ردت معظم دول الخليج العربية على خطة السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، التي طرحها الرئيس دونالد ترامب، وتم الإعلان عنها في 28 يناير/كانون الثاني، بتصريحات صيغت بحذر. هذه التصريحات وازنت ما بين الشكر والتشجيع لجهود الولايات المتحدة، دون الالتزام بموقف ملزم تجاه تفاصيل الخطة. يعكس هذا التوازن الدقيق مزيجًا معقدًا من المصالح السياسية والاستراتيجية، التي تسعى هذه الدول إلى التوفيق بينها، أكثر من التناقض العاطفي أو الإيديولوجي. هذا الموقف يوضح المخاوف الأساسية لدول الخليج العربية، بشأن أحد أكثر صراعات الشرق الأوسط تقلبًا واستعصاءً، فضلاً عن العلاقات مع واشنطن.
ردود الفعل الخليجية على خطة ترامب
كانت أكثر دول الخليج العربية دعمًا لمقترح ترامب هي الإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عمان، والبحرين، التي أرسلت سفراءها لحضور حفل الإعلان. وعلى الرغم من أن هذه الدول، إضافة إلى المملكة العربية السعودية، وقطر، والكويت، قد أصدرت بيانات رسمية، اتسمت بعبارات التقدير والتشجيع، فقد تجنبت تبني الخطة نفسها، تاركةً تفاصيلها جانبًا.
أهم هذه الدول من المنظور الأمريكي والإسرائيلي هي المملكة العربية السعودية، التي حددت موقفها بإصدار بيان، يقدر الجهود الأمريكية، ويحث الفلسطينيين والإسرائيليين على إعادة الانخراط في مفاوضات مباشرة. السعودية لم تؤيد الخطة أو أيًّا من تفاصيلها، ولم تصرح حتى بأنها يجب أن تكون أساسًا لمحادثاتٍ جديدة. لكنها لم تكرر أيضًا على وجه الخصوص مركزية مبادرة السلام العربية لعام 2002، التي ناصرتها المملكة العربية السعودية في جامعة الدول العربية لأكثر من 15 عامًا، خطة السلام العربية تتعارض أحكامها بشكل صارخ مع مقترح ترامب. من المثير للاهتمام، أن المملكة العربية السعودية أصدرت بيانًا ثانيًا حول مكالمة هاتفية بين الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس الفلسطيني محمود عباس، تقول فيه المملكة العربية السعودية إن خادم الحرمين الشريفين أكد مجددا “موقفها [السعودية] الثابت من القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني”. يقول الفلسطينيون إن العاهل السعودي أكد أن المملكة ستدعم أي قرار يتخذه الشعب الفلسطيني فيما يتعلق بمستقبله.
التزمت السعودية الصمت على وجه الخصوص فيما يتعلق بوضع الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، الذي لم يتم حله بعد بموجب خطة ترامب. فمن الجهة الأولى، أكد ترامب وغيره من المسؤولين الأمريكيين مرارًا أنه لن تكون هناك تغييرات على الوضع الراهن في الحرم القدسي الشريف (جبل الهيكل)، ثالث أقدس المساجد في الإسلام، والذي يخضع لسيطرة مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية بالقدس. بموجب الترتيبات الحالية، يمكن لليهود وغيرهم من غير المسلمين زيارة الموقع، الذي يعتقد الكثيرون أنه كان ذات يوم يحتوي على أقدس المعابد اليهودية، لكنهم لا يستطيعون الصلاة أو إقامة الشعائر الدينية هناك. يبدو أن النسخة المكتوبة من خطة ترامب تشير إلى أنه ينبغي السماح للأشخاص من جميع الأديان بالصلاة في الموقع، الأمر الذي سيشكل انحرافًا جذريًا عن الوضع الراهن. بموجب اتفاقيات التسعينيات، تم تصنيف الأردن كوصي على الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس الشرقية المحتلة، لكن كانت هناك شائعات بأن الولايات المتحدة، وربما إسرائيل، تحاول إغراء المملكة العربية السعودية بدعم النهج الأمريكي الجديد، من خلال طرح استبدال الوصاية الأردنية بوصاية المملكة العربية السعودية. لم تتم الإشارة إلى أي شيء من هذا القبيل في العلن من قبل أيا من الأطراف، وليس هناك أي ذكر له في خطة ترامب. ومع ذلك، فإن صمت الرياض بشأن هذه الأسئلة يعكس عدم الثقة في الموقف الأمريكي، وحساسية هذه الأسئلة فيما يتعلق بعلاقات المملكة مع واشنطن وإسرائيل وحتى مع الأردن.
