقامة علاقات أوثق بين الولايات المتحدة وإسرائيل ودولة الإمارات والبحرين والمغرب، ولا تزال مصر تكافح لتلحق بالركب – وفي معظم الأحيان يكون الأمر مجرد مراوغة. وكما تمت الإشارة قبل الزيارة، لن يتم الترحيب مجددًا بشكل فوري بالقيادة الأمريكية في الشرق الأوسط، ولن تتجدد الثقة في واشنطن على النحو الذي رسخه بايدن في أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. تكون هذا التآكل في الثقة في واشنطن، وتعمق إلى جانب الإيمان بعدم إمكانية الاعتماد عليها في المنطقة على مدار أكثر من عقد من الزمن حيث لا يمكن التراجع عنه بهذه السرعة. في الواقع، كان الرد المتحفظ في البداية على الأقل، من قبل أهم شركاء واشنطن الاستراتيجيين في الشرق الأوسط – إسرائيل والسعودية ودولة الإمارات – فيما يتعلق بالإدانة الدولية العلنية لروسيا بمثابة تعبير درامي عن الدرجة التي أصبح عندها التنوع الاستراتيجي وليس الحفاظ على علاقات وثيقة مع واشنطن أهم سمة من سمات استراتيجيات الأمن القومي طويلة المدى لدى هذه الدول.
لهذا السبب شدد بايدن على أن “الولايات المتحدة لن تذهب إلى أي مكان”، لا سيما في اجتماع قمة مجلس التعاون الخليجي زائد ثلاثة في 16 يوليو/تموز (أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية الست بالإضافة إلى مصر والأردن والعراق). وأصر على أن “الولايات المتحدة ستبقى شريكًا نشطًا وملتزمًا في الشرق الأوسط”. وتعهد. “لن نغادر المنطقة ونترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران”. هذا الشعور تم الترحيب به بحماس حذر، ويعزى ذلك جزئيًا إلى أن حتمية التنويع الاستراتيجي لا تزال راسخة بعمق، ولكن السبب الأساسي يكمن في أن شركاء واشنطن العرب قد سئموا وأصبحوا أكثر تشككًا. فهم لن يستجيبوا إلا للأفعال المتكررة أو المعززة بمرور الوقت، وليس للأقوال. لكن من الطبيعي أن يكون لدى واشنطن، ومن الوهلة الأولى، كل ما هو حتمي للإصرار على أن هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق إلا بعلاقة تبادلية، مع ملاحظة أن العديد من الأمريكيين يضمرون شكوكًا مشروعة خاصة بهم. لذلك، يبحث كلٌ من الجانبين عن أفعال ملموسة من الطرف الآخر يكون من شأنها أن تساعد في التغلب على حالة التشكك الجاثمة بقوة.
كان من الواضح دومًا أنه لا يمكن تحقيق تقدم كبير ومفاجئ نحو تحالف أكثر تكاملاً وموالاة للولايات المتحدة خلال هذه الزيارة. في الواقع، ربما من الأفضل أن يُنظر إلى قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية زائد ثلاثة على أنها بداية تحديد الأعضاء المحتملين أو المهام المختلفة لهذه التجمعات، والتي من الأفضل أن تتضمن دولاً تشكل نواة لتحالف أمني، ودول أخرى تلعب أدوارًا إضافية تخدم الطرفين. كان إدراج العراق، على سبيل المثال، يهدف إلى تعزيز رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وتشجيع إعادة دمج بغداد في الحظيرة العربية، وتقوية علاقات العراق مع مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومع شركائه التاريخيين، مصر والأردن. ليس من المتوقع أن ينضم العراق إلى تحالف حقيقي مناهض لإيران. كما أن قطر والكويت وعُمان – كل لأسباب خاصة به – لن تنضم إلى أي مشروع من هذا القبيل. وعلى نحو مماثل فإن مشاركة الأردن مشروطة بأن أي مشروع تنضم إليه يجب ألا يهدد قابلية حل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين. ومع ذلك، يمكن أن تشترك جميع هذه الدول في جوانب أخرى من التعاون المصممة لتقوية بعضها بعضًا ضمن قاعدة عريضة بقيادة واشنطن أو دعمها. فالنجاح سيفضي إلى نجاح آخر، حيث إن الأطراف الخارجية قد تكون أكثر ميلًا للانخراط إذا وجدت أن هناك فوائد ملموسة ومعقولة، مثل مشاريع البنية التحتية كربط شبكات الطاقة.
