يستمر الوضع القائم في سوريا، التي مزقتها الحرب، حتى بعد ولوج المنطقة في حالة من التحول وإعادة الاصطفاف والتواصل المفاجئ. ولعل خير ما يرمز لهذا التحول في المشهد الإقليمي – وتأثيره الذي بدأ بالظهور في سوريا – هو ما أشار إليه الإماراتيون (وغيرهم) من خلال زيارات لكبار المسؤولين الإماراتيين إلى أنقرة وطهران في الأيام المقبلة. بعد سنوات من العلاقات المجمدة والمنافسات المريرة، أثارت مثل هذه الاجتماعات شعورًا بالدوار الدبلوماسي. وقد تعزز هذا الشعور من خلال زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق في وقت سابق من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، تلك الزيارة التي كانت تشير إليها التطورات الدبلوماسية والتجارية السابقة، ولكنها لم تكن متوقعة من حيث حدوثها المفاجئ.
حتى هذه اللحظة، لا يبدو أن هذه التغييرات تبشر بأي حل سياسي لسوريا، لكنها تعكس بشكل غير مباشر اعترافًا بأن نظام الرئيس بشار الأسد هو المهيمن، وإن كان ذلك بشكل دموي وفوضوي. كما قد يعكس هذا التحول في المشهد الإقليمي – الذي يتبلور من خلال تقليص الأنظمة لمشاركتها في الصراع، وإعادة تقييمها للتهديدات، وإعادة تجهيز ترساناتها بالدبلوماسية والقوة الناعمة – بداية تقييم خليجي متصلب بأن الأسد ونظامه يمثلان فرصة، أو أداة ضغط، لمواجهة تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة. إعادة التقييم هذه عززتها المخاوف الخليجية، طويلة الأمد، من أن الوضع الراهن في سوريا يساهم في توسيع النفوذ الإيراني هناك، لأن الأسد يتعاون مع الشركاء القلائل الذين وقفوا إلى جانبه. لمناقشة هذا المشهد الإقليمي والوضع الراهن الصعب في سوريا، تحدث، عبر الهاتف، مؤخرًا، شريك الولايات المتحدة القديم في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في شمال شرق سوريا، الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية مع ويليام روباك نائب الرئيس التنفيذي لمعهد دول الخليج العربية في واشنطن.
على الرغم من التهديدات التي أفصح عنها مؤخرًا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشن عمل عسكري في شمال شرق سوريا، إلا أن هذا العمل العسكري لا يبدو وشيكًا من وجهة نظر مظلوم، وهو المراقب الذي يتمتع بمكانة جيدة وتسيطر قواته على شمال شرق سوريا. أخبر الجنرال مظلوم روباك في 12 نوفمبر/تشرين الثاني أنه أخذ التهديدات على محمل الجد، وأن قواته “اتخذت الإجراءات الاحتياطية اللازمة”. وأقر كذلك ببعض أوجه التشابه مع الفترة من سبتمبر/أيلول إلى أوائل أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، التي سبقت العمل العسكري التركي السابق ضد قواته – التي شاركت لفترة طويلة مع قوات العمليات الخاصة الأمريكية في القتال ضد تنظيم داعش في سوريا. في الوقت نفسه، أشار إلى بعض السمات البارزة التي، من وجهة نظره، تقلل من أهمية التهديد الحالي.
