برزت في سوريا، على مدى الأسابيع القليلة الماضية، ثلاثة أشكال متميزة من الأنشطة التي تذكر باتساع المأزق الاستراتيجي مع استمرار الصراع. في 31 يناير/كانون الثاني، التقى وزير الخارجية العماني السيد بدر بن حمد البوسعيدي بالرئيس السوري بشار الأسد في دمشق، وهي الزيارة الأحدث ضمن سلسلة من الزيارات على المستوى الوزاري قام بها العمانيون إلى العاصمة السورية منذ بدء الصراع قبل عقد من الزمان. ترمز الزيارة إلى السياسة الخارجية لسلطنة عمان التي تركز على احترام السيادة والحياد الهادئ. وقد تم تصحيح سياسات دول خليجية أخرى تجاه سوريا في هذا الاتجاه على مدى السنوات العديدة الماضية.
مزيدًا من الأنشطة، قليلاً من التقدم
جاءت زيارة البوسعيدي بعد لقاء جمع وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان بالأسد في دمشق في نوفمبر/تشرين الثاني 2021. ولكن أهم هذه الزيارات، كان ما ورد عن اجتماعات بين رئيسي جهازي المخابرات السعودي والسوري. في السنوات القليلة الماضية، كان السفراء البحرينيون والعمانيون والإماراتيون قد عادوا إلى دمشق. ومع ذلك، لا تزال عضوية سوريا في جامعة الدول العربية معلقة لأمد بعيد، ويبدو أن معارضة الولايات المتحدة، بدعم من الاتحاد الأوروبي، قد حالت دون أي تطبيع دبلوماسي أوسع مع الدول من خارج الخليج.
كما أن تهديد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض العقوبات يحول دون تدفق مساعدات إعادة الإعمار. وعلى الرغم من مخاطر العقوبات، أشار وزير إماراتي مؤخرًا إلى مكانة الإمارات كأهم شريك تجاري عالمي لسوريا، حيث بلغ حجم التجارة غير النفطية 272 مليون دولار في النصف الأول من العام 2021. (العقوبات المنصوص عليها في قانون قيصر الذي أصدرته الولايات المتحدة لحماية المدنيين في سوريا والذي يستهدف تجارة الدول الثالثة مع سوريا يركز بشدة على الصفقات التي تنطوي على دعم الحكومة السورية أو كبار مسؤوليها).
قام مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا جير أُو. بيدرسون (Geir O. Pedersen) بزيارة لدمشق في ديسمبر/كانون الأول 2021 على أمل إحراز بعض التقدم، الذي من شأنه أن يسمح على الأقل بإعادة اجتماع اللجنة الدستورية التي تكاد تحتضر، كجزء من الجهود التي تيسرها الأمم المتحدة الساعية إلى تعديل أو إعادة كتابة الدستور السوري في سياق الحل السياسي لسوريا. ومع ذلك، أطلع بيدرسون في يناير/كانون الثاني مجلس الأمن على وجود “مأزق استراتيجي” في سوريا.
يشير هجوم داعش على سجن الحسكة لمعيار جديد بنمط قديم
في ضواحي مدينة الحسكة الشمالية الشرقية، هزمت قوات سوريا الديمقراطية في أواخر يناير/كانون الثاني، وبدعم تكتيكي واستخباراتي من قوات العمليات الخاصة الأمريكية، مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الذين هاجموا سجن الصناعة في محاولة لتحرير ما بين 4,000 إلى 5,000 شخص من زملائهم المقاتلين المحتجزين هناك. أسفر القتال الدامي، الذي استمر 10 أيام، عن مقتل حوالي 500 شخص، بمن فيهم 374 مقاتلًا وسجينًا مرتبطون بداعش، و121 جنديًا من قوات سوريا الديمقراطية وحراس السجن وأربعة مدنيين، وفقًا لضابط كبير في قوات سوريا الديمقراطية. تشير الروايات الإعلامية إلى فرار المئات من مقاتلي داعش المحتجزين؛ وأكد ضابط في قوات سوريا الديمقراطية أنه قد تم إلقاء القبض مجددًا على 3,800 سجين من داعش.
