لم يواجه الرئيس جوزيف بايدن خلال حياته السياسية على مدى ستة عقود تحدياً سياسياً وشخصياً مثل التحدي المصيري الذي واجهه خلال الأسبوع الذي ربط بين نهاية شهر يونيو/حزيران الماضي والرابع من يوليو/تموز الجاري، وهو عيد الاستقلال الأميركي، حيث راقب في عزلته في المكتب البيضاوي بدايات تسونامي جامح يتعاظم بخطورته مع اقترابه من البيت الأبيض. وبعد مرور أسبوع على أداء بايدن الكارثي في مناظرته الأولى ضد منافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب، لا تزال مشاعر القلق والذعر التي سادت أوساط قيادات الحزب الديمقراطي ومموليه منذ الدقائق الاولى للمناظرة تهيمن على السجال السياسي في البلاد، في الوقت الذي يواصل فيه بايدن ومساعديه محاولاتهم صد وردع دعوات السياسيين والممولين الديموقراطيين المتنامية لبايدن بالانسحاب من السباق، وتقديم التبريرات والتفسيرات العديدة غير المقنعة لأسوأ أداء لرئيس في تاريخ المناظرات الرئاسية الأميركية. كبوة بايدن يمكن أن ترغمه على الانسحاب من السباق إلى البيت الأبيض، أو يمكن أن تؤدي إلى هزيمة شنيعة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ليس له شخصياً فقط، بل لمرشحي الحزب الديموقراطي لمجلسي الكونغرس ومناصب حكام بعض الولايات.
بعد عودته من مسرح نكسته المهينة في مدينة أتلانتا، إلى واشنطن، اعتكف بايدن في البيت الأبيض لبضعة أيام لم يقم خلالها إلا بنشاطات معدودة وقصيرة ومرتبة بعناية فائقة لا تسمح له بأي لحظة ارتجالية لحمايته من أي خطأ أو زلة لسان، تجاهل خلالها الاتصال بقيادات الحزب الديموقراطي في مجلسي الكونغرس، أو بالحكام الديموقراطيين لبعض الولايات المحورية، التي لا يستطيع البقاء في البيت الأبيض إلا إذا فاز فيها. وبدا الفارس بعد كبوته متعباً ومرتبكاً وغير مستعد، وربما غير قادر على العودة لامتطاء جواده ليثبت لمحبيه، قبل خصومه أنه لا يزال قادراً على ممارسة الفروسية، وأن كبوته ليست إلا استثناء يعرفه ويختبره كل فارس.
وإذا لم تكن كبوة بايدن في أتلانتا مُذلة بما فيه الكفاية، فإن الأكثرية المحافظة في المحكمة العليا ألحقت بالديموقراطيين، وبكل الأميركيين الذين يرفضون مفهوم الرئاسة الإمبريالية، نكسة تاريخية، حين قضت بأن الرئيس السابق دونالد ترامب يتمتع بالحصانة فيما يتعلق بنشاطاته الدستورية الرسمية خلال وجوده في السلطة. المحكمة كانت تنظر بلائحة التهم الجنائية الموجهة لترامب في واشنطن بشأن محاولته قلب نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020 التي خسرها. هذا القرار، له مضاعفات قانونية وسياسية بعيدة المدى تتخطى التهم الموجهة للرئيس السابق، وإن كانت تداعيات القرار الأولية هي أن ترامب لن يواجه هذه التهم خلال هذه السنة، وقد لا يواجهها أبداً في السنة المقبلة، حتى ولو لم ينجح في الانتخابات.
فور مرور الدقائق الأولى على تلعثم الرئيس بايدن وارتباكه خلال أجوبته المبهمة على الأسئلة الأولى التي طرحت عليه، بدأ قادة الحزب الديموقراطي ومموليه بتلقي وارسال مئات الرسائل الإلكترونية إلى بعضهم البعض، وإلى المحللين والصحفيين. هذه الرسائل عكست صدمتهم، وعززت من الشكوك والمخاوف الأصلية للعديد منهم، من أن العمر المتقدم للرئيس، والذي يقترب من الثانية والثمانين، سوف يؤثر سلباً ومع مرور كل يوم على يقظة ذهنه، ويظهر ضعفه الجسدي.
