على مدى الأشهر القليلة الماضية، اكتسب إعادة انخراط دول الخليج مع سوريا زخمًا، لا سيما في ضوء الحقيقة الصعبة المتمثلة في إعادة انتخاب الرئيس بشار الأسد في 26 مايو/أيار لولاية جديدة من سبع سنوات. ففي بداية شهر مايو/أيار، التقى رئيس الاستخبارات السعودية اللواء خالد الحميدان مع نظيره في دمشق، ومع الأسد أيضًا وفق ما تداولته وسائل الاعلام (بالرغم من تفاوت الروايات حول مستوى الزيارة ودرجة إعادة التعاطي مع دمشق). وصدرت بعد ذلك تقارير غير مؤكدة بأن السعوديين على وشك إبرام اتفاق تطبيع دبلوماسي مع حكومة الأسد. وفي 26-27 مارس/آذار، ترأّس وزير السياحة السوري رامي مارتيني وفدًا سوريًا إلى الرياض لحضور اجتماع لجنة الشرق الأوسط في منظمة السياحة العالمية للشرق الأوسط، وهي أول زيارة سورية إلى المملكة العربية السعودية يقوم بها وزيرٌ تابع للنظام منذ عام 2011. واحتفلت المستشارة السياسية للأسد بثينة شعبان بهذه الزيارة، معربةً عن أملها بأن تؤدي إلى المزيد من “النتائج الإيجابية” في المستقبل القريب.
في أواخر يونيو/حزيران، أعلنت الخطوط الجوية السورية عن استئناف رحلاتها المباشرة إلى دبي اعتبارًا من الثالث من يوليو/تموز بعد استئناف رحلات شركة الطيران الرئيسية في سوريا إلى أبوظبي. وفي وقت سابق من شهر مايو/أيار، سمحت الإمارات العربية المتحدة والبحرين وعُمان والكويت للسوريين بالتصويت غيابيًا في مناطق إقامتهم، بالرغم من القيود المشددة التي وضعها النظام على السوريين الذين يحق لهم التصويت.
دوافع إعادة الانخراط الخليجي
الواقع أن كل هذا النشاط، المبني على النشاط الدبلوماسي السابق، الذي واظبت عليه دول الخليج على مدى السنوات الثلاث الماضية، يثير عددًا من التساؤلات. يتعلق الأول بدوافع دول الخليج المختلفة وتوقعاتها بتلقّي معاملة مماثلة من دمشق. فطوال فترة الحرب في سوريا، أعلنت عُمان بوضوح تمسّكها بمبادئ احترام السيادة وعدم التدخل في شؤون الدول المجاورة والدول العربية “الشقيقة”. وحتى في ذروة الحرب الأهلية، أرسلت عُمان وزير خارجيتها إلى دمشق للقاء الأسد. كذلك تطورت علاقات السعودية والإمارات وقطر مع سوريا بشكل كبير خلال العقد المنصرم، فقد زودت بعض الجماعات المتمردة المعادية للأسد بالأسلحة في بدايات الأزمة، وذلك بدرجات متفاوتة وبشكل مباشر وغير مباشر، مع أن كل واحدة من هذه الدول انسحبت في نهاية المطاف، واتخذت الرياض وأبوظبي على الأقل خطوات نحو إعادة التعامل مع نظام الأسد.
يبدو أن ما يحفّز الإمارات وعُمان والسعودية هو تقديرهم بأن الحرب انتهت وأن سوريا بحاجة إلى معاودة الاندماج في المنطقة لمنع سيناريو الدولة الفاشلة أو أي تداعيات أخرى مزعزعة للاستقرار نتيجة الحرب الأهلية. وازداد تأييد هذا التقييم، المبني على الواقعية السياسية، منذ تدخل روسيا العسكري الحاسم في عام 2015. وبدعم من مصر والأردن، يبدو الخليج مرتاحًا أكثر فأكثر لفكرة إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية. ومن دوافع الأردن أيضًا الأهمية الاقتصادية للتجارة عبر الحدود السورية باعتبارها دعامة حيوية للاقتصاد الأردني، وهي قضية أثارها الملك عبد الله الثاني مع المسؤولين الأمريكيين في زيارته الأخيرة.
الإمارات تركز على التطرف الإسلامي والنفوذ التركي الإقليمي
بالنسبة للمسؤولين الإماراتيين، ثمة اعتبارات إقليمية وأيديولوجية أوسع تتعلق بالمخاوف من اضطرابات الربيع العربي والتهديدات التي كانت لتسببها للأنظمة الملكية في الخليج، والتي دفعت هؤلاء القادة إلى وضع مسألة استئناف العلاقات مع الأسد في الطليعة في الخليج. فقد أصرّ المسؤولون الإماراتيون بانتظام على أن انتماء تركيا الأيديولوجي إلى الإخوان المسلمين، ودعمها السياسي للجماعة، أجّج هذه الاضطرابات، ودفع أنقرة إلى اعتبار الاحتجاجات وسيلةً لتغيير شكل الخليج والشرق الأوسط الأكبر بطرقٍ تعزز النفوذ التركي.