وقفت دولٌ عربيةٌ خليجيةٌ أخرى على كلٍ من جانبي نهج المملكة العربية السعودية. الدول الثلاث الأكثر استثمارًا في علاقات أفضل مع إسرائيل، وبالتالي المزيد من النفوذ مع واشنطن والثِقَل ضد إيران، هي الإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عُمان، والبحرين. من خلال إرسال سفرائهم لحضور فعالية الإعلان عن خطة ترامب، كانوا يشيرون إلى استثمار أقوى في محاولة لبدء المفاوضات من جديد، إن لم يكن في تفاصيل الخطة نفسها. وقد حثوا جميعهم الفلسطينيين على العودة إلى طاولة المفاوضات. تميل مواقفهم إلى تحميل الفلسطينيين مسؤولية الموافقة على جولة جديدة من المحادثات في سياق المبادرة الأمريكية الجديدة، إن لم يكن على أساسها. حتى إن وزير الخارجية الإماراتي نشر في تغريدة على تويتر مقالةً نُشرت في نيويورك تايمز، تنتقد بشدة الموقف الفلسطيني، كتبها المحرر السابق في صحيفة جيروزاليم بوست بريت ستيفنز- “في كل مرة يقول الفلسطينيون “لا” يخسرون“.
أشادت قطر والكويت، اللتان تشعران بأنهما أكثر عرضة للضغوط العربية والإقليمية المختلفة عن غيرهما من الدول المجاورة، أيضًا بالجهود الأمريكية، لكنهما كانتا أكثر تحفظًا، بإعادة تأكيدهما على المواقف الأساسية العربية التقليدية. وأكدت الدولتان على أهمية الاتفاقيات السابقة، في إشارة ضمنية لإعلان المبادئ لعام 1993، في إطار قضايا الوضع الدائم الخمسة الذي ألغاه فعليًا مقترح ترامب. وأشارتا إلى الحاجة إلى السلام على أساس حدود عام 1967، واتفاق معقول بشأن اللاجئين الفلسطينيين، وضرورة وجود عاصمة فلسطينية في القدس، واحترام الأماكن المقدسة لغير اليهود هناك. كانت هذه المعايير العربية الخليجية التقليدية مفقودة عمومًا من الردود الرسمية الأربعة الأخرى.
يأتي هذا الحذر من اهتمامات محددة تميز قطر والكويت عن دول الخليج العربية الأخرى، وكذلك عن بعضها بعضًا. الكويت -مع وجود نظام سياسي منفتح نسبيًا، وتوازن حساس بين التجمعات الأيديولوجية والدينية – لا تحبذ الانجرار إلى أي خلافات إقليمية أو خارج حدودها الوطنية. لذلك، تشعر الكويت بحاجة أقوى من العديد من دول الخليج الأخرى لحماية حسن نواياها تجاه الفلسطينيين. في هذه الأثناء، لم تكن أي دولة خليجية أكثر استعدادًا لبناء علاقات وثيقة مع إسرائيل من قطر، وكان أعلى تمثيل دبلوماسي لإسرائيل في دول الخليج العربية هو وجودها الرسمي في الدوحة في التسعينيات. ومع ذلك، ومنذ ذلك الحين، وبالأخص بعد مقاطعة ثلاثة من جيرانها من دول الخليج العربية ومصر، التي بدأت في صيف عام 2017، كان على قطر أن تولي اهتمامًا فائقًا لاعتمادها المتزايد على تركيا، وبدرجة أقل على إيران، للحصول على الدعم. كما تتمتع قطر بعلاقات قوية مع حركة الإخوان المسلمين والجماعات القومية العربية، بما في ذلك كبار السياسيين والمعلقين الفلسطينيين، الذين يجب عليها الإصغاء إليهم. تضمنت استراتيجية قطر الإقليمية لسنوات عديدة، بما في ذلك خلال فترة تقاربها من إسرائيل، التواصل المستمر مع الجماعات والحركات الشعبية في جميع أنحاء العالم العربي، وكلها تقريبًا معادية للصهيونية ولإسرائيل جملةً وتفصيلًا.