أشار مظلوم إلى أن الولايات المتحدة وروسيا قد أبلغتاه بأن كلتيهما قامتا بإبلاغ تركيا بمعارضتهما لمثل هذا الإجراء. واصفًا رسالة الولايات المتحدة بأنها “تأكيدات رسمية”، قال إنها تشير بالتحديد إلى البلدات التي كانت مهددة في السابق، مثل كوباني ومنبج، وقد اعتبرها مظلوم تأكيدات ذات مصداقية، مع اعترافه بأن الرسالة تقتصر على شمال شرق سوريا، في حين أن تهديدات أردوغان تضمنت أيضًا وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) في منطقة تل رفعت في شمال غرب سوريا. (تشكل وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة العمود الفقري لقوات قوات سوريا الديمقراطية المختلطة الكردية-العربية). وعززت تأكيدات مماثلة من الروس شعور مظلوم بأن العمل العسكري التركي غير واردٍ في الحسبان هذه المرة. وأشار إلى أن التأكيدات الروسية تضمنت إشارةً مقلقة بأن موسكو لم تمارس أي سيطرة على القوات التي تعمل بالوكالة عن الميليشيات الإسلامية السورية، التي استخدمتها تركيا في العمل العسكري السابق ضد قوات مظلوم. كما أشار مظلوم، على نحو مماثل، إلى التأكيدات التي تلقاها من الروس سابقًا – والتي ثبت في نهاية المطاف أنها عديمة القيمة – فيما يتعلق بالعمل العسكري التركي ضد منطقة عفرين، في الشمال الغربي في عام 2018. “نحتاج لرؤية تحرك على الأرض” لكي نأخذ التأكيدات الروسية على محمل الجد، لكنه أضاف أنه على مدار العامين الماضيين، كان هناك تنسيق جيد على الأرض بين قوات سوريا الديمقراطية والقوات الروسية في الشمال الشرقي، ولم يلاحظ أي مؤشر على أي تفاهمات روسية-تركية تسمح بتوغل عسكري جديد بقيادة تركيا في سوريا.
عدا عن هذه التأكيدات، أشار مظلوم في مقابلة في 9 نوفمبر/تشرين الثاني إلى ما سماها “الاتفاقات الدولية” التي تم التوصل إليها بشكل منفصل مع الولايات المتحدة وروسيا في أكتوبر/تشرين الأول 2019، بعد عمل عسكري سابق، يمكن أن تساعد في كبح جماح تركيا هذه المرة. كما أكد مظلوم لروباك أن أردوغان فقد قوة سياسية كبيرة داخل تركيا منذ عام 2019، عندما صوت حزب الشعب الجمهوري المعارض لأول مرة ضد تفويض القوات التركية بالتواجد في سوريا والعراق مؤخرًا. في السابق، حسب ما أدلى به مظلوم، كان الحزب الوحيد المؤيد للأكراد في تركيا (حزب الشعب الديمقراطي) هو الذي عارض انتشار هذه القوات. يؤكد مظلوم على أن معارضة أردوغان أصبحت أوسع الآن، وهذا ما سيشكل قيودًا على تصرفاته.
بالانتقال إلى التأثيرات الإقليمية الأخرى التي تؤثر على سوريا، أعرب مظلوم عن خيبة أمل، بسيطة، فيما يتعلق بزيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان إلى دمشق في 9 نوفمبر/تشرين الثاني للاجتماع بالأسد. وكان هذا أول لقاء بين مسؤول إماراتي رفيع المستوى والرئيس السوري منذ بداية الحرب الأهلية السورية. هنالك اتصالات خليجية أخرى، تكتسب زخمًا ببطء، مع دمشق منذ يناير/كانون الثاني، على سبيل المثال، هناك تقارير، غير مؤكدة، عن اجتماع مسؤول استخباراتي سعودي رفيع المستوى مع نظرائه في دمشق في مايو/أيار، واستئناف الرحلات الجوية المباشرة بين دمشق ودبي في يوليو/تموز.