دمج الدفاعات الجوية والصاروخية باعتبارها المحور الأساسي
إن المشروع الأكثر طموحًا والذي تم الترويج له خلال زيارة بايدن من قبل كلٍ من الولايات المتحدة وإسرائيل في نقاشاتهم مع الحكومات العربية، هو إمكانية إقامة ما يصفه البيت الأبيض بـ “بنية دفاعية جوية وصاروخية مرتبطة بشبكة إقليمية أكثر اندماجًا، والتصدي لحصول جهات غير حكومية على منظومات جوية دون طيار وصواريخ الأمر الذي يهدد السلام والأمن في المنطقة”. إن تطوير مثل هذا النظام، أو مجموعة الأنظمة، ولو بشكل محدود، سيكون خطوة كبيرة إلى الأمام لإظهار ما يمكن أن تضيفه الولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده لتعزيز جوهر الأمن القومي للدول المشاركة. في الواقع، سيتكون النظام من شبكة إقليمية أو أكثر من الرادارات وأنظمة الاستشعار الأخرى لتوفير الإنذار المبكر – وربما حتى أنظمة الدفاع الجوي الفعالة للاعتراض والتعطيل – ضد القذائف والصواريخ والطائرات المسيرة التي تعتمد عليها إيران وشبكة الميليشيات التابعة لها لمهاجمة وتهديد هذه الدول.
تم الترويج لنظام الدفاع الصاروخي المتكامل من قبل واشنطن لدى دول مجلس التعاون الخليجي لأكثر من عقد من الزمان، دون إحراز الكثير من التقدم. تاريخيًا، كانت دول الخليج مترددة للغاية في مشاركة المعلومات دون قيود وحشد الموارد، وخاصة تجميع وتنظيم جوانب اتخاذ قرارات الأمن القومي الحيوية وتجاوز القيادات الوطنية المباشرة. تعمل إدارة بايدن لاستكشاف ما إذا كانت حسابات دول الخليج العربية قد تغيرت منذ تعرض السعودية والإمارات لهجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة من قبل إيران أو وكلائها. إن الهجمات على منشآت أرامكو السعودية في سبتمبر/أيلول 2019، التي كان لها تأثير كبير، وإن كان مختصرًا، على إنتاج النفط السعودي، عملت على إظهار قدرات إيران، لا سيما فيما يتعلق بالدقة والتوجيه والاستهداف بشكل فائق الدقة، لدرجة تنذر بالخطر. وفي يناير/كانون الثاني، لم تظهر سلسلة الهجمات الفتاكة بالصواريخ والطائرات المسيرة على أبوظبي من قبل الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن، فقط ضعف دولة الإمارات أمام مثل هذه الهجمات الجوية، وإنما أظهرت كذلك محدودية أنظمة دفاعها الصاروخي.
إن التحركات نحو إقامة نظام الدفاع الجوي والصاروخي الإقليمي المتكامل ليست أمرًا افتراضيًا. ففي أعقاب هجمات الحوثيين الأخيرة على أبوظبي، وعلى الرغم من رفض إسرائيل بيع نظام القبة الحديدية المضاد للصواريخ البالغ الفاعلية بشكله الكامل، إلا أن التقارير ذكرت أنها وضعت أنظمة رادار متقدمة للإنذار المبكر في الإمارات والبحرين – وهذه من المزايا الناجمة عن عملية التطبيع لاتفاقات إبراهام. ذُكر في يونيو/حزيران أن الولايات المتحدة عقدت اجتماعًا سريًا لكبار المسؤولين العسكريين من إسرائيل والسعودية وقطر والأردن ومصر ودولة الإمارات والبحرين – تحديدًا لنواة التحالف المحتمل والمرتقب في قمة مجلس التعاون الخليجي زائد ثلاثة – في مصر لمناقشة التنسيق المحتمل ضد التهديدات الإيرانية المتزايدة بالصواريخ والطائرات المسيرة. ويتم الآن تعزيز جهود واشنطن بشكل أكبر عن طريق تشريع من الحزبين، من المرجح أن تتم المصادقة عليه في الكونجرس، والذي يعطي توجيهاته للبنتاجون للمساعدة في تطوير نظام دفاع جوي وصاروخي إسرائيلي عربي متكامل.