يعد الهجوم على السجن بمثابة تذكير بالإرث الكبير المسموم في سوريا من القتال في ساحة المعركة ما بين 2014- 2017 لهزيمة ما يسمى الخلافة: تم اعتقال 10,000 من مقاتلي داعش، بمن فيهم 2,000 مقاتل أجنبي، رفضت معظم بلدانهم الأصلية إعادتهم إلى بلدانهم. (أوردت التقارير وجود 20 جنسية أجنبية في سجن الصناعة)؛ تم استخدام سلسلة من المدارس السابقة ومجمعات المصانع المتداعية والمهجورة في شمال شرق سوريا كسجون مؤقتة، ويقيم أكثر من 60,000 من زوجات وأطفال هؤلاء المقاتلين في مخيم الهول منذ عام 2019. كما يشير الهجوم كذلك إلى نموذج من جهود داعش المتواصلة لتحرير مقاتليها المحتجزين، نظرًا لأن الهروب يعزز فورًا صفوفهم المتكاتفة معًا بشكل قوي (ولكن في النهاية كان هنالك ردود فعالة من قوات سوريا الديمقراطية).
التخلص من زعيم آخر لداعش
التطور الرئيسي الثالث والأحدث هو الغارة التي شنتها قوات العمليات الخاصة الأمريكية في 3 فبراير/شباط في شمال غرب سوريا، والتي انتهت بمقتل زعيم تنظيم داعش، أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، الذي فجر نفسه لتفادي القبض عليه. كما قُتل نائبه الرئيسي وعدد من أفراد أسرته. تولى القرشي، وهو ضابط سابق في الجيش العراقي، منصبه القيادي في داعش بعد أن فجر سلفه أبو بكر البغدادي حزامًا ناسفًا أسفر عن مقتله إثر غارة مماثلة شنتها القوات الأمريكية في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وكان ذلك أيضًا في شمال غرب سوريا.
ومع زيادة التغيير… تبقى جبهة مكافحة الإرهاب على حالها
هذه التطورات الجديدة بمجملها، هي تذكير صارخ بأنه مهما تغيرت الأمور في سوريا، فإنهم سيعودون أكثر إلى الطرق المأساوية. ففي حين أن هجوم داعش على السجن هو أخطر اشتباك مع قوات سوريا الديمقراطية والقوات الأمريكية منذ الهزيمة الإقليمية لداعش في عام 2019، إلا أنه لا يزال يندرج ضمن النطاق العام لجهود داعش في العودة والتجدد، والتي تصدت لها جهود مكافحة الإرهاب من جانب الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية. تمثل الغارة على القرشي كذلك حلقة أخرى من سلسلة طويلة من جهود قطع رأس القيادة، التي من المؤكد أنها ستتواصل في شمال غرب وشمال شرق سوريا (وأماكن أخرى).
نمط الركود لا يزال قائمًا
تعتبر العناصر المتحركة في الدبلوماسية الدولية المتعلقة بسوريا أكثر تعقيدًا، ولكن لا يزال هناك نفس النمط “الرجوع إلى الوسيلة”: الجهود الدبلوماسية بشكل عام لم تسفر عن أي نتيجة منذ بداية الصراع. لقد بقي الأسد ومعه إرث نظام، يتمثل في جرائم الحرب وإراقة الدماء، ويميل إلى وقف أي مبادرة دبلوماسية من الغرب تهدف إلى حل الصراع أو حتى تصور مسار للمضي قدمًا بشكل واقعي.
يبدو أن الموقف الدبلوماسي الخليجي، الذي يمثل الأغلبية، يتضمن أربعة عناصر رئيسية: تقييم سياسي واقعي بأن الحرب قد انتهت مع بقاء الأسد في السلطة، وأن الحنكة السياسية الجادة يجب أن تكون على علم بالحقائق؛ وانعدام الثقة الكبير في الفوضى والتشدد الجهادي ومظاهر فشل الدولة التي اتسم بها الصراع، والتقليل النسبي من أهمية – أو النظر إلى الآفاق التي لا ترجح – محاسبة الأسد ونظامه على العنف الفظيع الذي مارسوه بشكل ممنهج لاستعادة السيطرة على البلاد؛ وأخيرًا، تعزيز العلاقات مع سوريا (والسعي لاندماجها مجددًا في العالم العربي) لمواجهة النفوذ الإيراني. في الوقت الحالي، ظلت السعودية بعيدة عن هذا الجهد الخليجي (وكذلك ظلت قطر لأسباب مختلفة). إن أي تحول نحو مزيد من التعاطي بين السعودية ودمشق سيكون له دور أساسي في دفع دول الخليج إلى المزيد من التطبيع.
