ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
قبل أكثر من أربعين عاما، حين كان الرئيس ريتشارد نيكسون يعيش أحلك أيامه خلال فضيحة ووترغيت التي دمرت رئاسته، تساءل خلال مؤتمر صحفي : “الأمريكيون يريدون أن يعرفوا ما إذا كان رئيسهم محتالا، حسنا أنا لست محتالا”. يوم الخميس، قالت الناطقة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز”أستطيع أن أقول بثقة أن الرئيس (ترامب) ليس كذابا. وبصراحة مجرد طرح السؤال مهين”، في رد على سؤال حول اتهام جيمس كومي المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) لترامب بالكذب. وكان كومي في أول شهادة له منذ اقالته قد نفى أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ يوم الخميس صحة ادعاءات الرئيس ترامب في أن سبب طرده من منصبه كان بسبب حالة الفوضى في المكتب وفقدان ثقة الموظفين به : “هذه أكاذيب، بكل بساطة”. إن مجرد اضطرار رئيس أو ناطق باسمه بالقول إنه ليس محتالا أو ليس كذابا، فهذا بحد ذاته إدانة ضمنية له، لأن مثل هذه التساؤلات والشكوك لا تأتي من العدم.
ونجح كومي، المعروف بحنكته كمسؤول له خبرة حكومية وإدارية واسعة ومعرفة بكيفية إدارة المعارك البيروقراطية في واشنطن، نجح في تحويل شهادته التي بنيت عليها توقعات كبيرة وراقبها ملايين الأمريكيين، إلى أول محاولة جدية لوضع الأسس القانونية لدعوى قضائية ضد الرئيس ترامب بتهمة تعطيل تحقيق رسمي، وانتهاك الدستور الأمريكي عندما حاول “عرقلة العدالة” وهو جرم جنائي يمكن أن يستخدمه الكونغرس لمحاكمة الرئيس. بدا كومي بقامته الطويلة وسلاسته اللغوية واتقانه فن المثول أمام لجان الكونغرس، وكأنه يقوم بدور سينمائي. تحدث بهدوء وثقة، ولم يدع الأسئلة المشككة، التي قاربت إلى مستوى العدائية أحيانا، التي طرحها عليه الأعضاء الجمهوريون في اللجنة من اغاظته أو إحباطه. الاهتمام الشعبي والإعلامي بشهادة كومي، التي شبهها بعض المؤرخين بالشهادات المحورية خلال فضيحة ووترغيت، وصل لدرجة أن بعض الشركات سمحت لموظفيها باستخدام قاعات الاجتماعات لمراقبة شهادة كومي جماعيا. وأعلنت حانات وبارات عديدة في واشنطن وغيرها من المدن أنها ستفتح أبوابها باكرا (الساعة العاشرة صباحا) لكي يتسنى لزبائنها مراقبة شهادة كومي وتناول طعام الغذاء واحتساء المشروبات ومناقشة الشرارات المتطايرة بين كومي وأعضاء اللجنة من الجمهوريين الذين حاولوا تبرير مواقف وتصرفات الرئيس ترامب.
شهادة مشوقة
الشهادة الخطية لكومي بدت لقرائها والمستمعين لها مشوقة، كأنها قصة قصيرة حول خفايا وتفاصيل لقاءات كومي وترامب الانفرادية، ومكالماتهما الهاتفية وصراعهما الخفي-العلني حتى قبل إقالة ترامب لكومي. بدا الرئيس الأمريكي في هذه اللقاءات -التي بادر بها جميعا-، وفقا لشهادة كومي وكأنه زعيم دولة نامية غير ديمقراطية : فقد طلب من كومي أن يظهر الولاء الشخصي له، وحضه على تعليق التحقيق الجنائي بعلاقات واتصالات مستشار الأمن القومي مايكل فلين مع المسؤولين الروس، كما طالبه تقريبا في كل اجتماع أو مكالمة هاتفية الإعلان بأن تحقيقات أف بي آي بالتدخل الروسي في الانتخابات واحتمال ضلوع مسؤولين في حملة ترامب بالتآمر مع الروس، لا تشمل شخص الرئيس. وألمح ترامب في هذه الاجتماعات إلى أن بقاء كومي في منصبه مضمون إذا تعاون مع ترامب . (صحيح أن الرئيس يعين مدير (أف بي آي) ولكن المدير يتمتع باستقلالية كبيرة، كما أن فترة خدمته تستمر لعشرة سنوات، لضمان خدمته لرئيسين مختلفين، وإبعاد الاعتبارات السياسية عن منصبه). وفور أول لقاء بينهما في نيويورك عقب انتخاب ترامب وقبل تنصيبه، عكف كومي على كتابة مذكرة حول مضمون اللقاء، وهكذا وثّق كومي معظم لقاءاته ومكالماته الهاتفية مع ترامب، وكان يُطلع كبار مساعديه بمحتوى هذه المذكرة. وحين سؤاله لماذا كان يوثق هذه الاتصالات، أجاب كومي بصراحة ” لأنني كنت قلقا من أنه (ترامب) قد يكذب حول طبيعة لقاءاتنا”. استياء كومي من محاولات ترامب الانفراد به أو الاتصال الهاتفي المباشر معه، بدلا من المرور عبر وزير العدل المسؤول مباشرة عن مكتب التحقيقات الفيدرالي، وصل إلى درجة أنه طلب من وزير العدل جيف سيشنز، أن ينقذه ويمنع أي اتصالات بين الرئيس وبينه، وهو طلب قوبل بالصمت.
