ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
وضعت حادثة الصحفي السعودي جمال خاشقجي العلاقات السعودية-الأمريكية على مفترق طرق، وتحولت خلال بضعة أيام إلى آخر أزمة بين بلدين تربطهما علاقات قديمة ومعقدة جعلتهما يتخطيان أزمات ضخمة كان آخرها الهجمات الإرهابية في سبتمبر-أيلول 2001 التي قادها إرهابيون اكثريتهم من السعودية، وأدت إلى مقتل حوالي 3000 آلاف أمريكي.
اختفاء خاشقجي تحول بسرعة إلى أزمة سعودية-تركية في أعقاب اتهامات مسؤولين اتراك عناصر أمنية سعودية قدمت إلى تركيا، وقامت باستجوابه قبل قتله، وهي اتهامات نفتها السعودية بشدة. في الأيام الأولى التي أعقبت اختفاء خاشقجي، اكتفى المسؤولون الأمريكيون بتسجيل قلقهم العلني لاختفائه وطالبوا البلدين بتوفير المعلومات للتحقق من مصيره. ولكن سرعان ما تغير الموقف الأمريكي، مع استمرار التسريبات والتقارير الاستخباراتية التركية التي وصلت إلى الاستخبارات الأمريكية والتي تضمنت تفاصيل مروعة حول ما قيل عن ساعات خاشقجي الأخيرة. وحظي اختفاء خاشقجي واحتمال قتله باهتمام صحفي وسياسي واسعين نظرا لشهرته ومكانته كأبرز الأصوات السعودية في الخارج التي انتقدت بعض سياسات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وممارساته في مجال حقوق الإنسان. انتقادات خاشقجي هذه كان لها صداها القوي في السعودية بعد أن أعطته صحيفة واشنطن بوست صفحاتها كمنبر دولي حين عينته معلقا دوريا.
عدم حصول الأجهزة الحكومية الأمريكية على معلومات مؤكدة من السعوديين تثبت صحة روايتهم بشأن الإدعاء بمغادرة خاشقجي القنصلية بعد وقت قصير من دخولها، أثار استياء المسؤولين في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، ما دفع الرئيس ترامب، الذي يفاخر بتحسن العلاقات الثنائية وتعزيزها خلال الأشهر الأولى من ولايته، بعد مرورها بمرحلة باردة خلال الولاية الثانية للرئيس السابق باراك أوباما، بسبب الاتفاق النووي مع إيران. الرئيس ترامب أكد أن حكومته لا تستطيع أن تتسامح مع اختطاف صحفي، وكرر القول إنه يريد معرفة كل الحقائق المحيطة باختفاء خاشقجي، وبدأ يردد عبارة “رأه الناس يدخل القنصلية ولكنهم لم يروه وهو يغادرها”، والتي اعتبرت بمثابة رفض أولي للرواية السعودية القائلة بمغادرة خاشقجي للقنصلية. ويوم الثلاثاء الماضي أجرى مستشار الأمن القومي جون بولتون، ومستشار الرئيس وصهره جاريد كوشنر اتصالات مع ولي العهد محمد بن سلمان، ولحقهما وزير الخارجية مايك بومبيو الذي طالب السعودية بإجراء تحقيق “شفاف” بحادثة اختفاء خاشقجي ومشاركة المسؤولين الأمريكيين بنتائج التحقيق. وأجرى الرئيس ترامب اتصالات “على أعلى المستويات” مع السعودية، في إشارة ضمنية إلى أنه تحدث مع الملك سلمان. وقالت مصادر حكومية أن استياء ترامب من اختفاء خاشقجي، والذي كان ينمو مع مرور كل يوم، يعكس رغبته بتفادي أي احراج له يتسبب به حلفائه في السعودية، خاصة وأنه مع صهره جاريد كوشنر ركزا على بناء علاقات قوية مع ولي العهد محمد بن سلمان تتخطى العلاقات الثنائية لتشمل تنسيق المواقف للتصدي لنفوذ إيران في المنطقة، وكان كوشنر الذي طور علاقات شخصية قوية مع ولي العهد يريد مساعدة السعودية للضغط على الفلسطينيين لقبول خطة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، والتي يفترض أن يعلن عنها كوشنر في الأشهر القليلة المقبلة.