وفقًا لما أدلى به مظلوم، تمكنت قوات سوريا الديمقراطية بهدوء في السنوات الماضية من إقامة علاقات مع عواصم الخليج الرئيسية. على سبيل المثال، زار ثامر السبهان، وزير دولة لشؤون الخليج العربي بوزارة الخارجية السعودية آنذاك، شمال شرق سوريا مرتين بين عامي 2017 و2019، واجتمع مع كبار مسؤولي قوات سوريا الديمقراطية بالإضافة إلى زعماء القبائل العربية. ومع ذلك، عندما بدأت دول الخليج في إعادة العلاقات الدبلوماسية وغيرها من العلاقات مع نظام الأسد (أعادت الإمارات العربية المتحدة فتح سفارتها في دمشق في عام 2018)، “أثر ذلك سلبًا على علاقاتنا مع الخليج”، كما أقر مظلوم. متحاشيًا انتقاد الزيارة بشكل مباشر، أشار مظلوم إلى أنها دعمت النظام السوري وموقفه الحالي الذي لا يساعد على إيجاد حل سياسي للبلد الذي مزقته الحرب. في رأيه من الناحية المثالية، يمكن لمثل هذه الزيارات أن تجري كجزء من التأثير لدفع الأسد نحو موقف أكثر مرونة. إلا أن مظلوم أعرب عن شكوكه في أن الزيارة الإماراتية تنذر باحتضان إقليمي أوسع للأسد. يمكن أن يحقق النظام بعض الفوائد على المدى القصير، ولكنه لن يكون قادرًا على البناء عليها نحو إعادة اندماج أوسع في المنطقة.
وفيما يتعلق بعلاقات قوات سوريا الديمقراطية مع نظام الأسد، وصفها بالمهنية التي تركز على حل المشاكل. وأشار إلى أنه كان للجانبين “علاقات قسرية” في المناطق الرئيسية في شمال شرق سوريا (مثل مواطئ قدم النظام التي تركها بما في ذلك “المربع الأمني” في القامشلي) إضافة إلى المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في الشمال الغربي. مرة أخرى، كانت المفاوضات مع النظام حول مطالب قوات سوريا الديمقراطية بالحكم الذاتي – لكل من المناطق ذات الأغلبية الكردية والعربية – قد توقفت منذ فترة طويلة، بسبب انعدام المصلحة لدى النظام، لكن الاتصالات مستمرة بين الجانبين.
بالعودة إلى السياسة الأمريكية في سوريا، حث مظلوم صناع السياسة الأمريكيين على استخدام التواجد العسكري الأمريكي في الشمال الشرقي كوسيلة ضغط للتوصل لحل سياسي في سوريا، وليس فقط ربطه بالقتال الدائر – الذي لا يزال ضروريًا – ضد تنظيم داعش. وتحديدًا، دعا الولايات المتحدة إلى الإعلان صراحة أن انسحاب القوات الأمريكية سيتم فقط عندما يتم التوصل إلى حل سياسي في سوريا. في الوقت الحالي، يعتقد النظام والإيرانيون والروس أن بإمكانهم “انتظار خروج الأمريكيين”، قناعةً منهم بأن القوات الأمريكية ستنسحب عندما تصل المعركة ضد داعش إلى المستوى المطلوب، بصرف النظر عن الوضع في سوريا بشكل عام. واعترف بمخاوفه الأولية من أن الانسحاب من أفغانستان قد يشير إلى انسحاب على نطاق أوسع من المنطقة، بما في ذلك من شمال شرق سوريا، لكن التأكيدات الأمريكية اللاحقة، والوجود المتواصل للقوات الخاصة الأمريكية، قد طمأن الناس.
أشاد مظلوم بجهود فريق الاستجابة للمساعدة في عملية الانتقال في سوريا التابع للحكومة الأمريكية، وأعرب عن تقديره للمساعدة التي قدمتها الولايات المتحدة لتحقيق الاستقرار في الشمال الشرقي منذ أواخر عام 2017 لمساعدة المجتمعات على التعافي، والسماح للناس بالعودة إلى ديارهم. ومع ذلك، ونظرًا لحجم الدمار الذي عانت منه العديد من المجتمعات، فإن الأمر يتطلب المزيد من المساعدة لإعادة بناء أو ترميم المدارس والعيادات الصحية والمستشفيات والبنية التحتية للري، إضافة إلى إصلاح شبكات الكهرباء وأنظمة المياه. ونظرًا لاستخدام نظام الأسد الدعاية في محاولة منه لتقويض سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على الشمال الشرقي، فقد دعا مظلوم إدارة الرئيس جوزيف بايدن ووزارة الخارجية الأمريكية إلى العمل بشكل وثيق مع الهياكل الإدارية المحلية، التي أنشأتها المؤسسات التابعة له لتقديم الخدمات الأساسية والأمن. من الممكن للتنسيق الأمريكي الوثيق أن يساعد في التصدي للجهود الدعائية للنظام، والتي تهاجم شرعية ومصداقية سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على شمال شرق سوريا.