“عرقلة العدالة”
ويمكن القول إن كومي وضع أسس محاكمة ترامب خلال سرده للظروف التي أحاطت باجتماعه الثاني المنفرد مع الرئيس في البيت الأبيض، والذي تم عقب اجتماع موسع مع مسؤولين استخباراتيين لمناقشة مكافحة الإرهاب. وعند انتهاء الاجتماع الموسع طلب ترامب من الجميع بمن فيهم وزير العدل سيشنز، وصهره جاريد كوشنر مغادرة القاعة لأنه يريد التحدث مع كومي لوحده. بدأ ترامب الاجتماع المنفرد بالشكوى من تسريب المعلومات إلى وسائل الاعلام، ثم انتقل إلى موضوع التحقيق بتصرفات المستشار مايكل فلين، الذي كان ترامب قد اضطر إلى إقالته في اليوم الذي سبق اجتماع البيت الأبيض. وقال ترامب لكومي، وفقا لشهادته، إن فلين لم يقم بأي شيء فادح عندما اتصل بالمسؤولين الروس، مشددا على أن فلين “هو رجل صالح ومر بصعاب عديدة” وأنه اضطر إلى إقالته لأنه لم يصارح نائب الرئيس بحقيقة اتصالاته مع الروس. وكان ترامب قد اتخذ قراره بشأن فلين مترددا وفقط بعد أن كشفت صحيفة واشنطن بوست حقيقة اتصالات فلين مع السفارة الروسية. واستأنف ترامب دفاعه عن فلين بالقول، “آمل أن ترى أنه من الأفضل أن تتركه وشأنه، أنه رجل صالح، وآمل أن تتركه يمضي في طريقه”. وقال كومي لأعضاء اللجنة إنه صعق هو ومساعدوه بهذا الطلب، وللطريقة التي تصرف بها الرئيس ترامب، الذي كان يدرك أن مجرد طلبه من كبار مساعديه، وخاصة وزير العدل مغادرة القاعة أنه يعتزم التقدم بطلب مشبوه. وقال كومي إن ترامب أقاله “بسبب التحقيق بالتدخل الروسي”، وهو أمر اعترف به ترامب خلال مقابلة مع شبكة التلفزيون (أن بي سي). وقال إنه اعتبر طلب ترامب وقف التحقيق بتصرفات فلين على أنه “توجيه . هذا رئيس الولايات المتحدة بمفرده معي ويقول لي آمل أن …”. وفور شهادة كومي برزت تحليلات واجتهادات مختلفة بين الحقوقيين حول ما إذا كان طلب ترامب هذا يرقى إلى مستوى “عرقلة العدالة”، وإن كان الرأي السائد هو أن طلب ترامب يرتقي إلى مستوى “عرقلة العدالة”، مع الإشارة إلى أنه من الضروري جمع أدلة إضافية. من جهته تفادى كومي اتهام ترامب بعرقلة العدالة، مشيرا إلى أن هذه مسألة سينظر بها المحقق الخاص روبرت مولر، “الذي سيحاول فهم نوايا الرئيس وما إذا كانت تشكل انتهاكا”، مؤكدا أن التحقيق يشمل الآن شخص الرئيس. وفوجئ الجميع حين قال كومي إن الرئيس ترامب خلال جميع الاجتماعات والاتصالات الهاتفية لم يثر مع كومي ولو مرة واحدة مسألة التدخل الروسي في الانتخابات، أو طلب أي معلومات أو أعرب عن أي فضول حول أسباب التدخل أو تفاصيله. وهذا التطور كان كافيا لإقناع بعض المراقبين والمعلقين للقول إن الرئيس ليس مهتما بالتحقيق بدور روسيا في الانتخابات، وهو الدور الذي أكدته جميع أجهزة الاستخبارات الأمريكية.
