يشكل جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة جزءًا أساسيًا من سياسة خارطة الطريق لعملية التنويع الاقتصادي في المملكة العربية السعودية. وضعت رؤية 2030 هدفًا يتمثل في زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 100 مليار دولار، أو 5.9% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030. عندما تم الإعلان عن رؤية 2030 في عام 2016، كانت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر قد بلغت 29 مليار دولار آنذاك. إن زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر من شأنها أن تساهم في دعم تنمية صناعات وقطاعات جديدة، مثل الذكاء الاصطناعي والألعاب والتصنيع المتقدم والتعدين والطاقة المتجددة والسياحة. ومن شأن الاستثمار الأجنبي المباشر أن يوفر التكنولوجيا ورأس المال وتدريب القدرات، ونماذج الأعمال التجارية الضرورية لنجاح الاقتصاد غير النفطي وقدرته التنافسية على المدى الطويل في السعودية.
ومع ذلك، فإن زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر تعد مهمة صعبة نظرًا للتدهور الذي لحق بالبيئة العالمية للاستثمار المباشر على مدى العقد المنصرم. وقد شهدت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر العالمية توجهًا تنازليًا ملحوظًا، حيث تراجعت مما يزيد على 2.1 تريليون دولار في عام 2015 إلى 1.4 تريليون دولار في عام 2023. لذلك تسعى السعودية لحصة أكبر من هذه الكعكة المتقلصة في وقتٍ تسعى فيه الكثير من الدول الأخرى أيضًا لزيادة الاستثمار الأجنبي المباشر لتلبية متطلبات التنمية لديها.
تقدم محدود
الاستثمار الأجنبي المباشر هو الاستثمار الذي تقوم به شركة تجارية من إحدى الدول في منشأة تجارية في بلد آخر بهدف إقامة مصلحة دائمة في تلك المنشأة. ويختلف الاستثمار الأجنبي المباشر عن استثمار المحفظة المالية، حيث لا يكون للمستثمر الأجنبي مصلحة دائمة في الشركة التي يستثمر فيها.
قامت الهيئة العامة للإحصاء السعودية مؤخرًا بمراجعة بيانات الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة لتضمين أحدث المنهجيات الإحصائية الدولية. وتظهر هذه البيانات الجديدة أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة إلى السعودية في عام 2023 بلغت 19 مليار دولار. وفي حين أن هذا أقل من التدفقات الواردة في عامي 2021 و2022 (27 مليار دولار و33 مليار دولار على التوالي)، فقد تم تعزيز الأرقام في كلا العامين بشكل كبير من خلال بيع شركة النفط الحكومية أرامكو السعودية لحصص في خط أنابيب النفط والغاز إلى اتحادات تضم الكثير من المستثمرين الأجانب. وبينما قد تم تسجيل هذه المبيعات في البيانات كاستثمار أجنبي مباشر في قطاع “النقل والتخزين”، إلا أنها كانت فعليًا استثمارات في قطاع الهيدروكربونات. وباستثناء القيمة التقريبية لهذه الصفقات، فإن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة للاقتصاد غير النفطي – وهو مؤشر أفضل للكيفية التي يمكن من خلالها للاستثمار الأجنبي المباشر أن يساعد في جهود التنويع – قد بلغت 15 مليار دولار في عام 2021 و19 مليار دولار في عام 2022.
ومن منظور أطول أمدًا، سجلت نتيجة عام 2023 تحسنًا في مقابل تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر المنخفضة في عامي 2019 و2020، ولكنها زادت بنسبة طفيفة فقط عن المتوسط السنوي لتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر البالغ 17 مليار دولار خلال الفترة 2004-2022. وبنسبة 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر في عام 2023 اقتصر على ثلث المتوسط السنوي للفترة 2006-2008 عقب انضمام السعودية لمنظمة التجارة العالمية.
ويأتي هذا الافتقار للتقدم في زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر متناقضًا مع إعلانات المملكة المنتظمة عن صفقات استثمارية أجنبية كبيرة. تشتمل هذه الإعلانات على استثمارات بقيمة 20 مليار دولار في مبادرة مستقبل الاستثمار لعام 2019، و10 مليارات دولار في مؤتمر الاستثمار العربي-الصيني في يونيو/حزيران 2023 (بما في ذلك 5.6 مليار دولار من شركة هيومان هورايزنز (Human Horizons) للسيارات الكهربائية)، و25 مليار دولار في مؤتمر الاستثمار الصيني-السعودي في ديسمبر/كانون الأول 2023، و5.3 مليار دولار من شركة خدمات أمازون ويب لمراكز البيانات والحوسبة السحابية، ومشروع مشترك مع شركة بيريللي (Pirelli) لبناء منشأة لتصنيع الإطارات. وأفاد تقرير صدر مؤخرًا عن بنك الإمارات دبي الوطني باستخدام قاعدة بيانات إف دي آي ماركتس (fDi Markets database) التابعة لمجلة الفايننشال تايمز، والتي ترصد الاتفاقات الاستثمارية الجديدة. عن حدوث طفرة في المنشآت الجديدة للاستثمار الأجنبي المباشر جرين فيلد (greenfield) في السعودية في عام 2023 (يقصد باستثمارات جرين فيلد المنشآت الجديدة، في حين أن استثمارات البراون فيلد “brownfield” تعني المنشآت القائمة).
