لم يكن الاتحاد الأوروبي أبدًا من بين الفاعلين الأساسيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لم يتمكن الاتحاد الأوروبي بعد من تحويل ثقله الاقتصادي إلى تحقيق النفوذ والتأثير بسبب ما لديه من مثالب إستراتيجية، وأوجه قصور مؤسساتية، والتوتر بين السياسة الخارجية والأمنية المشتركة وبين السياسة الخارجية المنفردة للدول الأعضاء كل على حدة. ينطبق هذا بشكل خاص على منطقة الخليج، وهي منطقة ليس لدى الاتحاد الأوروبي أي رؤية استراتيجية تجاهها، ويعمل بمثابة المستفيد بلا مقابل في معظم الأحيان، حيث تعطي دول الخليج الأولوية للعلاقات مع الولايات المتحدة، ومع بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وحتى مع روسيا والصين.
ومع ذلك، فقد يأتي الزخم الجديد من حيث لا تتوقع – التحول الأخضر، وهو سلسلة من الإجراءات نحو الوصول إلى بنية اقتصادية مستدامة ومحايدة مناخيًا بشكل أكبر. وفي حين أن التحول الأخضر ليس ضمن مجال الجغرافيا السياسية، إلا أن تنفيذ بعض سياساته سيكون له بالتأكيد آثار كبيرة على العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية. ربما يكون أحد هذه التأثيرات هو تطوير استراتيجية سياسة أوروبية خارجية، أكثر تماسكًا، تجاه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإدراك الأهمية المتزايدة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية. إذا تمت تلبية شروط معينة، فإن التحول الأخضر قد يفضي إلى تنشيط الوجود الأوروبي في المنطقة، وتوفير إطار العمل الاستراتيجي الوحيد الذي يعتبر الاتحاد الأوروبي في أمس الحاجة إليه.
الارتباك الاستراتيجي
في حين يرغب الاتحاد الأوروبي أن يرى نفسه كقوة اقتصادية ومعيارية عظمى، إلا أن أفضل ما يميّز سلوكه العملي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو الارتباك الاستراتيجي على عدة مستويات. أولاً، هنالك توتر هائل بين مصلحة الاتحاد الأوروبي في تقديم نفسه على أنه “قوة من أجل الخير“، والإجراءات العملية التي يتخذها الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في المنطقة. وهذا ليس مجرد اختلاف بين الخطاب والممارسة قابل للاستيعاب، وإنما هو عدم القدرة على التوفيق بين وجهات النظر المتعددة. في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي من جهة والشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الجهة الأخرى، يتجلى هذا الارتباك في التناقضات بين “أجندة الإصلاح طويلة المدى” للاتحاد الأوروبي والسعي لتحقيق مصالح أمنية واقتصادية قصيرة المدى.
ثانيًا، لا يتم إدراج برامج الاتحاد الأوروبي المختلفة التي تشمل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضمن إطار عمل متماسك من حيث الأهداف والأدوات والشراكات. كما أوضح ريتشارد يونجز (Richard Youngs)، هناك ما لا يقل عن خمسة هياكل معرفية يفكر فيها الاتحاد الأوروبي (والدول الأعضاء) بخصوص المنطقة الجنوبية المجاورة. وفي حين أن بعض العناصر قد تكون أمور تكميلية، من الناحية العملية، إلا أن الاختلافات أكثر وضوحًا، الأمر الذي من شأنه ألا يقتصر على تقويض التماسك الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي فحسب، بل يقوض مصداقيته أيضًا.
ثالثًا، من الناحية الاستراتيجية، لا ينظر الاتحاد الأوروبي إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كمنطقة واحدة. يحدد الاتحاد الأوروبي دوره في العلاقات الدولية على مستويين – جواره المباشر، والذي يتكون من البحر الأبيض المتوسط إلى الجنوب، وعلى المستوى العالمي.
لعل علاقات الاتحاد الأوروبي بالخليج هي إحدى الضحايا الرئيسية لهذا النهج. نظرًا لأن المنطقة تقع خارج الجوار المباشر للاتحاد الأوروبي، فإنها تبقى بقعة عمياء. يمكن ملاحظة أهمية دول الخليج، بشكل كبير، إذا تدخلت في منطقة البحر الأبيض المتوسط (كما هو الحال في ليبيا)، أو إذا أصبحت أهدافًا أو موضوعات للسياسة العالمية. هذا هو أحد الأسباب التي تجعل وثائق مهمة مثل الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي تبالغ في التأكيد على قضايا منع الانتشار النووي، وتتجاهل الكثير من التطورات الرئيسية التي تجري في الخليج.
