بعد ستة أشهر من أشرس قتال بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ بداية الصراع بينهما على إقامة دولة مستقلة في فلسطين التاريخية، ما هو الثابت وما هو المتحول في هذه الحرب، التي دمرت قطاع غزة مادياً ومؤسساتياً، وأدت إلى مقتل حوالي 1200 إسرائيلي، أكثريتهم من المدنيين، ومقتل أكثر من 33 ألف فلسطيني معظمهم من المدنيين؟ يمكن القول إن الحرب غيرت كل شيء، ولم تغير أي شيء. ولكن الواقع هو أن مواقف جميع الأطراف المتورطة مباشرة في القتال – الإسرائيليون والفلسطينيون، أو الأطراف المعنية بدرجات متفاوتة بالقتال، مثل الولايات المتحدة وإيران وبعض الدول العربية – إما ازدادت ثباتاً، أو الأصح تصلباً، وهذا ما يسري على إسرائيل وحركة حماس، أو طرأ عليها تحول تدريجي، مثل بعض الدول العربية. ليس من المتوقع أن يكون لذلك وقع جذري أو ايجابي على مسار الحرب، أو مستقبل المنطقة بعد انحسار او توقف القتال.
إسرائيل
منذ توقف المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بعد أن وصلت “عملية أوسلو” إلى طرق مسدود، والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وخاصة تلك التي شكلها بنيامين نتنياهو، تجنح نحو اليمين المتشدد والقومية الدينية اليهودية المتعصبة، كما هو الحال في الحكومة الحالية، التي تشكلت قبل الهجوم الذي شنته حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023. هذه الحكومات زادت من وتيرة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية لتكثيف عملية الاستيطان، والتي صاحبها ارتفاع ملحوظ في أعمال العنف ضد المدنيين الفلسطينيين بهدف ترحيلهم عن أراضيهم.
هذا الجنوح نحو اليمين المتطرف أدى إلى انقسامات سياسية وأيديولوجية داخل المجتمع الإسرائيلي، وإلى بروز حركة سياسية ضد حكومة نتنياهو، التي أرادت تعديل القوانين الإسرائيلية، بما في ذلك إضعاف صلاحيات المحكمة العليا، وتقليص قدرتها على تحدي قرارات الحكومة. وخلال العقدين الماضيين، انحسر السجال الجدي في إسرائيل عما يسمى “حل الدولتين”، وصاحب ذلك “تطبيع” للعنف ضد الفلسطينيين، وتجاهل الحديث عن الحقوق الشرعية للفلسطينيين، بما في ذلك حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، و”تطبيع” ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية. وفي هذا السياق يقتضي التنويه بأن الولايات المتحدة التي توقفت عن تصنيف الاستيطان الإسرائيلي بأنه انتهاك واضح للقانون الدولي، ساهمت في تهميش الحقوق الفلسطينية. ووصل هذا التهميش والاستخفاف بالحقوق الفلسطينية إلى أقصى مداه خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي اعترف “بسيادة” إسرائيل على مدينة القدس بكاملها، وبكونها عاصمة إسرائيل، كما اعترف بسيادة إسرائيل هضبة الجولان السورية المحتلة.
الانتقادات الموجهة لإسرائيل في الولايات المتحدة وفي دول غربية عديدة، في أعقاب سياسة الأرض المحروقة، التي اعتمدتها إسرائيل في قطاع غزة، وأدت إلى مقتل أكثر من 33 ألف فلسطيني، تتركز بمعظمها على شخص رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. ولكن هذا التركيز على نتنياهو على سهولته، يتجاهل حقيقة موضوعية مقلقة للغاية، وهي إن سلوك نتنياهو وانتهاكاته السافرة للقوانين الدولية في غزة، يعكس مواقف ومشاعر أكثرية كبيرة من الإسرائيليين. الائتلاف الحاكم في إسرائيل، والذي يضم شخصيات سياسية محافظة من خارج حزب نتنياهو، وشخصيات دينية وشوفينية متطرفة، يعكس إجماعاً حكومياً يحظى بدعم شعبي واسع حول الأهداف التي أعلنها نتنياهو للحرب، مثل القضاء على حركة حماس واستئصالها من قطاع غزة، ورفض إعادة السلطة الفلسطينية ومؤسساتها إلى القطاع، وإبقاء قوات إسرائيلية في غزة بعد انحسار أو وقف القتال، إضافة إلى مباركة تدمير جميع المؤسسات التعليمية والصحية، وغيرها من المؤسسات البيروقراطية الضرورية لإدارة أي مجتمع. في هذا السياق وصل التصلب الإسرائيلي ضد “حل الدولتين”، حتى ولو كانت “الدولة” الفلسطينية مجردة من الكثير من مقومات السيادة، إلى أقصى مداه منذ بداية الحرب، بحيث لا يوجد اليوم في إسرائيل أي حزب او حركة سياسية يهودية تقبل بمفهوم “حل الدولتين” لمستقبل أي تعايش سلمي بين إسرائيل والفلسطينيين.
