بعد دخول “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين” حيز التنفيذ في 17 الشهر الجاري، وبعد فرض عقوبات مباشرة ضد 39 شخصية سياسية واقتصادية سورية، بمن فيهم الرئيس بشار الأسد وزوجته أسماء، اللذان وصفتهما وزارة الخارجية الأميركية بـ “مهندسي معاناة الشعب السوري”، وصلت العقوبات الأميركية ضد سوريا إلى ذروتها بسبب شمولية قانون قيصر، الذي تهدد واشنطن باستخدامه ضد الحكومات والكيانات والشركات والأفراد، الذين يقدمون الدعم المباشر أو غير المباشر لأنشطة النظام السوري، أو يساهمون في عملياته العسكرية. وهذا يشمل الميليشيات المدعومة من إيران مثل حزب الله اللبناني، وتنظيم “الفاطميون” الذي اسسته إيران، ومرتزقة تنظيم “فاغنر” الروسي.
وتستهدف العقوبات قطاعات الطاقة (النفط والغاز الطبيعي)، وقطع غيار الطائرات، والبناء والهندسة. هذا يعني فرض العقوبات ضد أي جهة، بما فيها الحكومات الصديقة لواشنطن في أوروبا أو منطقة الخليج، يمكن أن تساهم بأي شكل في عملية إعادة إعمار سوريا أو تطوير العلاقات الاقتصادية معها، إلا إذا امتثل النظام لمجموعة شروط سياسية، تفرض عليه تغيير سلوكه بشكل جذري، وهو أمر كان ولا يزال النظام السوري يرفضه. وتشمل هذه الشروط وقف الغارات الجوية السورية (والروسية) ضد المدنيين، إلغاء القيود المفروضة على توزيع المساعدات الإنسانية في المناطق الخاضعة للنظام، والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، والامتثال إلى المعاهدات الدولية المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل، وتسهيل عود اللاجئين والمقتلعين، والبدء بعملية مسائلة حقيقة ومصالحة وطنية تنسجم مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.
أكد أكثر من مسؤول أميركي في الأيام الأخيرة أن العقوبات الجديدة، لن تكون الأخيرة، وأن النظام لا يزال معرضاً “للوائح جديدة من العقوبات”. ومع أن قانون قيصر لا يطالب بتغيير النظام في دمشق، كما يواصل المسؤولون الأميركيون القول إنهم لا يسعون للإطاحة بالرئيس الأسد، إلا أنه من الواضح أن الرئيس الأسد لا يستطيع تطبيق هذه الشروط، والبقاء في السلطة في الوقت ذاته، ما يعني ان هذه الشروط القاسية تفترض وصول نظام مختلف إلى السلطة قبل رفع العقوبات.
أطلق على القانون اسم “قيصر” نسبة إلى مصور عسكري سابق في الشرطة العسكرية السورية، لا يعرف العالم هويته الحقيقية، وكان قد هرب من سوريا قبل خمسة سنوات، ومعه عشرات الألاف من صور لجثث تم تشويهها أثناء التعذيب في مراكز الاعتقال السورية بعد اندلاع الانتفاضة. ومثل قيصر أمام لجان الكونجرس الأميركي خلال شهادات استماع غير معهودة، ولكن دون الكشف عن وجهه.
للعقوبات الأميركية ضد سوريا تاريخ طويل يعود إلى سنة 1979، حين صنفت واشنطن سوريا دولة راعية للارهاب. وفرضت عقوبات إضافية في 2004 تطبيقاً “لقانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية”، الذي أقره مجلسي الكونجرس في 2003. وبعد بدء الانتفاضة في مارس/آذار 2011، فرضت الولايات المتحدة عقوبات إضافية، من خلال قرارات تنفيذية، وقعها الرئيس السابق باراك أوباما، وتركزت على تجميد ودائع المسؤولين السوريين المتورطين بقمع الشعب السوري، ومنع الاستثمارات الأميركية في سوريا. كما فرضت دول الاتحاد الأوروبي عقوبات قاسية ضد سوريا.