لكن الإعلان عن مذكرة تفاهم أو اتفاقية للاستثمار ليس كتدفق الاستثمار المسجل في الإحصائيات الاقتصادية الرسمية. فالأخير يسجل الاستثمار فقط عند تنفيذ الصفقة، وليس عند الإعلان عنها. فمذكرة التفاهم قد تتجسد أو لا تتجسد على شكل استثمار فعلي، في حين أن الاستثمارات التي يتم الالتزام بها بموجب عقد موقع قد تستغرق سنوات حتى تتحقق، ويعتمد ذلك على نطاق المشروع وتعقيداته. ومن المرجح أن يكون هذا أحد أسباب وجود اختلاف كبير بين البيانات الرسمية وتلك الواردة في تقرير بنك الإمارات دبي الوطني.
مستقبل أكثر إشراقًا؟
لم تتوقع الحكومة أن ينتعش الاستثمار الأجنبي المباشر بسرعة. وبلغ الهدف السنوي للاستثمار الأجنبي المباشر المحدد في استراتيجية الاستثمار الوطنية لعام 2023 ما مقداره 22 مليار دولار، وهو أعلى قليلاً من الناتج البالغ 19 مليار دولار. ومع ذلك، فإن تحقيق 100 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر سنويًا بحلول عام 2030 يتطلب زيادة بمقدار خمسة أضعاف عن مستوى عام 2023. ويبدو هذا تحدياً كبيراً في ظل اقتصاد عالمي يزداد تمزقًا.
ومع ذلك، فهناك من الأسباب ما يدعو للتفاؤل بأن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر سوف تنتعش في السنوات القادمة. حتى وإن لم ترتقِ لهدف رؤية 2030، فإنه لا يزال من الممكن للتدفقات المتزايدة الوافدة أن تساهم بشكل ملموس في جهود التنويع المتواصلة. تستند التوقعات بزيادة التدفقات إلى التطورات الجاري إدخالها على البيئة الاستثمارية في السعودية. وتظهر الدراسات التجريبية أن العوامل الرئيسية التي تحدد جذب الاستثمار الأجنبي المباشر تشمل انفتاح البلاد على التجارة؛ والاستعداد للسماح للمستثمرين بنقل الأموال إلى داخل وخارج البلاد دون قيود؛ ونجاعة نظامها القانوني وحمايته لحقوق المستثمرين؛ وسهولة قيام المستثمرين بتلبية متطلبات الترخيص والمتطلبات التنظيمية ودفع الضرائب؛ وكفاءة ومهارات القوى العاملة. تتوافق نتائج استطلاع الثقة في الاستثمار الأجنبي المباشر الذي أجرته مؤخرًا شركة (AT Kearney)، استناداً إلى مقابلات مع كبار المسؤولين التنفيذيين في أكثر من 500 شركة عالمية) مع هذه الدراسات التجريبية. كما أضاف الاستطلاع “القدرة التقنية والإبداعية”، و”القدرة على البحث والتطوير”، و”جودة البنية التحتية الرقمية”، و”الحوافز الحكومية” إلى قائمة العوامل العشرة الأكثر أهمية التي تأخذها الشركات العالمية بعين الاعتبار عند تحديد مكان الاستثمار.
لقد حققت السعودية تقدمًا مهمًا في العديد من هذه الأبعاد. أظهر استطلاع أجرته شركة (AT Kearney) في عام 2024 أن السعودية ارتقت للمركز الرابع عشر في التصنيف العالمي للثقة في الاستثمار الأجنبي المباشر بعد أن كانت في المركز 24 في عام 2023، حيث ذكر ما يقارب من 50٪ من المستطلعة آراؤهم أنهم “أكثر تفاؤلا” بشأن الاستثمار في المملكة. وقد كان للإصلاحات الأخيرة أثر على انسيابية العمليات التنظيمية، وإجراءات الترخيص للبدء في الأعمال التجارية، وزيادة فاعلية إجراءات التخليص الجمركي، وتخفيف الكثير من قيود الملكية المفروضة على المستثمرين الأجانب، وإدخال إصلاحات قانونية، بما في ذلك وضع قانون تجاري جديد، وتعزيز حماية حقوق المستثمرين. كما تتمتع السعودية ببنية أساسية رقمية عالية الجودة، وتقدم حوافز ضريبية جذابة للشركات التي تم إنشاؤها في البلاد بموجب سياسة المقرات الإقليمية.