هذه هي “الثوابت” الإسرائيلية التي جلبتها حكومات نتنياهو وحلفاؤها، والتي زادتها الحرب تصلباً وعمقاً. وهذا يعني ببساطة، أن الدعوات الإسرائيلية والأميركية، مثل دعوة رئيس الأكثرية الديموقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي، السناتور تشاك شومر، إجراء انتخابات نيابية في إسرائيل، كوسيلة للتخلص من نتنياهو قد تكون مناسبة للأميركيين، وربما لنصف الإسرائيليين، ولكنها لن تؤد إلى أي تغيير ايجابي بالضرورة للفلسطينيين. وإذا أصبح بيني غانتس وزير الدفاع السابق، الذي تحبذه استطلاعات الرأي رئيساً للوزراء، فإنه من المرجح ألا يعتمد أي سياسات تجاه الفلسطينيين تختلف نوعياً عن سياسات نتنياهو، وهو الذي أيد قرارات نتنياهو حول قطاع غزة، والذي يؤيد، مثله مثل نتنياهو، اجتياح مدينة رفح، التي لجأ إليها أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني. في يناير/كانون الثاني الماضي، أظهر استطلاع رأي لليهود الإسرائيليين إن 88 بالمئة منهم يبررون العدد الضخم من القتلى الفلسطينيين (الذي زاد عن 25 ألفاً آنذاك). وفي شهر فبراير/شباط، أظهر استطلاع للمعهد الديموقراطي الإسرائيلي أن حوالي ثلثي المشاركين اليهود في الاستطلاع (63 بالمئة)، يعارضون قبول إسرائيل من حيث المبدأ بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ومنزوعة من السلاح في المستقبل.
الاعتراف بأن الجسم السياسي اليهودي في إسرائيل بمسلماته المتشددة حول الحقوق الفلسطينية هو المشكلة وليس شخص نتنياهو – على الرغم من أن شخصية نتنياهو ممقوتة عالمياً – هو أمر صعب للحكومة الأميركية وغيرها من الحكومات الغربية، ومن هنا التركيز على لوم نتنياهو وكأنه المسؤول الإسرائيلي الوحيد عن الكارثة التي حلت بالفلسطينيين في قطاع غزة.
ولكن هذه “الثوابت” الإسرائيلية، لا تلغي حقيقة وجود أمر متحول جديد جلبته الحرب، وهو تورط إسرائيل في غزة واحتمال غرقها في رمالها المتحركة، لأن تصلبها وسلوكها الدموي، ورفضها المستمر لبحث أي “أفق سياسي” أو ما يسمى “اليوم التالي”، يجعلها تكرر الخطأ الأميركي الجوهري الذي ارتكبته حكومة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن في العراق بعد احتلاله، وهو غياب أي خطة سياسية قابلة للتنفيذ لملء الفراغ الذي سيتركه ضعف حركة حماس، كما حدث في الفراغ الذي خلقته الإطاحة بصدام حسين ونظامه في العراق. إسرائيل ترفض عودة السلطة الفلسطينية للقطاع، أو أي دور أمني لدول عربية مثل مصر ودول الخليج العربية في غزة بعد توقف القتال. الإسرائيليون يتحدثون عن مجالس محلية، ولكن لا أحد، بمن فيهم المسؤولون في إدارة الرئيس بايدن، يأخذ هذا الكلام على محمل الجد. عودة الاحتلال الإسرائيلي لغزة، لن يكون عملياً أو سهلاً لإسرائيل في المدى البعيد.