صحيح ان المناظرة كشفت أيضا أن مداخلات الرئيس السابق ترامب اتسمت أحيانا كثيرة بالإبهام والغموض والمبالغات، وتفادي الإجابة على الأسئلة وتكرار أجوبته المعلبة، إلا أنه بدا من حيث الشكل والأسلوب وكأنه واثقاً من نفسه أكثر من بايدن، وكان يدلي بمواقفه وأكاذيبه وأضاليله التي كانت حتى بمقاييس ترامب المتدنية سافرة للغاية، بطلاقة غطت على تردد وضياع بايدن. وباختصار، مارس ترامب الكذب والتضليل والخداع، ولكنه فعل ذلك بطلاقة وثقة وارتياح تام، بينما حاول بايدن، إلى حد كبير، سرد الحقائق، إلا أنه أدلى بذلك بتردد وتلعثم، وبدت أجوبته مفككة ومبعثرة. هذا مسرح اللامعقول الذي شاهده أكثر من 51 مليون نسمة، معظمهم لا يتابعون بالضرورة أو عن كثب السجالات والتطورات السياسية والانتخابية، ولهذه الأسباب كانت المناظرة الأولى فرصة تاريخية لكل مرشح لكي يقول للناخبين المحتملين لماذا يجب أن يصوتوا له في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. الرئيس بايدن، قطعاً لم ينجح في ذلك.
ومنذ تلك اللحظات الكالحة لبايدن والديموقراطيين، بدأ الحديث في هذه الأوساط عن ضرورة انسحاب الرئيس من السباق، والقول بأن ما يعاني منه بايدن لا يستطيع الوقاية منه أو شفائه، أي تقدمه في السنّ. في الأيام القليلة التي تلت المناظرة، ظلت الدعوات لبايدن بالانسحاب من السباق ضمن الاتصالات أو السجالات الداخلية، ولكن ذلك لم يمنع كبريات الصحف ومن أبرزها النيويورك تايمز، التي تؤيد عادة سياسات وطروحات الرئيس بايدن، من دعوته للانسحاب من السباق حيث يجد نفسه الآن وسط “مقامرة متهورة” على حد وصف افتتاحية الصحيفة. وتبعت نيويورك تايمز صحف ليبرالية متعاطفة تقليدياً مع بايدن مثل أتلانتا جورنال كونستيتوشن وبوسطن غلوب. كما دعا عدد من كبار المعلقين الليبراليين المتعاطفين مع بايدن – من بينهم معظم المعلقين في نيويورك تايمز- الرئيس بايدن للانسحاب من السباق.
ومع بداية الأسبوع، بدأت الشروخ تبرز وتتوسع في السدّ الديموقراطي، وبدأت معها المياه بالانسياب عبر هذه الشروخات، وبدأت الصحف، ومنها النيويورك تايمز والمواقع الإلكترونية بنشر المقالات التي أبرزت الأمثلة الكثيرة عن كبوات وهفوات الرئيس بايدن الذهنية، سواء كانت في البيت الابيض أو خلال نشاطاته الانتخابية وغيرها من الأنشطة الداخلية، أو خلال رحلاته الخارجية، وآخرها رحلتيه إلى فرنسا وايطاليا، وكيف أن بعض المسؤولين في الدول الحليفة أعربوا عن دهشتهم وصدمتهم لتدني الحالة الجسدية والذهنية لبايدن. هذه التقارير الصحفية تطرقت بالتفصيل الذي تضمن الكثير من النقد لمحاولات عائلة الرئيس، وخاصة السيدة الأولى جيل بايدن، وكبار مساعدي الرئيس للتغطية على هذه الكبوات والهفوات، ومنع بايدن عن القيام بنشاطات علنية و”حمايته” من الصحفيين والإذاعيين، الأمر الذي جعل بايدن الرئيس الذي أجرى أقل عدد من المقابلات الصحفية أو نظم المؤتمرات الصحفية المفتوحة منذ ولاية الرئيس الراحل رونالد ريغان في ثمانينات القرن الماضي.
ويوم الثلاثاء أصبح النائب الديموقراطي التقدمي، الذي يمثل مدينة أوستن ومحيطها في ولاية تكساس، لويد دوغيت (Lloyd Doggett) أول مشرع يدعو بايدن علناً للانسحاب قائلا “الرئيس بايدن أنقذ ديموقراطيتنا من ترامب في 2020، ويجب ألا يسلمنا إلى ترامب في 2024”. وتبعه النائب الديموقراطي راؤول غريهالفا (Raúl Grijalva)، من ولاية أريزونا، مشيراً إلى أسباب مماثلة. وتوالت النداءات؛ النائب جاريد غولدن (Jared Golden) من ولاية ماين، والنائبة ماري بيريز (Marie Perez) من ولاية واشنطن، اللذين يواجهان خصمين جمهوريين قويين، توقعا علناً فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية. بينما طالب السناتور الديموقراطي شيلدون وايتهاوس (Sheldon Whitehouse) من ولاية رود أيلاند “بضمانات” من البيت الأبيض حول الوضع الصحي للرئيس بايدن. وبرزت دعوات مماثلة للرئيس بايدن من قبل بعض كبار ممولي الحزب الديموقراطي.