قيود ما تزال قائمة
سوف تستغرق العديد من الإصلاحات التي تمت مناقشتها وقتًا طويلاً حتى تؤدي إلى تعزيز التدفقات الواردة من الاستثمار الأجنبي المباشر. فعلى سبيل المثال، لم يتم اختبار القانون التجاري الجديد، الذي يسعى لدمج المبادئ الإسلامية في المفاهيم القانونية الحديثة لتوفير بيئة قانونية أكثر قدرة على التنبؤ بالأعمال التجارية. وسوف تحتاج المحاكم والهيئات القضائية لتفسير القانون الجديد قبل أن يعرف المستثمرون الأجانب على وجه اليقين ما إذا كان يعالج المخاوف السابقة بشأن البيئة التعاقدية في المملكة.
على الرغم من التغيرات الإيجابية التي تحققت في السنوات الأخيرة، هناك أيضًا العديد من العوامل التي قد تستمر في الحفاظ على الاستثمار الأجنبي المباشر في مستوى أدنى من إمكاناته إذا لم تتم معالجتها.
مهارات القوى العاملة وأنظمة العمل. حدد “استبيان المشاريع“، الذي أعده البنك الدولي، القوى العاملة غير المتعلمة بما فيه الكفاية، وقوانين العمل غير الملائمة، على أنها عقبات كبيرة أمام ممارسة الأعمال التجارية في السعودية (إلى جانب مدي توفر الأراضي). وقد يؤدي الجمع بين متطلبات السَّعْوَدَة بموجب برنامج نطاقات ونقص العمالة الماهرة المتوفرة بأجور تنافسية إلى تقويض الاستثمار. وقد يشكل جذب العمالة الأجنبية الماهرة مشكلة أيضًا، حيث يذكر أنه ثمة علاوات أجور كبيرة لا بد من دفعها لحمل مثل هؤلاء العمال على الانتقال إلى المملكة.
الشكوك التي تكتنف آفاق الاستثمار. وضعت السعودية خارطة طريق لتنويع ركائز اقتصادها ضمن إطار رؤية 2030، ولكن ما يزال هناك الكثير من التساؤلات بشأن نطاق وتكاليف المشاريع العملاقة مثل مشروع نيوم. وربما يختار المستثمرون الأجانب الوقوف على الهامش إلى أن تتبدد هذه الشكوك.
القضايا المتعلقة بالسمعة. تسببت عدة أحداث في السنوات الأخيرة في إلحاق الضرر بالتصورات العامة المرتبطة بالسعودية. وقد تتسبب مخاطر السمعة في ردع بعض الشركات عن الاستثمار في المملكة.
وأخيرًا، فإن السعودية لا تعمل في الفراغ. ولا بد من الحكم على الإصلاحات في السعودية بالنظر لما يجري في أماكن أخرى. ففي الوقت الذي نفذت فيه السعودية إصلاحات كبيرة على مدى السنوات الخمس الماضية، فإن الدول الأخرى لم تقف مكتوفة الأيدي. فالإمارات، على سبيل المثال، استمرت في تعزيز عوامل جذب المستثمرين العالميين من خلال الإصلاحات التي أجرتها على نظام التأشيرات وتملك الأجانب، وارتقت من المركز الثامن عشر إلى المركز الثامن في تصنيف شركة (AT Kearney) لعام 2024. إذا كانت السعودية تعتزم الاستحواذ على نصيب أكبر من كعكة الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي المتناقصة، فلا يجدر بها أن تتراخى في حملتها الإصلاحية.
ينذر تصاعد التوتر بين إسرائيل وحزب الله بحرب شاملة في لبنان، مع خسائر كبيرة في صفوف الحزب. وبينما تواصل إسرائيل ضرباتها الجوية، يواجه حزب الله وإيران تحديات صعبة بشأن التصعيد العسكري.
بينما تُسرع الحكومات الخليجية في تنفيذ أجندات التنمية المحلية، فإن إيجاد الوظائف المحلية وعائدات الضرائب تعد مؤشرات لقياس مدى النجاح في صنع السياسات الاقتصادية.
إن وقف إطلاق النار بعيد المنال في غزة، والانهيار المحتمل لإمكانية تحقيق حل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين، وتزايد التوترات بين إسرائيل وحزب الله، كلها عقبات رئيسية أمام استئناف التقدم في مسار عملية التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج.
ادعمنا
من خلال تفحصها الدقيق للقوى التي تعمل على تشكيل المجتمعات الخليجية والأجيال الجديدة من القادة الناشئين، يعمل معهد دول الخليج العربية في واشنطن على تسهيل حصول فهم أعمق للدور المتوقع أن تلعبه دول هذه المنطقة الجيوستراتيجية في القرن الحادي والعشرين.