حركة حماس
المواقف والتصريحات الصحفية التي أدلى بها بعض قادة حماس، مثل موسى أبو مرزوق وباسم نعيم، تُبين أنهم لا يريدون أن يتحملوا المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن الهجوم الذي شنته حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023، والذي أدى إلى الرد الإسرائيلي الدموي الذي تسبب بمقتل أكثر من 33 ألف فلسطيني، ووضع أكثرية سكان القطاع على حافة المجاعة. وقال أبو مرزوق ونعيم في مقابلة أخيرة أجراها معهم في قطر موقع هاف بوست (HuffPost)، إن هجوم السابع من أكتوبر الذي صعق إسرائيل حقق هدفه الأصلي في إعادة تسليط الاهتمام على معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. كما رفض أبو مرزوق ونعيم تحمل مسؤولية مقتل مئات المدنيين الإسرائيليين خلال هجوم السابع من أكتوبر، وادعيا ان الهجوم لم يكن مصمماً لاستهداف المدنيين. هل توقعت حركة حماس الرد الإسرائيلي الشامل؟ يقول أبو مرزوق “توقعنا أن تسمح أميركا بعدوان محدود ضد غزة، خاصة وأن معظم الضحايا كانوا من المدنيين”. وبرر قادة حركة حماس انحسار التأييد لحركتهم بين الفلسطينيين في غزة بالقول أن ذلك يعود للبطش الإسرائيلي.
في تبريرها لهجوم السابع من أكتوبر، قالت حركة حماس “كانت عملية طوفان الأقصى خطوة ضرورية واستجابة طبيعية، لمواجهة ما يحاك من مخططات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، والسيطرة على الأرض وتهويدها، وحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدسات، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس”. السؤال الذي يبحث عن الإجابة الضائعة هو: هل قرّب هجوم السابع من أكتوبر الشعب الفلسطيني من تحقيق أي من هذه الأهداف؟
مواقف قادة حركة حماس تبين أنهم، على الرغم من الدمار الذي لحق بالقطاع، والهوة السياسية العميقة بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وانحسار، إن لم نقل نهاية، مفهوم “حل الدولتين”، لا يريدون أن يتحملوا أي مسؤولية أخلاقية أو سياسية، ولو جزئية، عن الوضع المأساوي الذي وصل إليه الفلسطينيون، وخاصة في قطاع غزة. ما الفائدة من تصريحات استفزازية وعبثية مثل تلك التي أدلى بها مسؤول حركة حماس غازي حمد فور حدوث هجوم السابع من أكتوبر، “سنكرر هجوم السابع من أكتوبر مراراً وتكراراً… كل ما نقوم به له ما يبرره”. وإذا كان هناك نقطة مشتركة بينهم وبين نتنياهو، فهي رفضهم جميعاً ممارسة أي نقد ذاتي أو الدخول في مراجعة عقلانية ونقدية لسلوكهم السياسي.
الولايات المتحدة
وفرت إدارة الرئيس جوزيف بايدن تغطية سياسية شاملة وغير نقدية للرد الإسرائيلي المدمر على هجوم حركة حماس، ووفرت للقوات الإسرائيلية جميع شحنات الأسلحة والذخائر التي طلبتها حكومة نتنياهو. الزيارة السريعة لإسرائيل الذي قام بها الرئيس بايدن، الذي يصف نفسه “بالصهيوني” عكست التزامه الشخصي والعاطفي العميق والقديم بإسرائيل. هذا الدعم شبه المطلق، ساهم في تشجيع نتنياهو وحكومته على المضي في تدميرهم المنظم لقطاع غزة. من هذا المنظور، يجب على بايدن ألا يستغرب التطرف والوحشية التي اتسم بها الرد الإسرائيلي غير المتناسب مع هجوم حركة حماس. في الأسابيع الماضية، وجد الرئيس بايدن نفسه في وضع لا يحسد عليه، هو الذي تسبب به. تطرف نتنياهو أحرجه داخل الولايات المتحدة وفي العالم، وحتى الآن، اخفقت مناشدات بايدن لنتنياهو في ردعه عن سلوكه المتطرف، خاصة وأن بايدن لا يزال يقاوم مطالب بعض حلفاؤه تعليق أو إلغاء شحنات وصفقات الأسلحة لإسرائيل إذا استمرت في انتهاك القوانين الأميركية والدولية. حتى الآن، دفع بايدن ثمناً سياسياً داخلياً، قد يتحول إلى ثمن انتخابي باهظ في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بسبب المعارضة الشعبية الأميركية المتزايدة للحرب في قطاع غزة. بعد ستة أشهر من الدعم الأميركي القوي لإسرائيل، يمكن القول من الناحية النظرية على الأقل، إن هناك مؤشرات باحتمال حدوث تحول في هذا الموقف الأميركي الثابت تاريخياً في دعم إسرائيل، لجهة التلويح بإمكانيه إعادة النظر بهذا العناق الأميركي غير النقدي لإسرائيل.
