تعد السعودية شريكًا مالياً واقتصادياً مهماً للولايات المتحدة، ولكن يتم حالياً المبالغة في أبعاد الاستثمارات والتجارة السعودية الفعلية المحتملة مع الولايات المتحدة.
قال الرئيس دونالد ترامب إنه سيفكر في جعل السعودية وجهته الخارجية الأولى إذا اشترت المملكة منتجات بقيمة 500 مليار دولار من الولايات المتحدة. كما زعم أنه خلال فترة رئاسته الماضية وافقت السعودية على شراء منتجات أمريكية بقيمة 450 مليار دولار. وفي مكالمة هاتفية مع ترامب، حسبما أوردت وكالة الأنباء السعودية، “أكد صاحب السمو الملكي ولي العهد على عزم المملكة توسيع استثماراتها وتجارتها مع الولايات المتحدة على مدى السنوات الأربع المقبلة بمقدار 600 مليار دولار، وربما أكثر من ذلك”. بعد بضعة أيام، وخلال كلمته [الافتراضية] أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، اقترح الرئيس الأمريكي على المملكة رفع التزاماتها تجاه الولايات المتحدة إلى تريليون دولار، كما دعا السعودية ومنظمة أوبك إلى خفض سعر النفط (الأمر الذي سيزيد من صعوبة تحقيق الالتزامات التجارية والاستثمارية). وأخيراً، ذكر وزير المالية السعودي محمد الجدعان أن لدى السعودية “استثمارات في الولايات المتحدة بقيمة تتجاوز 770 مليار دولار”.
هنالك علاقات مالية واقتصادية قوية بين الولايات المتحدة والسعودية. فالولايات المتحدة هي ثاني أكبر مصدر سلع للسعودية (على الرغم أنها تأتي بفارق كبير خلف الصين التي تحتل المركز الأول)، في حين يحتفظ المستثمرون السعوديون بكميات كبيرة من الأوراق المالية للخزانة وغيرها من الأصول المالية الأمريكية. وعلاوة على ذلك، فإن الريال السعودي مرتبط بالدولار الأمريكي، ويتم تسعير النفط، وهو أهم الصادرات السعودية الرئيسية، بالدولار الأمريكي.
ليس من السهل التحقق من الأرقام التي ذكرها ترامب والجدعان وولي العهد محمد بن سلمان. فالتعريفات ليست واضحة دائماً، والبيانات المتعلقة بالاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة ليست شاملة، وثمة أخطاء وثغرات في بيانات ميزان المدفوعات السعودي، قد تعني أن وارداتها مسجلة بأقل من قيمتها الحقيقية. ومع وضع هذه القيود في الاعتبار، فإن ما سنورده يعد من أفضل الجهود المبذولة لتجميع المعلومات ذات الصلة بالعلاقات التجارية والاستثمارية بين الولايات المتحدة والسعودية لمعرفة الأرقام التي تصمد أمام التدقيق وتلك التي لا تصمد.
مشتريات السعودية من السلع والخدمات الأمريكية
حتى وإن كانت السعودية قد وافقت على شراء منتجات أمريكية بقيمة 450 مليار دولار خلال الفترة الرئاسية السابقة لترامب، فإن المشترياتبهذا الحجم لم تتحقق.