وسارع الرئيس بايدن وكبار مساعديه إلى رفض هذه الدعوات، والتأكيد بالمطلق بأنه لن ينسحب من السباق، وأنه باق في المعركة حتى الفوز بالانتخابات، وفي الوقت نفسه تقديم التفسيرات والتبريرات لأدائه السيء في المناظرة، مثل التذرع بأنه كان يعاني من الرشح، أو التعب جراء القيام برحلتين إلى أوروبا خلال أسبوعين، الأمر الذي دفع ببايدن للقول أنه شعر بإرهاق كبير خلال المناظرة لدرجة “أنني كدت أنام على المنصة”. هذه التبريرات برأي العديد من المراقبين عمقت الهوة التي يجد الرئيس بايدن نفسه فيها.
بعض حلفاء الرئيس بايدن الذين لم يدعوه للانسحاب، بدأوا على الأقل ينظرون أو يفكرون ببديل له. النائب الأميركي من أصل افريقي النافذ جيمس كلايبرن (James Clyburn)، الذي ساهم بوضع بايدن على طريق البيت الأبيض في 2020، قال أنه إذا انسحب بايدن من السباق فإنه مستعد للتصويت لصالح نائبته كامالا هاريس. من جهتها قالت رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي أنه أمر شرعي أن يطرح سؤال مثل “هل كانت هذه هفوة، أم أنها تعكس حالة دائمة”.
ومنذ انتهاء المناظرة والجميع ينتظر استطلاعات الرأي. وأظهرت استطلاعات الرأي الخاصة التي أجرتها مؤسسات موالية للرئيس بايدن أن شعبيته انحسرت نقطتين في الولايات المتأرجحة الهامة، ومن بينها نيو ميكسيكو ونيو هامبشير وفيرجينيا، وهي ولايات بدت قبل سنة مضمونة لبايدن. وجاء في استطلاع للرأي أجرته صحيفة نيويورك تايمز أن ترامب متقدم على بايدن بستة نقاط في أوساط الناخبين الذين من المحتمل أن يصوتوا في الانتخابات. ورأى 74 بالمئة من الناخبين أن بايدن “متقدم جداً في السنّ” لكي يقوم بمهام الرئاسة. ومن المتوقع أن تكون نتائج الاستطلاعات الأخرى المتوقعة، مماثلة بنتائجها.
ولكن إذا انسحب الرئيس بايدن من السباق من سيحل محله؟ طبعا نائبته هاريس هي البديل المرجح، ولكنها ليست البديل الحتمي بالضرورة، لأنها قد تواجه في المؤتمر العام للحزب في منتصف شهر أغسطس المقبل من يمكن أن يتحداها، وفي هذه الحالة سوف يصوت على مرشح الحزب أكثر من 4 آلاف مندوب تم اختيارهم خلال الانتخابات الحزبية التي فاز فيها الثنائي بايدن وهاريس. وتبين استطلاعات الرأي أن ترامب متقدم، ولكن ببضعة نقاط على أي مرشح ديموقراطي افتراضي لبايدن، وإن كان ترامب متقدم بنسبة بسيطة جداً على كامالا هاريس في مثل هذه المواجهات الافتراضية. نائبة الرئيس هاريس انسحبت من السباق الرئاسي في 2020 مبكراً، وبعد أن قادت حملة انتخابية اتسمت بالفوضى والضعف. ولكن إذا أصبحت هاريس البديل الديموقراطي الجديد، إذا افترضنا انسحاب بايدن، وهذا أمر لا يزال يبدو صعباً، فإنها تستطيع مواصلة حملة بايدن والاحتفاظ بالتبرعات المالية التي جمعتها الحملة حتى الآن. ترشيح بديل لبايدن، غير هاريس سوف يكون صعباً لأسباب سياسية ومالية، ولكن اختيار شخصية جديدة ليس مستحيلاً. ويرى البعض أن اختيار مرشح ديموقراطي شاب، أو مرشحة شابة قد يعيد خلط الأوراق، وربما يضع ترامب في وضع دفاعي.
يبقى أن عملية اختيار بديل للرئيس بايدن ليقود الحزب الديموقراطي ومرشحيه للكونغرس ولمنصب حكام بعض الولايات، حتى ولو كان البديل كامالا هاريس، سوف تكون محفوفة بالمخاطر والانقسامات، خاصة وأنه لا توجد هناك شخصية ديموقراطية قوية يمكن أن تلتف حولها قيادات ومختلف الفئات الاجتماعية والاثنية والايديولوجية، والمتناحرة في بعض الأحيان، التي تنشط تحت الخيمة الواسعة الحزب الديموقراطي.