ولكن التطور المفاجئ للبيت الابيض وللمسؤولين السعوديين تمثل باتفاق مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري – وهو أمر نادر للغاية خلال فترة الاستقطابات السياسية والإيديولوجية الراهنة- على المطالبة بالحصول على أجوبة شفافة وسريعة من السعودية حول مصير خاشقجي، صاحبته تهديدات مبطنة وأخرى واضحة بأنه اذا كانت هناك مسؤولية سعودية عن اختطاف وقتل خاشقجي، فإن ذلك سيؤدي إلى تعريض المملكة “إلى تسونامي من الحزبين”، وفقا لما قاله السيناتور الجمهوري ليندزي غراهام. وقال السيناتور الجمهوري ماركو روبيو في حال تأكدت مسؤولية السعودية عن اختفاء خاشقجي “عندها يجب على العالم المتحضر أن يرد بقوة”. ولجأ أعضاء ديمقراطيون آخرون في مجلس الشيوخ إلى موقع تويتر للمطالبة بالتحقيقات والأجوبة الصريحة حول اختفاء خاشقجي من بينهم السيناتور دايان فاينستاين التي تمثل ولاية كاليفورنيا، والسيناتور تيم كين، ممثل ولاية فيرجينيا وآخرون. ومع اقتراب الأسبوع من نهايته، اتسمت تصريحات بعض أعضاء مجلس الشيوخ، بتشاؤم واضح بعد اطلاعهم على تقارير الاستخبارات الأمريكية بشأن اختفاء خاشقجي، حين قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الجمهوري بوب كوركر، ممثل عن ولاية تينيسي، أن معظم الأدلة تشير إلى تورط السعودية باختطاف خاشقجي، ملمحا إلى أنه قتل في القنصلية، وهو موقف عكسه أيضا السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز، ممثل ولاية نيو جيرسي.
وفي أول تعبير عملي عن اهتمام مجلس الشيوخ بهذه القضية، وقّع 23 عضوا في مجلس الشيوخ من الحزبين على رسالة للرئيس ترامب طالبوه فيها باستخدام قانون أمريكي يسمح للسلطات بالتحقيق في أي هجوم إرهابي عالمي تقوم به جهة سياسية أو دولة، وفرض عقوبات على الفاعلين. وكان مجلس الشيوخ قد سّن هذا القانون لمعاقبة مسؤولين روس. ونصت الرسالة على ضرورة ملاحقة المسؤولين السعوديين بغض النظر عن مناصبهم، و تصنيفهم إرهابيين في حال التأكد من ذنبهم.
ويوم الخميس اقترب الرئيس ترامب أكثر من أي وقت سابق من تحميل السعودية مسؤولية اختفاء وحتى قتل خاشقجي حين وصف ترامب للصحفيين في البيت الأبيض الشكوك التي تشير إلى قتل خاشقجي بأنها “أمر رهيب” ولم يسم الجهة المسؤولة، وبعد أن قال إن السلطات الأمريكية تتعاون مع السلطات السعودية والتركية لمعرفة الحقائق، تابع “ما حدث هو شيء رهيب، إذا بالفعل افترضنا ذلك. ربما فوجئنا بشي مريح، ولكنني أميل إلى الشك بذلك”. ويتوقع المسؤولون الأمريكيون الحصول على تقرير مفصل من السفير السعودي في واشنطن الأمير خالد بن سلمان، نجل العاهل السعودي الذي سيعود قريبا إلى العاصمة الأمريكية.
وسوف يتعرض البيت الأبيض إلى ضغوط متزايدة من المشرعين وخاصة في مجلس الشيوخ الذين سيطالبونه أما بتجميد تسليم السعودية بالذخيرة التي تحتاجها لمواصلة حربها الجوية في اليمن، أو حتى قطع العلاقات العسكرية. قال السيناتور الجمهوري كوري غاردنر إن صفقات الأسلحة للسعودية سوف تكون من بين القضايا التي سينظر المجلس فيها إذا تأكدت مسؤولية السعودية عن مقتل خاشقجي. من جهته، سارع الرئيس ترامب إلى رفض خيار وقف الصفقات العسكرية مع السعودية، لأن ذلك سيحرم الخزينة الأمريكية من مبالغ مالية كبيرة تدفعها السعودية للصناعات العسكرية الأمريكية، وأضاف ترامب أعلم أنهم (في الكونغرس) يتحدثون عن مختلف أنواع العقوبات، ولكنهم (السعوديون) ينفقون 110 مليارات دولار على المعدات العسكرية، وغيرها من الأشياء التي تخلق الوظائف” للأمريكيين. وادعى ترامب أنه إذا لم توفر أمريكا هذه الأسلحة إلى السعودية فإنها ستلجأ إلى مصادر روسية أو صينية. وعلى الرغم من استياء ترامب من مضاعفات اختفاء خاشقجي وكرر قوله إن خاشقجي دخل القنصلية ولم يخرج منها، إلا أنه قال لشبكة فوكس نيوز إن العلاقات السعودية-الأمريكية الثنائية “ممتازة”، في مؤشر واضح إلى أن ترامب سيقاوم أي محاولات من الكونغرس لفرض عقوبات عسكرية ضد السعودية، يمكن أن تضر بها بشكل جذري. ويُعتقد أن علاقة ادارة ترامب مع السعودية، وتحديدا علاقات جاريد كوشنر بولي العهد السعودي، هي العلاقة الأبرز لواشنطن مع دولة في الشرق الأوسط باستثناء العلاقة مع إسرائيل. ويأمل ترامب أن يواصل السعوديون ضخ المزيد من النفط للتعويض عن النفط الإيراني الذي يأمل ترامب أن يمنع تصديره بعد فرض سلة عقوبات تستهدف قطاع الطاقة في إيران في مطلع الشهر المقبل. وكان ترامب، وخلافا لتقاليد الرؤساء الأمريكيين الذين يقومون بأول زياراتهم إلى دول حليفة أو قريبة مثل كندا والمكسيك أو الدول الأوروبية، قام بأول زيارة له إلى السعودية. كما أن لمؤسسة ترامب للأعمال علاقات اقتصادية مع رجال أعمال سعوديين. ويرى بعض المحللين أن ترامب، الذي لا يتطرق إلى مسألة حماية حقوق الإنسان في العالم، لا يستطيع أن يستوعب مسألة تعليق صفقات أسلحة كبيرة للسعودية بسبب مصير خاشقجي. يوم الخميس، ألمح ترامب إلى ذلك حين قال إن اختفاء خاشقجي حدث في دولة أجنبية، وأنه ليس مواطنا أمريكيا.