في حين أن المصالح الاقتصادية ومصالح الطاقة تربط الاتحاد الأوروبي بمجلس التعاون لدول الخليج العربية، إلا أن هذا لا يكفي كأساس لتعاونٍ عميق بين الإقليمين. من ناحية أخرى، تقوم الدول الأعضاء بتأطير إقامة العلاقات مع دول الخليج كنوع من المنافسة، ما يحرم الاتحاد الأوروبي من القدرة على التصرف كجهة فاعلة موحدة. تعمل المصالح الوطنية والتجارية على تقويض المشاريع المشتركة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، مثل التوصل إلى اتفاقية التجارة الحرة، وهذا وعد لم يتحقق لعقود. ومن ناحية أخرى، يتم التعامل مع المسائل المتعلقة بسوق الطاقة على مستوى آخر، من خلال حوار الطاقة المؤسساتي مع منظمة أوبك.
فرصة الواقعية الخضراء
من المؤكد أن التحول الأخضر سيؤثر على الاستراتيجية المرتبكة للاتحاد الأوروبي، رغم أن الكيفية لم تتضح بعد بشكل دقيق. يلعب الاتحاد الأوروبي دورًا مزدوجًا في التحول الأخضر؛ بصفته هيئة تنظيمية، فهو يساعد الدول الأعضاء على الوصول إلى الحياد المناخي الذي تعهدت به (من خلال الصفقة الأوروبية الخضراء، على سبيل المثال)، وتعزيز التعاون الأخضر متعدد الأطراف في السياسة العالمية، ويوفر حوافز للشركاء الخارجيين ليقدموا خطط العمل الوطنية الخاصة بهم. وفي حين أن الدور الأخير هو مبادرة سياسة خارجية مباشرة، فإن الأول له أيضًا تداعيات جيوسياسية، بالدرجة الأولى، من خلال التغييرات في الهيكل الخارجي لتجارة الاتحاد الأوروبي عن طريق تقليل الدور المهيمن للموارد غير المتجددة.
إن وضع التحول الأخضر على جدول أعمال السياسة الخارجية من الممكن أن يؤدي إلى اتجاهين. فمن ناحية، من الممكن أن لا يعني ذلك سوى إدخال طبقة إضافية تساهم في التنافر بين الأولويات والمصالح. بمطالبة الشركاء بتبني برامج وطنية خضراء، سيضيف الاتحاد الأوروبي بندًا آخر على القائمة الطويلة من التوقعات القيمية، والتي سيبقى تحقيقها بشكل كامل في الشرق الأوسط أمرًا بعيدًا عن الواقعية. من خلال فرض الأجندة الخضراء على الآخرين، من الممكن أن ينتهي الأمر بالاتحاد الأوروبي فقط إلى تحفيز ممارسة الغسل الأخضر (إعادة وسم السياسات الحالية على أنها صديقة للبيئة). سيعني هذا السيناريو بالتأكيد استمرار التقليد الأوروبي في انتقاد دول الخليج دون أي تأثير ذي مغزى (عدا عن تقويض الثقة المتبادلة).
من ناحية أخرى، قد يكون للتحول الأخضر تأثير إيجابي على التفكير الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي. إذا تم منح هذا الملف الأولوية على المصالح السياسية والاقتصادية الأخرى قصيرة المدى، فلربما يساعد هذا في تخليص الاتحاد الأوروبي من المعضلات الاستراتيجية الحالية التي تعيق تقدمه. من الممكن تحديد أولويات أكثر وضوحًا للتعاون، وذلك من خلال إدراك أن الاتحاد الأوروبي قد يكون أكثر تأثيرًا ونجاحًا في تعزيز التحول الأخضر من المعايير الديمقراطية. يجب اعتبار التحول الأخضر سياسة بدافع المصالح وليس شرطًا معياريًا، وبالتالي تتم مواءمة التحول الأخضر وأمن المناخ مع السياسة الواقعية. كما يمكن لطريقة التفكير هذه أن تساعد في إيجاد التماسك، وتحسين صورة الاتحاد الأوروبي كشريك له أولويات واضحة.