سياسة بايدن: صبر استراتيجي مهذب… مع عصا العقوبات
تتعامل السياسة الحالية لإدارة الرئيس جوزيف بايدن في سوريا بشكل مهذب، ولكن فعال، مع هذه الدوافع الاستراتيجية الخليجية، مؤكدة على الحفاظ على تواجد للقوات الأمريكية من أجل مواجهة تنظيم داعش والدعم الإنساني الواسع النطاق ومساءلة النظام والعقوبات الاقتصادية الصارمة. وتوضح الأحداث في سجن الصناعة والغارة على القرشي أن الإدارة الأمريكية ستواصل دعم قوات سوريا الديمقراطية في القتال ضد عودة تنظيم داعش في الشمال الشرقي، والقيام بإجراءات من جانب واحد في منطقة جغرافية أوسع بكثير لاستهداف قيادة داعش. إن عقوبات قانون قيصر تجعل من المستحيل تقريبًا تدفق مساعدات إعادة الإعمار إلى سوريا، وتشكل خطورة على الاستثمار الخليجي. ولا تزال قضية مساءلة النظام – جنبًا إلى جنب مع المعارضة الأمريكية – تشكل عائقًا قويًا أمام المزيد من زخم التطبيع.
ليس من المرجح أن تشكل المساعدات الإنسانية نقطة ضعف
ربما يشكل التركيز على الدعم الإنساني نقطة ضعف محتملة لسياسة الإدارة الأمريكية في سوريا. فتعد المساعدات أمرًا حيويًا لملايين السوريين الذين يعيشون في فقر وانعدام الأمن الغذائي، في ظل انهيار الاقتصاد السوري. ونشأت نقطة الضعف هذه لأن النظام وداعميه الروس لا يشعرون بهذه المخاوف، وسيواصلون السعي لاستغلالها لكسر – أو على الأقل – التحايل على ما يعتبرونه ضغوط العقوبات الأمريكية لمنع إعادة الإعمار والاستثمار، والضغوط الدبلوماسية التي تمنع التطبيع. ستكون الفرصة التالية لروسيا للتخلص من جهود الحظر الأمريكية هذه في يوليو/تموز عندما يتم طرح قرار مجلس الأمن رقم 2585 للتجديد، ذلك القرار الذي يخول الأمم المتحدة نقل المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى في الشمال الغربي. يعد باب الهوى الشريان الوحيد المتبقي لتقديم المساعدة عبر الحدود. ويجب أن تأتي جميع مساعدات الأمم المتحدة الأخرى لسوريا عبر دمشق، حيث يستطيع النظام ومؤسساته المتمكنة، مثل الهلال الأحمر العربي السوري، ممارسة ضغوط كبيرة على توصيل المساعدات – من خلال منح أو منع وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق معينة في الدولة أو منع الجهات المستقلة من تقييم الاحتياجات والمراقبة – لمحاولة مكافأة الموالين ومعاقبة المناطق المتمردة سابقًا وإثراء القلة. من المرجح أن تلعب روسيا، مستخدمة مداولات التجديد عبر الحدود، على مخاوف زملائها من أعضاء مجلس الأمن الذين يخشون من تسليم جميع المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة عبر دمشق للضغط من أجل الحصول على امتيازات تفسح المجال أمام المزيد من مشاريع “التعافي المبكر“، مبشرة بمساعدات إعادة الإعمار. من شأن الرفض الروسي (والصيني) لتجديد القرار في نهاية المطاف أن يمنح النظام مصادر ضغط أكبر ليمارسها على جانب المساعدات الإنسانية من سياسة الولايات المتحدة بشأن سوريا.
العودة إلى الوسيلة المأساوية
شهد الصراع في سوريا اندلاع أعمال عنف لا حصر لها، والعديد من المبادرات الدبلوماسية الدولية والتنافسية في أغلب الأوقات وجهود تطبيع ثنائية، بموازاة المعارك المعقدة ضد داعش، والكثير من التطورات والإجراءات الأخرى التي يبدو أنها تبشر بالتحرك والتغيير. لكن الحقائق المأساوية الجامدة تؤكد نفسها في كل مرة. إنها عودة إلى الوسيلة المأساوية من جديد.