العلاقة الجيدة مع الملك سلمان وولي عهده، تفسر صمت، لا بل تأييد ترامب لقرار ولي العهد محمد بن سلمان احتجاز عشرات الأمراء ورجال الأعمال السعوديين في فندق ريتز كارلتون في العام الماضي بتهم الفساد. ويعتقد بعض المراقبين أن ترامب يريد صيانة هذه العلاقة حتى ولو ثبتت مسؤولية السعودية عن اختفاء خاشقجي وقتله، ما يعني أنه يسير على طريق المواجهة مع الكونغرس. يُذكر أن الكونغرس كان قد فرض حظرا على تصدير الأسلحة إلى تركيا في عام 1974 عقب غزوها واحتلالها لشمال جزيرة قبرص. وتبين العقوبات الأمريكية التي فرضها الكونغرس على روسيا الإتحادية خلال ولاية الرئيس ترامب، وهي عقوبات حاول ترامب تفاديها أو تخفيف وطأتها، أن الكونغرس قادر على فرض عقوبات ضد دولة حتى ولو عارض الرئيس مثل هذه الخطوة. ولا يمكن مراجعة مسألة مبيعات الأسلحة الأمريكية للسعودية دون مناقشة المعارضة المتنامية في مجلسي الكونغرس لحرب السعودية في اليمن، وهي حرب لا تحظى بتأييد العديد من المشرعين، الذين حاولوا في السابق التصويت على قرار بتجميد الشحنات العسكرية للسعودية، وتحديدا القنابل والصواريخ التي تستخدمها في حرب اليمن. في حال التأكد من مسؤولية السعودية عن قضية خاشقجي، سوف تبرز من جديد المحاولات لمعاقبة السعودية عسكريا، أولا بسبب اليمن، وثانيا بسبب قضية خاشقجي. مؤيدو ترامب يأملون بأن يتبخر الغضب الأمريكي الرسمي والإعلامي بسرعة نسبية، كما تبخر الغضب الذي نجم عن قرار ترامب الاجتماع منفردا بالزعيم الروسي فلاديمير بوتين في الصيف الماضي. مصير خاشقجي أصبح قضية محورية في الإعلام الأمريكي لأن خاشقجي في العام الماضي وخلال إقامته في ضواحي واشنطن أصبح جزءا من هذا الإعلام الأمريكي. أصدقاء خاشقجي الكثر وخاصة المعلقين الذين سارعوا إلى ابراز قضيته، سوف يضمنون بقاء قضيته وتحقيق العدالة بشأنه من بين القضايا التي ستبقى ماثلة أمام الأمريكيين لوقت طويل. ما هو واضح من التغطية الإعلامية الأولية أن مكانة ولي العهد محمد بن سلمان قد تعرضت للاهتزاز، في أوساط الطبقة السياسية في واشنطن، وفي أوساط الإعلام. صورة ولي العهد الإصلاحي المتنور والتي سعى إلى تطويرها بجهد عبر بناء علاقات جيدة مع الصحفيين، والاعتماد على خدمات جيش صغير من خبراء العلاقات العامة وأعمال اللوبي، قد انحسرت لتحل محلها صورة القائد المتشدد وحتى المتسلط. في الأيام الماضية سرت مخاوف في أوساط شركات العلاقات العامة وأعمال اللوبي التي تمثل السعودية أو سفارتها في واشنطن من أن تؤدي التحقيقات إلى إرغامها على فتح كامل ملفاتها، أو إلى الإضرار بها وبسمعتها.
ولكن بغض النظر عما يمكن لترامب أن يفعله أو لا يفعله لصيانة علاقاته القوية بالقادة السعوديين، فإن العلاقات الثنائية، إذا أظهرت التحقيقات أن خاشقجي قد قتل في القنصلية السعودية، كما ترجح مسؤولية ولي العهد عما حدث لخاشقجي، سوف تعرض العلاقات لنكسة كبيرة، وإن يرى محللون أن قضية خاشقجي لن تدفع بواشنطن إلى إعادة النظر جذريا بهذه العلاقة. ولكن عودة الديمقراطيين للسيطرة على مجلس النواب في الانتخابات النصفية في السادس من الشهر المقبل قد تؤدي إلى مراجعة نقدية جديدة لهذه العلاقة القديمة والمعقدة.