وضع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون لدول الخليج العربية في إطار جديد
لن يقتصر نهج “الواقعية الخضراء” هذا على تمهيد الطريق لبنيةٍ موحدةٍ للتعامل مع المنطقة فحسب، بل إنه قد يعطي زخمًا للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، ويعزز تجارة الطاقة. قد يبدو أن تقليص واردات النفط الأوروبية من شأنه أن يضر بمصالح دول الخليج المصدرة للنفط، لكن من الناحية العملية، فإن ذلك لن يتسبب في الكثير من التشويش لأن دول الخليج لا تعتمد على تصدير الوقود الأحفوري إلى الاتحاد الأوروبي. قد يكون الضرر أكبر بكثير في حالات أخرى، مثل ليبيا أو الجزائر، اللتين تعتمدان، بشكل أكبر، على تصدير النفط إلى الاتحاد الأوروبي. على المدى المتوسط، قد تكون بعض دول الخليج قادرة على التفوق على المنافسين من خلال الأنظمة المتطورة مع الانخفاض المتواصل في تكاليف إنتاج نفط الخليج وانبعاثاته من الكربون، التي تقل بالفعل عن العديد من البلدان الأخرى. علاوة على ذلك، يبدو أن الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي سيرتفع، مؤقتًا، على الأقل خلال فترة التحول، الأمر الذي قد يساعد منتجي الغاز في الخليج.
كما أن هنالك بعض الفرص الاقتصادية المرتبطة بالتحول الأخضر. تتمتع دول الخليج بموقع جغرافي ملائم في تعرضه للإشعاع الشمسي، وهي تخطط للاستثمار بكثافة في الطاقة الشمسية. إن إمكانية التصدير إلى الاتحاد الأوروبي قد تزيد من ربحية مثل هذه الاستثمارات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يستثمر في الخليج في تطوير قطاعات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وقطاع الهيدروجين والربط الإقليمي للشبكات الكهربائية. يمكن القيام بهذا التعاون بمساعدة مختلف الأطر القائمة، على سبيل المثال، شبكة تكنولوجيا الطاقة النظيفة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون لدول الخليج العربية أو مبادرة EU-GCC Inconet (أو بشكل غير مباشر، في آلية التنمية النظيفة التي تقودها الأمم المتحدة).
كما أن إعطاء الأولويات للأجندة الخضراء يمكن أن يساعد في الابتعاد عن الهدف المحبط المتمثل في التوصل إلى اتفاقية تجارة حرة. يعتبر هذ الهدف غير واقعيٍ في الوقت الراهن لعدة أسباب، وتركه على جدول الأعمال يعرقل التعاون في القطاعات الأخرى. والتحول الأخضر يمكن أن يساعدنا في تجاوز هذا الجهد إلى فرص جديدة مع تجنب الظهور بمظهر التخلي عن هدف كان يعتبر سابقًا ضروريًا للجانبين.
جدول أعمال جديد للاستراتيجية الأوروبية؟
ربما يفضي تحويل التركيز نحو الواقعية الخضراء إلى تداعيات إيجابية غير مباشرة في السياسات الأخرى. نظرًا لأن الوعي البيئي يزداد قوة في أوروبا، فإن أحزاب الخضر (أحدثها في ألمانيا) ستساهم أولويات سياستها الخارجية في تشكيل سياسة الاتحاد الأوروبي الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. من المحتمل لأفكار مثل التخلي عن الطابع العسكري للسياسة الخارجية، والاعتماد على التعاون متعدد الأطراف، والحياد الإيجابي في النزاعات الإقليمية، والتخلي عن التجارة الحرة أن تصبح أكثر وضوحًا على جدول أعمال السياسات الخارجية الأوروبية. في حين أن بعض هذه الأولويات قد تتسبب في مشاكل في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون لدول الخليج العربية (خاصة فيما يتعلق بتجارة الأسلحة)، إلا أن البعض الآخر قد يفتح فرصًا جديدة. على سبيل المثال، هناك إمكانية لربط جهود الوساطة والتيسير الأوروبية مع الجهود التي تبذلها دول الخليج. يمكن للجانبين أن يقوما بتبادل خبراتهما وتنسيق أنشطتهما في النزاعات الإقليمية بشكل أكثر عمقًا، وهو تطور مُرحبٌ به من قبل كل من حكام الخليج وأحزاب الخضر الأوروبية.
قد يكون هناك العديد من السيناريوهات الأخرى ما بين حالة الارتباك الاستراتيجي المتواصلة والواقعية الخضراء، والحق يقال، هنالك دلائل تشير إلى أن الحل الأخير ليس هو الحل الأرجح، ولا سيما لأن العديد من الفاعلين الأوروبيين ليس لديهم الحافز لتغيير الوضع القائم. ومع ذلك، ينبغي ألا يسمح صناع القرار وممارسوه الأوروبيون بتفويت فرص السياسة الخارجية الناتجة عن التحول الأخضر، حتى وإن لم يكن تحقيق ذلك سهلاً.