صدّرت الولايات المتحدة ما قيمته 455 مليار دولار من السلع والخدمات للسعودية على مدار الخمس والعشرين سنة الماضية مجتمعة وفقًا لبيانات مكتب التحليل الاقتصادي. وخلال الفترة ما بين عامي 2017 و2020، بلغ إجمالي صادرات الولايات المتحدة من السلع والخدمات إلى السعودية 92 مليار دولار. ويعد إجمالي هذه السنوات الأربع أقل من الإجمالي المسجل خلال فترة ولاية الرئيس باراك أوباما الثانية، وقد بلغ 110 مليارات دولار. وإذا استثنينا عام 2020 الذي شهد جائحة فيروس كورونا، فإن المتوسط السنوي لصادرات الولايات المتحدة من السلع والخدمات للسعودية لا يزال أقل بحوالي 4 مليارات دولار في الفترة بين 2017-2019 مقارنة بسنوات أوباما. تعد البيانات الصادرة عن هيئة الإحصاء السعودية أقل شمولية من البيانات الأمريكية، لأنها تشمل فقط التجارة في السلع (وليس الخدمات)، لكنها تكشف عن نمطٍ مشابه تماماً. وحتى لو افترضنا أن بعض عقود المشتريات التي تم توقيعها في ظل رئاسة ترامب كانت تستلزم تسليم سلع وخدمات بعد مغادرته لمنصبه، فإن ذلك لن يرفع رقم الصادرات ليقترب من 450 مليار دولار.
لو افترضنا أن الرقم 450 مليار دولار، الذي اقترحه ترامب، يشمل مشتريات المستثمرين السعوديين للأصول المالية الأمريكية، فإن الرقم لا يزال يبدو مرتفعاً للغاية. فقد زادت الأصول الأجنبية السعودية بنحو 200 مليار دولار بين نهاية عام 2016 ونهاية عام 2020. وحتى لو كانت كل هذه الزيادة بسبب شراء الأصول المالية الأمريكية (وهو أمر مستبعد لأن بيانات وزارة الخزانة الأمريكية تشير إلى أن مقتنيات المحفظة السعودية من الأسهم والسندات الأمريكية ازدادت بنحو 130 مليار دولار بين نهاية عام 2016 ونهاية عام 2020)، فإن هذه المشتريات، إلى جانب صادرات السلع والخدمات، مجموعها الكلي أقل من 300 مليار دولار خلال الفترة 2017-2020.
الاستثمار السعودي في الولايات المتحدة
قد يكون لدى السعودية استثمارات بقيمة 770 مليار دولار في الولايات المتحدة، ولكن من الصعب إثبات ذلك من خلال المعلوماتالمتاحة للجمهور.
يبلغ إجمالي الأصول السعودية الخارجية قرابة 1.5 تريليون دولار في نهاية الربع الثالث من عام 2024. وبالتالي فإن الرقم الذي ذكره الجدعان – 770 مليار دولار- يشير إلى أن حوالي نصف الأصول السعودية الخارجية يتم استثمارها في الولايات المتحدة. وهذا بالتأكيد ممكن، نظراً للترابط الوثيق بين الأنظمة الاقتصادية والمالية الأمريكية والسعودية. تشير البيانات التي نشرها صندوق النقد الدولي إلى أن 53% من احتياطي التبادل الخارجي العالمي، وهي جزء من إجمالي الأصول الخارجية، مرصودة بالدولار الأمريكي (مع أن ذلك لا يعني بالضرورة أنها مرصودة في أصول مالية أمريكية)، وهناك سبب للاعتقاد بأن حصة الدولار للسعودية قد تكون أعلى من المتوسط نظراً لارتباطها بنسبة صرف الدولار الأمريكي، والاعتماد على النفط الذي يتم تسعيره بالدولار.