ولكن عقوبات قانون قيصر تمثل نقلة نوعية في الحرب الاقتصادية التي تشنها الولايات المتحدة ضد النظام السوري، بسبب شموليتها وتهديدها بمعاقبة أي طرف خارجي يساهم في تعزيز النظام، وأيضا بسبب غموضها. المسؤولون الأميركيون يقولون إن غموض بعض بنود قانون قيصر مقصود، ويهدف إلى خلق القلق والخوف لدى أي طرف يعتزم الدخول في علاقة تجارية أو استثمارية، خاصة في القطاعات المستهدفة بالعقوبات، حتى ولو لم تكن هناك اشارة واضحة في القانون تقول إن نوع النشاط الذي يعتزم القيام به سوف يعرضه لسيف العقوبات.
شمولية قانون قيصر، تذّكر بشمولية العقوبات التي أعاد الرئيس ترامب فرضها على إيران في 2018، والتي أرغمت الشركات الأوروبية، وتلك التابعة لدول حليفة لواشنطن، على الانسحاب من إيران، لكيلا تطالها العقوبات الأميركية. وقال لنا مسؤول أميركي بارز إن هذا النوع الشامل من العقوبات هو “شكل جديد من الحروب غير العسكرية”، الذي تعتمده الآن الولايات المتحدة في مواجهاتها مع دول مختلفة، من بينها إيران وسوريا لتفادي الدخول في مواجهات عسكرية، كما حدث في حرب العراق المكلفة. إذن، شمولية العقوبات في قانون قيصر تجعله قيصر قوانين العقوبات.
هذه العقوبات الشاملة يعتبرها المسؤولون الاميركيون في ايجازاتهم وأحاديثهم الخلفية “أداة حادة، سوف تضر أيضا بالسكان المدنيين، إضافة إلى النظام السوري وأقطابه”. ولكن خلال ايجازاتهم وتصريحاتهم العلنية في الأيام الماضية، رفض المسؤولون الأميركيون مقولة أن العقوبات سوف تضر بالمدنيين. وقال المبعوث الخاص لسوريا السفير جيمس جيفري أن قانون قيصر كما يوحي أسمه يتضمن بنودا قوية لضمان “تدفق المساعدات الانسانية للسوريين”، بما في ذلك المناطق الخاضعة للنظام.
معارضو قانون قيصر يقولون إنه سيضر بالمدنيين، كما سيؤثر سلباً على نشاط المنظمات غير الحكومية، التي تريد مساعدة المدنيين من ضحايا الحرب في اقتصاد أصبح في حالة انهيار في الأشهر والأسابيع الماضية، مع انهيار الليرة السورية، بسبب سياسات النظام الافتراسية، وفساد أقطابه الذين يحتكرون الأنشطة الاقتصادية، والذين لم تؤثر عليهم كثيراً العقوبات السابقة. وإنهيار الليرة السورية، مرتبط أيضا بانهيار الليرة اللبنانية، وبسبب التأثير السلبي المفروض على سحب الودائع من المصارف اللبنانية، بما فيها ودائع السوريين.
وفي حال تطبيق قانون قيصر بشكل فعال، يمكن أن نتوقع أن تزيد العقوبات من سرعة انهيار الاقتصاد السوري. خلال شهري مايو /أيار ويونيو/حزيران فقدت الليرة السورية خمسين بالمئة من قيمتها. وهناك استياء شعبي متنامي بسبب الارتفاع الكبير في أسعار المواد الأولية حتى في المناطق العلوية، التي تعاني مثل، أو حتى، أكثر من المناطق الأخرى. “كما بدأنا نرى التظاهرات في المناطق الدرزية في جنوب غرب البلاد، التي أصبحت قلب المعارضة، بما فيها المعارضة المسلحة للنظام…” كما قال السفير جيمس جيفري في لقاء مع المراسلين.