لا تزال الطريق طويلة أمام تحقيق المزيد من شبكات الدفاع الجوي الإقليمية المتكاملة، وإن كانت فضفاضة وبدائية. قد تستمر الحساسيات التي من شأنها أن تجعل إقامة أي مشروع من هذا القبيل أمرًا مستحيلاً، على الأقل لدى بعض دول الخليج العربية، ولا يزال التردد المستمر واضحًا. ومن الجدير بالذكر أنه، في حين أن بيان الحقائق الصادر من البيت الأبيض المتعلق بالجزء السعودي من الزيارة سلط الضوء على قضية الدفاع الجوي الإقليمي هذه، إلا أن بيان جدة المتفق عليه بشكل مشترك لم يتطرق لهذه القضية، وركز بدلاً من ذلك على الأمن البحري وغيره من المبادرات. تقدم إدارة بايدن تعاونًا ثنائيًا ومتعدد الأطراف في مجموعة من القضايا – بما في ذلك البنية التحتية والأمن الغذائي واستكشاف الفضاء والأمن السيبراني والصحة العامة، وحتى الأمن البحري. ومع ذلك، فإن احتمال التعاون الفعال للتصدي لترسانة الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية قد يثبت في نهاية المطاف أنه من بين الفوائد الأكثر فاعلية المتوقعة من زيادة التنسيق الإقليمي تحت مظلة الولايات المتحدة. على المستوى الرسمي، تقول الولايات المتحدة إنها تتابع هذه المحادثات مع جميع شركائها “على المستوى الثنائي“. ويقول مسؤولون سعوديون إنه “لا علم لهم” عن أي محادثات متعددة الأطراف حول القضية التي تشمل إسرائيل. ويعد هذا الحذر نوعًا من الحكمة من جميع الجوانب بسبب دقة الأسئلة والثقل الواضح لهذا العبء.
الاحتلال وعقبات أخرى
إن العقبة الكبرى أمام تحقيق تحالف أكثر تنسيقًا بقيادة الولايات المتحدة تتمثل في كون أقوى شريكين لواشنطن – إسرائيل والسعودية – يفتقران للعلاقات الدبلوماسية فيما بينهما، ويبقيان مفترقين بشكل كبير على العديد من الأصعدة. وأدى غياب الضغط الأمريكي الفعال على إسرائيل فيما يتعلق بالفلسطينيين أو المبادرات الإيجابية التي تهم الفلسطينيين إلى تعقيدات كبيرة في مهمة بايدن المتمثلة في تقريب السعودية وإسرائيل من بعضهما بعضًا. في الواقع، في أعقاب رحلة بايدن، كان واضحًا أن المسؤولين السعوديين يبذلون قصارى جهدهم لتثبيط فكرة أنه من الممكن إحراز تقدم كبير مع الإسرائيليين دون إحراز تقدم كبير بشأن تخفيف الاحتلال وإنهائه، إذا لم يعترفوا بحل الدولتين كاملاً.
قد يكون هناك عنصر من المساومة والتظاهر بصعوبة المنال في هذا الموقف السعودي، لكنه يؤكد مجددًا بشكل فعال على موقف طال أمده، يقوم على مبادرة السلام العربية الخاصة بالرياض، ويعكس مخاوف لا يشاركها فيها جيرانها الأصغر الذين قاموا بتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. لدى السعودية سياسات داخلية متقلبة وأكثر تعقيدًا، فضلاً عن دورها القيادي على المستوى الإقليمي العربي، ودورها القيادي على المستوى الإسلامي العالمي، مع حساسيات خاصة بشأن مصير القدس، حيث يجب أن تتم موازنة كل هذه الأمور مع أي مكاسب يمكن أن تتحقق من التقارب الرئيسي تجاه إسرائيل. تجادل إدارة بايدن بأن إجراءات مثل التدخل الإسرائيلي في قيام مصر بنقل السيطرة على جزيرتين في البحر الأحمر إلى السعودية (لحماية امتيازات الملاحة الإسرائيلية المنصوص عليها في معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية)، ومنح الخطوط الجوية المدنية الإسرائيلية حقوق التحليق في المجال الجوي السعودي تعد “خطوات كبيرة” نحو الشراكة الأعمق، إن لم يكن التطبيع. إنها، في الواقع، خطوات صغيرة، وممكنة تحديدًا لأنها صغيرة جدًا لدرجة أنها لن تعكر صفو السياسة الداخلية السعودية، أو المشهد الدبلوماسي العربي، أو ميزان القوى الإسلامي العالمي.