وفي حين أن الرقم 770 مليار دولار من الاستثمارات السعودية يبدو ممكناً، إلا أنه من الصعب التحقق منه. فالبيانات التي سنبحثها أدناه تشير لوجود ما يقدر بنحو 490 مليار دولار من الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة. تُظهر بيانات وزارة الخزانة الأمريكية أنه في نهاية الربع الثالث من عام 2024، بلغت مقتنيات المحفظة السعودية المحددة من الأوراق المالية الأمريكية طويلة الأجل (بما في ذلك سندات الخزانة وسندات الوكالات وسندات الشركات والأسهم) 350 مليار دولار. ومع ذلك، فإن حوالي ربع إجمالي مقتنيات المحافظ الأمريكية من الأوراق المالية الأمريكية يتم الاحتفاظ بها في مراكز مالية خارجية، مثل برمودا وجزر كايمان وأيرلندا ولوكسمبورج. وفي حين أنه من المستحيل معرفة ما إذا كان المستثمرون السعوديون يحتفظون بأوراق مالية أمريكية من خلال هذه المراكز المالية، إلا أنه من المرجح أن لديهم مثل هذه الأوراق المالية. إذا تم تطبيق آلية تخصيص بسيطة، حيث يتم تخصيص المقتنيات في هذه المراكز المالية الأربعة وفقاً لحصة الاستثمارات المحددة، فإن ذلك سيضيف ما يقارب 110 مليارات دولار أخرى إلى الأصول التي تمتلكها السعودية. وتُظهر بيانات أخرى ذات صلة من بنك التسويات الدولية أن إجمالي التزامات البنوك الأمريكية للمقيمين السعوديين يبلغ حوالي 24 مليار دولار، في حين بلغ رصيد الاستثمار السعودي الخارجي المباشر في الولايات المتحدة 9.5 مليار دولار في نهاية عام 2023، وفقاً لمكتب التحليل الاقتصادي.
هل من الممكن تحقيق 600 مليار دولار من التجارة والاستثمار؟
إن الالتزام بزيادة التجارة والاستثمار السعودي مع الولايات المتحدة بما لا يقل عن 600 مليار دولار على مدى السنوات الأربع القادمة يعد أمراً مفرطاً في التفاؤل، ومن غير المرجح تحقيقه.
إن التزاماً بحجم 600 مليار دولار لا بد من وضعه ضمن سياقه الصحيح. هذا يعني أن معدل 150 مليار دولار سنوياً يعادل 14% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي للسعودية، و40% من عائدات صادراتها السنوية، وما يزيد قليلاً عن 50% من وارداتها السنوية من السلع والخدمات. وللتوضيح، فإن 9% من واردات السعودية من السلع حتى الآن في عام 2024 جاءت من الولايات المتحدة مقارنة بـ 23% من الصين.
من المرجح أن تزداد مشتريات السعودية من السلع والخدمات الأمريكية على مدى السنوات الأربع المقبلة مع استمرار المملكة في سعيها لتنويع اقتصادها وتعزيز قدراتها العسكرية. سوف تجد الشركات الأمريكية في السعودية سوقاً آخذةً بالتوسع في قطاعات الدفاع والتكنولوجيا والبناء والمالية والسياحة والترفيه والصحة والتعليم. ومع ذلك، حتى لو افترضنا بتفاؤل أن الصادرات الأمريكية من السلع والخدمات للسعودية ستنمو بنسبة 10% سنوياً خلال رئاسة ترامب، فإن إجمالي هذه الصادرات سيبلغ 125 مليار دولار أميركي خلال فترة ولايته الممتدة لأربع سنوات. وليس من المرجح لعقود الشراء متعددة السنوات المتفق عليها خلال السنوات الأربع المقبلة، والتي سيتم الوفاء بها على مدى فترة أطول، أن تضيف زيادة كبيرة لهذا الرقم.
وبالتالي ينبغي أن تأتي المبالغ المتبقية والبالغة 475 مليار دولار عبر استثمارات جديدة. ومرة أخرى، يبدو من المرجح أن الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة سوف تنمو مع سعي البلاد لنقل المهارات والتكنولوجيا والخبرات من الشركات الأمريكية إلى الاقتصاد المحلي، ولكن حجم الالتزام يبدو كبيراً للغاية.