وفيما يتعلق بما وصفه بالوضع الاقتصادي المزري في الشمال الشرقي، حث مظلوم إدارة بايدن على منح المنطقة “استثناء عامًا من عقوبات قيصر” التي تم فرضها في منتصف عام 2020، استنادًا إلى تشريع أمريكي تم تمريره في أواخر عام 2019. قال مظلوم إن، إلهام أحمد، وهي واحدة من نوابه الرئيسيين، وتترأس اللجنة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطية، قد وجدت آذانًا صاغية إيجابية لهذا الطلب خلال زيارتها لواشنطن في سبتمبر/أيلول. وتفيد التقارير الواردة أن إيثان جولدريتش (Ethan Goldrich)، مساعد نائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، والمسؤول عن التعاطي مع منطقة الشام وسوريا، قد قام برد الزيارة في 13 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث التقى في شمال شرق سوريا مع مظلوم وإلهام أحمد، إلى جانب مسؤولين محليين في السلطات الإدارية. وقال مظلوم إن العقوبات تمنع الاستثمار ورأس المال الأجنبي من التدفق إلى الشمال الشرقي. كما أعرب عن قلقه من ضعف محصول القمح في الشمال الشرقي عن المعدل الطبيعي، ما سيؤثر بشدة على الأمن الغذائي في الأشهر المقبلة.
وأشار مظلوم بالتفصيل إلى القتال المتواصل الذي تخوضه قواته ضد فلول تنظيم داعش. ويصر على أن تنظيم داعش لا يزال يشكل تهديدًا، خاصة خارج مناطق الشمال الشرقي، في المناطق التي يسيطر عليها، اسميًا، النظام السوري، حيث تمكن تنظيم داعش من الاستيلاء على الأراضي والسيطرة عليها، وتمويل نفسه من خلال الفدية، وتجنيد المقاتلين وتدريبهم. وأصر على أنه من الواضح أنه سيعاود الظهور بالطريقة نفسها في الشمال الشرقي في حال غياب جهود القوات المشتركة بين قوات سوريا الديمقراطية والولايات المتحدة. في الوقت الحاضر، تعمل داعش في الشمال الشرقي ضمن خلايا نائمة تحت الأرض. وأعرب عن قلقه بشأن عشرة آلاف من مقاتلي تنظيم داعش (والعدد يتزايد) الذين احتجزتهم قواته في سجون بدائية مؤقتة، واصفًا إياها بـ “الوضع الحرج”، حيث يعلم أن تنظيم داعش يأمل في استغلالهم من خلال الهروب من السجون. كما أعرب عن قلق مماثل بشأن الأمن في مخيم الهول، حيث يتم إيواء عشرات الآلاف من أفراد عائلات المنتمين إلى تنظيم داعش (الزوجات والأطفال) في خيام مع غيرهم من النازحين واللاجئين.
على الرغم من ثقة مظلوم الواضحة من أن الأسد لن يكون قادرًا على الاستفادة من زيارة وزير الخارجية الإماراتي في تحقيق الترحيب به على نطاق أوسع في المنطقة، إلا أن المسار القائم هو المزيد من التطبيع الخليجي والإقليمي مع النظام السوري. إذا كان الحال كذلك، فمن المرجح أن تزداد صعوبة الاستمرار في الدور الدقيق الذي يلعبه مظلوم حتى الآن على حافتي الدبلوماسية والأمن في سوريا، وإدارة التهديد والفرص المحدودة.