هواجس متضاربة في الخليج
تحرص دول الخليج العربية على الحفاظ على أقوى العلاقات الممكنة مع واشنطن، وخاصة ما يتعلق بحملة “الضغط الأقصى” للولايات المتحدة ضد إيران. إنهم يدركون أن أسلوب ترامب في العمل يمكن أن ينطوي على تقلبات مفاجئة، يمكن أن يُصوّر فيها أعداء سابقون، مثل الديكتاتور الكوري الشمالي كيم جونج أون، فجأة كأصدقاء محبوبين. لذلك، فالأمر لا يتعلق فقط بتشجيع واشنطن على أن تكون متشددة مع خصمها الإيراني، فلديهم أيضًا تحفظات ضد أي تحول مفاجئ محتمل من قبل البيت الأبيض إذا تطور فجأة حوارٌ مع طهران.
أصبحت إسرائيل عاملًا مهمًا في تفادي الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط، والظهور المحتمل لتركيا كقوة إقليمية أخرى، لها مصالح، غالبًا ما يعارضها الكثير من العرب والإسرائيليين. يبالغ المتحدثون والمسؤولون الإسرائيليون عندما يتحدثون عن “تحالف” مع مختلف الدول العربية ضد إيران، أو حتى عن “حلفائنا العرب السُنة“، ولكن هناك تفاهم مجدٍ بينهم لمواجهة النفوذ الإيراني، وربما التركي، في المنطقة. هناك تعاون على نارٍ هادئةٍ أكثر مما هو معترفٌ به علنًا من قبل دول الخليج العربية، وخاصة في المسائل الأمنية والاستخباراتية. لذلك، هناك قدر من الحساسية تجاه التصورات الإسرائيلية والأمريكية، يؤثر في ردود الخليج العربية على مقترح البيت الأبيض.
ومع ذلك، هناك ثلاث مجموعات واسعة من القضايا التي تضمن أن أكثر دول الخليج العربية حماسةً، لا تزال غير راغبة في الانخراط في تقارب مفتوح على نطاق أوسع مع إسرائيل.
الأولى هي ردة الفعل السياسية المحتملة التي يواجهونها، إلى حد كبير، من جماعات المعارضة المحلية. بعد عقود من الضغينة ضد إسرائيل والاحتلال، سيكون الاقتراب من إسرائيل دون أي تقدم كبير في مجال الحقوق الفلسطينية أو الاحتلال أمرًا خطيرًا من الناحية السياسية.
الاعتبار الثاني ينطوي على القيم. حتى لو كانوا يحبذون مصالحهم الوطنية واهتماماتهم الشخصية والسياسية، فإنهم يبقون عربًا ومسلمين متعاطفين مع الشعب الفلسطيني، الذي تم تجريده من أملاكه ونفيه. حتى أولئك القادة أو الأفراد الذين ضاقوا ذرعًا من القيادة الفلسطينية ما يزالوا متأثرين عاطفيًا بمعاناة الشعب الفلسطيني المستمرة لعقود، ويشعرون بقلق عميق إزاء مصير الأماكن المقدسة الإسلامية، وخاصة في القدس.
ثالثًا، وهو الأهم، تشعر هذه الحكومات بالقلق إزاء التهديد الاستراتيجي الذي يمثله الاحتلال الإسرائيلي المستمر، الذي بدأ عام 1967، وبقاء المحنة الفلسطينية كمتغير سياسي يزعزع الاستقرار في منطقتها. عدم التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية لا يزال مسألة خلافية شائكة، وتسمح لمجموعة واسعة من الأطراف الفاعلة -من إيران وحزب الله، إلى تركيا والإخوان المسلمين، وحتى تنظيم القاعدة وتنظيم داعش- بتسجيل نقاط سياسية في خطاب غاضب، يبدو أنه يزايد على الآخرين فيما يتعلق بمعارضة إسرائيل والصهيونية والغرب، وبالتالي النظام السياسي العربي القائم. تدرك حكومات دول الخليج العربية أنه ما لم يتم التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال بشكل مقبول للطرفين، فلن يتمتعوا بالاستقرار والأمن الذي يطمحون إليه.