المأزق الاقتصادي لنظام الاسد دفعه للضغط بشكل سافر على طبقة الأوليغارشيين السوريين، لإرغامهم على توفير الأرصدة المالية للنظام، الأمر الذي أدى إلى بروز شروخ داخل الطبقة الحاكمة، بعد قيام أحد أعمدة هذه الأوليغارشية، رامي مخلوف، وهو قريب للرئيس الاسد من الشكوى العلنية ضد النظام في عدد من اشرطة الفيديو التي سجلها. وكشف السفير جيفري أن أسماء، زوجة الرئيس الأسد، كانت متورطة في الصراع مع رامي مخلوف، بسبب تضارب مصالحهما الاقتصادية، واعتبر ان الصراع هو بين عضويين في الأوليغارشية السورية.
حتى قبل دخول قانون قيصر حيز التنفيذ ادعت الحكومة السورية أن تفاقم أزمتها الاقتصادية هو بسبب القانون. ونفى السفير جيفري هذه التهم، وأشار إلى الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان كسبب أساسي للأزمة السورية “لأن لبنان هو الرئة المالية لأوليغارشية الأسد المجرمة”. ومن المتوقع أن تطال العقوبات أي شركات لبنانية تصدر النفط إلى سوريا، أو تصدر أي معدات أو مواد تساهم في إعادة الاعمار، أو تساهم بشكل غير مباشر في الحملات العسكرية للنظام.
تنفيذ قانون قيصر سوف يكون سبباً رئيسياً في منع أي حكومة أو شركة تسعى للعودة إلى السوق السوري، أو التفكير جديا بالمشاركة في إعادة أعمار سوريا، بما في ذلك رجال الأعمال السوريين في الخارج. وسوف يكون لذلك أثر سلبي كبير على الشركات اللبنانية التي تنشط في سوريا، أو تعتزم العودة إلى سوريا للاستفادة من إعادة إعمار البلاد، وهذا يسري أيضا على شركات ومؤسسات إماراتية، وخاصة بعد استئناف العلاقات الدبلوماسية بين سوريا ودولة الإمارات العربية المتحدة، وبعد زيارة وفود اقتصادية إماراتية لسوريا. وقال السفير جيفري أن دولة الإمارات “تدرك أننا نعارض بالمطلق أي خطوات دبلوماسية تتخذها الدول” تجاه النظام السوري. وكرر القول إن أي طرف في الإمارات أو في دول أخرى يسعى للمشاركة في أنشطة اقتصادية في سوريا سوف يتعرض للعقوبات.
تتزامن عقوبات قانون قيصر مع أسوأ أزمة اقتصادية يواجهها النظام السوري منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في 2011. اللافت أن هذه التطورات جاءت في أعقاب ما وصفه العديد من المحللين “بانتصار” نظام الاسد ضد معارضيه المسلحين، واستعادة السيطرة على معظم مناطق البلاد، باستثناء مقاطعة إدلب وشمال شرق سوريا. ويمكن للأزمة الاقتصادية أن تخنق النظام، وأن تحقق ما عجزت عنه المعارضة المسلحة لحوالي عقد من الزمن.
ليس من الواضح في هذا الوقت المبكر، ما إذا كان المسؤولون الأميركيون قادرين أو راغبين بالفعل في خلق الآليات الدولية لتطبيق قانون قيصر، بما في ذلك جهود المتابعة السياسية والدبلوماسية، كما ليس من الواضح ما إذا كانت العقوبات الجديدة ستقنع روسيا بجلب الأسد إلى طاولة المفاوضات. ولكن إذا تم تطبيق العقوبات الجديدة بجدية وفعالية، وإذا نفذ المسؤولون الأميركيون تهديدهم بأن هذه العقوبات هي “بداية حملة اقتصادية وسياسية مستمرة، للضغط على نظام الأسد، لحرمانه من الموارد لشن الحرب ضد الشعب السوري، وارتكاب المجازر العامة، وأن هذا القانون يهدف إلى إرسال مؤشر للأطراف الخارجية بعدم التعاون مع مثل هذا النظام” كما قال مسؤول اميركي للصحفيين قبل يومين، فإن ذلك سيعني أن نظام الأسد يحدق الآن في وجه أخطر تحد له منذ اندلاع الانتفاضة السورية.