يتوقع صندوق النقد الدولي أن تعاني السعودية من عجزٍ في الحساب الجاري خلال الفترة 2025-2028. وإذا صحت هذه التوقعات، فسوف تفقد المملكة فائض الحساب الجاري الذي حققته في السنوات الماضية (حيث شهدت 15 سنة من السنوات الـ 18 الماضية فائضاً في الحساب الجاري)، ولن تستطيع إعادة توظيف الفائض في النظام المالي العالمي كاستثمارات جديدة. وهذا يعني أن الاستثمارات الإضافية في الولايات المتحدة لا بد أن تأتي من إعادة تخصيص الأصول الأجنبية القائمة أو زيادة الالتزامات لتمويل الاستثمارات الجديدة من خلال إصدار الديون أو بيع الأصول المحلية للمستثمرين الأجانب. وفي حين أن كل ذلك ممكن، بل ومرجح بالفعل إلى حد ما، إلا أن الوفاء بالالتزامات فقط من خلال إعادة تخصيص الأصول الأجنبية القائمة سيعني الاحتفاظ بأكثر من 80% من الأصول الأجنبية السعودية داخل الولايات المتحدة.
السنوات الأربع القادمة
سوف يستمر تعزيز العلاقات الاقتصادية والمالية بين الولايات المتحدة والسعودية في ظل قيادة ترامب، ولكن الأرقام التي يتم تقديمها حول ماضي ومستقبل التجارة والاستثمار السعودي مع الولايات المتحدة تبدو مرتفعة للغاية بشكل عام.
والسؤال الذي لا مفر من طرحه يتعلق بمدى ملاءمة الزيادة في التجارة والاستثمار مع الولايات المتحدة بالحجم الذي يجري الحديث عنه مع أجندة الإصلاحات في رؤية 2030. فقد أشار صندوق الاستثمارات العامة، وهو الوسيلة الرئيسية في البلاد الذي يتولى قيادة إصلاحات رؤية 2030، مؤخراً إلى أنه يعتزم تركيز المزيد من استثماراته في الاقتصاد الداخلي بدلاً من الاقتصاد الخارجي في محاولة منه لتسريع النمو والتنويع. وقد لا يبدو هذا متماشياً مع زيادة التجارة والاستثمار مع الولايات المتحدة، لا سيما في وقت انخفضت فيه عائدات النفط بشكل كبير عن ذروتها الأخيرة.
وأخيرًا، فإن ما يزيد الوضع تعقيداً هو طلب ترامب من السعودية ومنظمة أوبك خفض أسعار النفط. فانخفاض عائدات النفط سوف يزيد من صعوبة تحقيق طموحات الإنفاق المحلي والالتزامات التجارية والاستثمارية الجديدة. وستشكل الاستجابة للطلبات الواردة من الإدارة الأمريكية الجديدة اختباراً صارماً للسلطات السعودية. إن الوفاء بتحقيق الأهداف الاقتصادية المحلية مع الحفاظ على تأييد الإدارة الأمريكية سيكون بصعوبة بمثابة مهمة شاقة.
يعود ترامب إلى البيت الأبيض بأسلوب صادمي، ويصدر قرارات مثيرة للجدل، من العفو عن مقتحمي الكابيتول إلى ترحيل المهاجرين ووقف المساعدات الأمريكية. كما بدأ حملة انتقام ضد خصومه.
إن الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب، والذي يعيد تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، يعد تهديداً بالقيام بعمل عسكري مباشر ضد الحوثيين، ما من شأنه أن يزيد احتمال انجرار الولايات المتحدة إلى صراع آخر طويل الأمد في الشرق الأوسط.
عودة ترامب تحمل نزعات إمبريالية تهدد الاستقرار العالمي وتعيد صياغة العلاقات الدولية بمنطق الهيمنة والتوسع.
ادعمنا
من خلال تفحصها الدقيق للقوى التي تعمل على تشكيل المجتمعات الخليجية والأجيال الجديدة من القادة الناشئين، يعمل معهد دول الخليج العربية في واشنطن على تسهيل حصول فهم أعمق للدور المتوقع أن تلعبه دول هذه المنطقة الجيوستراتيجية في القرن الحادي والعشرين.