لتجاوز هذه العقبة لا بد من موقف وسطيٍ معقد. ما الذي يمكن أن تقدمه إسرائيل للفلسطينيين، في ظل المشهد السياسي الحالي لديها مع تنامي المشاعر التوسعية بين اليهود الإسرائيليين؟ ما هو الحد الأدنى المقبول لدى السعوديين، غير إنهاء الاحتلال والاعتراف عمليًا بحل الدولتين؟ وكيف يمكن تحفيز الفلسطينيين ليقبلوا أن يكونوا جزءًا من هذا المشروع أو، على الأقل، العثور فيه على فوائد كافية كي لا يحاولوا إسقاطه بالفعل؟ مجرد طرح هذه الأسئلة يوضح صعوبة الإجابة عليها. ولكن كلاً من إسرائيل والسعودية والفلسطينيين يجدون بطرقهم الخاصة المختلفة للغاية الكثير من الأمور التي تدعو للقلق في الظرف الحالي. لذلك، ربما يكون هنالك صيغة لتوفير مكاسب كافية لكل طرف لتقوية التعاون السعودي-الإسرائيلي، وجعله مستساغًا وأكثر انفتاحًا على الصعيدين السياسي والدبلوماسي.
لتحقيق الأهداف الأمنية الأساسية، ربما لا تكون هناك حاجة لإنهاء الاحتلال أو إقامة علاقات دبلوماسية سعودية-إسرائيلية كاملة. فالخطوات الصغيرة التي اتخذتها السعودية – كاستضافة قطر لبعثة تجارية إسرائيلية في الدوحة في التسعينيات، والتي كانت بمثابة اعتراف دبلوماسي وليس تطبيعًا كاملاً – في مقابل تنازلات إسرائيلية تجاه الفلسطينيين دون إنهاء الاحتلال، يمكن أن تكون كافية للسماح بإجراء تعاون أمني إضافي جوهري بين البلدين. في الواقع، إن اعترافًا دبلوماسيًا أقل من ذلك يمكن أن يكون كافيًا لتنفيذ قسم كبير من تعاون أمني قوي. وهذا يعتمد على الحسابات الأمنية لإسرائيل والسعودية والفلسطينيين، بالإضافة للولايات المتحدة.
وهذه هي العقبة الأكبر. نظرًا للمجموعة الكبيرة من القوى التي اجتمعت في قمة جدة، والتي التقى بها بايدن خلال رحلته التي استغرقت أربعة أيام إلى المنطقة، فإن الصعوبات والتعقيدات تبدو بلا نهاية. ومع ذلك، يبدو أنه لا يمكن إضفاء الطابع الرسمي أو المؤسساتي على ما تفكر به الإدارة الأمريكية، وإنما هي ببساطة رغبة كبيرة في تجميع الموارد والمعلومات والقدرات بالتنسيق مع واشنطن عندما يكون ذلك ممكنًا وحيثما يكون مناسبًا. هل ستجد هذه البلدان الموالية تقليديًا للولايات المتحدة، والمتزايدة في تعاستها، قوة أكبر في وحدة جديدة أم في العمل بشكل مستقل؟ ونظرًا لأنهم يواجهون قوة إيرانية يبدو أنها تتجه نحو امتلاك الأسلحة النووية، وقد أتقنت تكنولوجيا الصواريخ والطائرات المسيرة وتكنولوجيا التوجيه، وتمتلك شبكة إقليمية محكمة ومتكاملة من الميليشيات الفرعية المتحالفة، فإن المزيد من التنسيق تحت مظلة أمنية بقيادة الولايات المتحدة سيكون له جاذبية منطقية واضحة، وإن لم تكن بالضرورة حاسمة.
علاوة على ذلك، ومع زيارة المسؤولين الروس لإيران مؤخرًا، ربما لشراء طائرات مسيرة وتوطيد علاقة موسكو الاستراتيجية مع إيران، فإن أصدقاء واشنطن الشرق أوسطيين يرون في ذلك تحالفًا دوليًا على الجانب الآخر، يتكون من روسيا وإيران وسوريا وحزب الله وحماس والحوثيين. ونظرًا لأن هذا المعسكر يزداد قوة على ما يبدو، فإن الدول العربية ذات التحالفات المتراخية، بما في ذلك السعودية ودولة الإمارات والبحرين ومصر والأردن، قد تربك المشككين وتتجه نحو تعاون أكبر مع بعضها بعضًا، وربما مع إسرائيل، ومع الولايات المتحدة قبل كل شيء. من الواضح أن رحلة بايدن للشرق الأوسط لم تأتِ بأي ديناميكية جديدة من هذا القبيل، ولا يمكنها أن تكون كذلك. لكنها زادت من هذه الاحتمالية، بطريقة جادة وجديدة، وكما هو الحال دائمًا، لا تظهر النتيجة إلا بالممارسة ومع مرور الوقت.