إيران
استغلت إيران حرب غزة لتعزيز نفوذها الإقليمي، وسارعت إلى تعبئة حلفاؤها ووكلائها في المنطقة، مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن ومختلف الميليشيات المسلحة التي تدعمها وتسلحها في سوريا والعراق لدعم حركة حماس عسكرياً من خلال تحريك الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية، وشن الهجمات ضد الملاحة الدولية في البحر الأحمر، ومهاجمة القواعد الأميركية في سوريا والعراق والأردن، ما أدى إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين وجرح آخرين. وكثفت إسرائيل من هجماتها ضد مقاتلي حزب الله في لبنان، وضد قيادات حزب الله والحرس الثوري الإيراني في سوريا وتحديداً في العاصمة دمشق، كان أخرها الغارة على القنصلية الإيرانية التي أدت إلى مقتل سبعة قياديين في الحرس الثوري. من جهتها شنت الولايات المتحدة مع بريطانيا وبدعم من حلفاء غربيين أخرين غارات جوية ضد مواقع للحوثيين في اليمن. وعلى الرغم من أن مختلف المؤشرات تبين أن الولايات المتحدة وإيران تريدان تفادي تحويل حرب غزة إلى حرب إقليمية، إلا أن فرص حدوث سوء تقدير أو سوء حسابات، ورغبة قيادات إسرائيلية بتوجيه ضربة قوية لحزب الله في لبنان، تعني أن انفجار حرب إقليمية لا يزال وارداً وحقيقياً. وعلى الرغم من الضربات التي تعرضت لها قيادات إيرانية في سوريا، إلا أن الحرب في قطاع غزة كانت فرصة للنظام الإسلامي في طهران، ليذكر دول المنطقة والغرب أن لإيران نفوذ كبير في المنطقة، وهي مستعدة لاستخدام للقوى التي خلقتها أو ساهمت في خلقها في عدد من دول المنطقة لخدمة مصالحها السياسية والاستراتيجية، وأن أعداؤها غير قادرين على ردعها. حرب غزة لم تغير أي شيء في الثوابت الإيرانية الإقليمية المعروفة.
الدول العربية
بعد ستة أشهر من حرب غزة، يظل دور الدول العربية في النزاع محدوداً، وانحصر في توفير وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية والطبية لسكان القطاع، وتمت معالجة بعض الأطفال الجرحى من القطاع في مستشفيات دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والأردن ولبنان. القصف العشوائي الإسرائيلي أثار استياء الدول العربية، وأدى إلى صدور انتقادات قوية لإسرائيل، خاصة من الأردن، الذي سحب سفيره من إسرائيل. ولكن الرد العربي الجماعي ظل في حيز الخطوات الرمزية؛ إصدار البيانات النقدية، وعقد الاجتماعات السياسية، والتصويت في الأمم المتحدة على مشاريع قرارات وقف إطلاق النار، وتكرار الدعم السياسي لحقوق الشعب الفلسطيني. مناشدات هذه الدول العربية الصديقة لواشنطن بالتدخل لوقف إطلاق النار أو الضغط على إسرائيل “لضبط النفس”، لم يكن لها أي تأثير ملموس على إدارة الرئيس بايدن. وإذا كان هناك تعاطف عربي شعبي ورسمي مع محنة ومعاناة الشعب الفلسطيني، وخاصة في قطاع غزة، لا يوجد في المقابل لدى معظم الحكومات العربية – باستثناء دولة قطر – تعاطف أو تعاون مع حركة حماس.
ولكن الواقع يبقى أن دور الدول العربية في دعم القضية الفلسطينية ينحسر باستمرار منذ عقود، حيث أن لبعضها الآن علاقات متطورة ومتشعبة سياسياً واقتصادياً واستخباراتياً مع إسرائيل تفوق بكثير علاقاتها مع الفلسطينيين أو مع دول عربية أخرى. حرب غزة أظهرت أن الثوابت العربية التقليدية تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لم تعد ثابتة، وأبرز ما يميز الرد العربي على الغزو الإسرائيلي لغزة هو “التحولات” الجذرية التي طرأت على مواقف الدول العربية، التي اعترفت بإسرائيل رسمياً، أو التي تتعايش أو تتعاون معها عملياً.