قد تبدد إسرائيل فرصةً محدودة
لهذه الأسباب، لا يمكن لدول الخليج العربية أن تتخلى عن فلسطين، أو أن تتبنى علنًا تحالفًا استراتيجيًا مع إسرائيل، على الرغم من وجود حوافز واضحة للقيام بذلك. يمكن القول جدلًا إن إسرائيل تضع افتراضًا خطيرًا، بأن مصلحة الخليج العربي في السعي لعلاقات أوثق مع إسرائيل، ستستمر في التزايد كما كانت عليه في العِقد الماضي. وهذا يفترض أن التوترات مع إيران، وربما تركيا، ستستمر أو تزداد في السنوات القادمة. هذا ممكن، لكن يمكن أن يكون هناك تغيير في الحكومة أو السياسة في طهران، أو نوع من المصالحة بين دول الخليج العربية وإيران. كما أن ظهور تركيا كتهديد إقليمي لا يزال افتراضًا كبيرًا.
في ظل هذه الظروف، يمكن لإسرائيل أن تجد أن الترحيب بها في دول الخليج العربية قد انخفض بدرجة كبيرة، ويمكن أن تكتشف أن المرونة التي حظيت بها مؤخرًا بشأن القضية الفلسطينية قد تضاءلت. وبدلاً من ذلك، يمكن لدول الخليج العربية أن تجد نفسها في أزمة، بما في ذلك صراع وجودي مسلح مع إيران، ما يجعل الحاجة إلى علاقة استراتيجية وثيقة مع إسرائيل أمرًا لا يمكن مقاومته، ويتم دفع الاعتبارات المتعلقة بالفلسطينيين بعيدًا إلى الهامش.
لا يمكن لأحد أن يتأكد في أي اتجاه تسير هذه العلاقة. ولكن الشيء المؤكد الوحيد هو: أن الجاذبية المتبادلة بين إسرائيل ودول الخليج العربية، حالها كحال جميع الأمور، تعتمد على مجموعة من المتغيرات، ويمكن أن تزداد شدتها، أو تقل اعتمادًا على مجموعة من العوامل. على الرغم من أن العديد من الإسرائيليين قد يشعرون بأن مقترح إدارة ترامب يمثل فرصة تاريخية للضم والتوسع الإقليمي، فإن الاستفادة من هذا الانفتاح قد تلحق أضرارًا بالغة بالهدف الأوسع، المتمثل في المصالحة مع الدول العربية الرئيسية، والاندماج في منطقة الشرق الأوسط. سوف تراقب دول الخليج عن كثب ما سيحدث في الأشهر المقبلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فالعديد منها عازمة بوضوح على استكشاف إمكانية وجود ترتيب استراتيجي مع الإسرائيليين. ولكن لا شك أن السياق الأوسع سيتغير مع مرور الوقت.
من غير المفاجئ أن تعبر السلطة الفلسطينية عن خيبة أملها إزاء الرد العربي، ولا سيما الخليجي على خطة ترامب، وستضغط للحصول على موقف موحد بشكل أكبر وراء رفضها للخطة في قمة جامعة الدول العربية المقبلة. على الرغم من خلافاتها، إلا أنه كانت هناك سمات مشتركة معينة في ردود فعل جميع دول الخليج العربية. فقد رحبت جميعها بالجهود الأمريكية، ودعت إلى مزيدٍ من المفاوضات. لكنّ أيًّا من هذه الدول لم تُقر أيًا من النصوص المحددة للخطة، ما يشير بقوة إلى أن هذه الدول غير مستعدة للتخلي عن الفلسطينيين، أو الترحيب بإسرائيل في أي وقت في المستقبل المنظور.