وفاجأ كومي الجميع حين تبرع بالكشف عن أنه لجأ إلى “تسريب” معلومة إلى صحيفة نيويورك تايمز بشأن مضمون المذكرة التي كتبها بعد اجتماع البيت الأبيض. وكان ترامب قد قال في إحدى تغريداته أنه من الأفضل أن لا يقوم كومي بأي تسريبات للصحف لأنه لا يعرف ما إذا كانت هناك اشرطة تسجيل خلال لقائه المنفرد بترامب. تغريدة ترامب تسببت بانتقادات عديدة له، ودفعت كومي لأن يسرب تفاصيل اجتماعه المنفرد مع ترامب في البيت الأبيض لنيويورك تايمز عبر صديق اكاديمي له في نيويورك، لارغام وزارة العدل على تعيين محقق خاص يتمتع باستقلالية كبيرة، وهو ما حدث بالفعل. وسارع محامي ترامب الخاص مارك كاسويتز إلى نفي اتهامات كومي قائلا “الرئيس لم يقم أبدا، لا بالشكل ولا بالمضمون، بتوجيه السيد كومي أو الاقتراح له بوقف التحقيق مع شخص”. المفارقة هي أن الرئيس ترامب كان قد اضطر قبل بضعة أسابيع إلى تعيين كاسويتز محاميا خاصا لمساعدته في التعامل مع التحديات المتفاقمة للتدخل الروسي في الانتخابات، وهو التدخل الذي يصفه ترامب بالخدعة.
ثأر كومي
من المبكر الحديث عن محاكمة ترامب – محاكمة الرئيس، فهو قرار سياسي أكثر مما هو قانوني- لأن الكونغرس وحده من يتمتع بصلاحية محاكمة الرئيس إذا ارتكب “جرائم كبرى”، وإن لم يحدد القانون طبيعة هذه الجرائم، وهي مسألة متروكة للكونغرس، وتحديدا مجلس النواب، وهو المجلس الذي يبدأ عملية المحاكمة ويوافق عليها لاحقا مجلس الشيوخ. خلال فضيحة ووترغيت، كانت خيمة الحزب الجمهوري تضم أكثر من جناح، وكان من بين أقطابه شخصيات هامة ومعتدلة تريد خدمة مصلحة البلاد بالدرجة الأولى وليس مصلحة الحزب. الحزب الجمهوري اليوم هو حزب يميني محافظ، يفتقر إلى وجود شخصيات معتدلة ونافذة. وهذا يعني أن محاكمة ترامب غير واردة طالما بقي الجمهوريون ورائه. من جهتهم، يرفض الديمقراطيون في الكونغرس وخاصة رئيسة الأقلية في مجلس النواب نانسي بيلوسي الحديث –علنا على الأقل- عن احتمالات محاكمة الرئيس ترامب، وهي لا تشجع زملائها على الخوض في هذا الموضوع حاليا. ولكن الاعتقاد السائد – وقطعا آمال بعض القياديين الديمقراطيين- هو أنه مع اقتراب الانتخابات النصفية في 2018، وإذا كانت فضائح ومشاكل ترامب تستمر بالنمو، وإذا كانت انجازاته التشريعية ضئيلة للغاية، عندها ومع انخفاض شعبيته، سوف يعود النواب في الحزب الجمهوري، وخاصة الذين يمثلون ولايات صوتت للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون إلى اكتشاف شجاعتهم وخلق المسافات الضرورية بينهم وبين الرئيس. عندها يمكن الحديث بجدية عن محاكمة ترامب. وإذا وصلت الطبقة السياسية إلى هذه المرحلة، سوف يرى الأمريكيون أن شهادة كومي، التي وصفها البعض “ثأر كومي” كانت بداية النهاية للرئيس دونالد ترامب.