بالنظر إلى مخاوف الإماراتيين من طيف جماعات الإسلام السياسية، أصبحوا قلقين من الجماعات الجهادية العنيفة التي برزت في المعارضة المتمردة ضد الأسد. وهذا ما دفع أصحاب القرار في الإمارات إلى الإعراب بحذر عن دعمهم للتدخل العسكري الروسي في عام 2015.
يشكل تخوف الإمارات من نفوذ تركيا في سوريا جزءًا من مخاوفها بشأن طموحات أنقرة الإقليمية، والتي وصفها أحد كبار المسؤولين الإماراتيين بالسلوك “الاستعماري“. وهذا يساعد على تفسير عودة التواصل الدبلوماسي الإماراتي، المؤقت، مع الحكومة السورية وتصريحات كبار المسؤولين، أمثال وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية أنور قرقاش، التي شدد على “الدور العربي” في إنهاء الأزمة السورية. وفي حين أدلى قرقاش بتصريح في يناير/كانون الثاني عن احتمالات تحسّن العلاقات مع تركيا، أشار بعض المحللين إلى أن الإماراتيين ما يزالوا قلقين جدًا من أنقرة، وهذا يفسر، إلى حدٍّ كبير، تصرفاتهم وبياناتهم المؤيدة لاستئناف العلاقات مع نظام الأسد.
المخاوف السعودية تركز على إيران وليس تركيا
في ظل المساعي التي بذلتها السعودية لإصلاح العلاقات مع أنقرة خلال الأشهر الأخيرة، تبدو حاليًا أقل قلقًا حيال النفوذ التركي في سوريا. إلا أن المسؤولين السعوديين يشاركون الإماراتيين مخاوفهم بشأن قبضة إيران القوية على السلطة والمؤسسات وصنع القرار في سوريا، وهذا يساعد على تبرير الخطوات المبدئية التي اتخذتها السعودية نحو استئناف العلاقات مع الحكومة السورية. وقد أفيد أن المسؤولين السعوديين والإماراتيين ناقشوا هذه المسألة مع المسؤولين الأمريكيين لإقناعهم بأن معاودة التعامل مع نظام الأسد قد تقنع سوريا بتقليل اعتمادها على إيران.
بيد أن سجلّ السعودية الطويل في دعم المعارضة السياسية السورية، وسنوات الجهود الإعلامية المناهضة للأسد داخل المملكة – التي أثّرت على الرأي العام السعودي – هي عوامل تفسّر سبب سير الرياض بشكل أبطأ من الإمارات نحو استئناف العلاقات. ومن المحتمل أيضًا أن يكون هذا النهج الحذر منبعه التشكك في استعداد الأسد للمعاملة بالمثل. أما بالنسبة للإمارات، فيبدو أن تخوفها الحاد من تركيا ، نوعًا ما، يقوم باحتواء أي شكوك لديها باتباع النظام السوري مبدأ المعاملة بالمثل.
في المقابل، تُعتبر قطر الدولة الخارجة [عن هذا النسق السابق] في ما يتعلق باستئناف العلاقات مع الأسد. فمع أنها قلّصت تدريجيًا دعمها للمتمردين الإسلاميين في سوريا مع تفشي تهديد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، ظلت معادية، نسبيًا، لنظام الأسد، وحافظت على توافق وثيق مع حليفتها تركيا. ويشير توطّد العلاقة بين الدوحة وإيران خلال فترة المقاطعة التي تعرضت لها قطر لأكثر من ثلاث سنوات من بعض جيرانها الخليجيين، إلى أن قطر غير متخوفة من النفوذ الإيراني في سوريا.
السياسة الأمريكية: ضوء أصفر على طريق مسدود
الأرجح أن دول الخليج التي تعيد تقييم علاقاتها مع سوريا تراقب عن كثب السياسة الأمريكية الناشئة، بحثًا عن مؤشرات على الطريقة التي سترد بها إدارة الرئيس جوزيف بايدن على استئناف العلاقات مع سوريا. ولا يبدو حتى الآن أن لديها أسبابًا تدعو للقلق. فقد شدّد فريق بايدن على الحفاظ على الوجود العسكري الأمريكي في شمال شرق سوريا، وأظهر ميلاً إلى تحسين الوضع الإنساني والعمل على وقف إطلاق النار في كل البلاد. لكنه لم يتبنَّ حملة الضغط الأقصى التي كانت الإدارة السابقة تطبّقها على الأسد. ويبدو أن المسؤولين في الإدارة الجديدة ليسوا منزعجين بالقدر نفسه من هذه الخطوات الخليجية نحو إعادة العلاقات والتطبيع الدبلوماسي مع نظام الأسد. ومن المرجح أنّ الرسالة الأمريكية لقادة الخليج تعرب عن تشكك الولايات المتحدة في أن يردّ الأسد بالمثل بأي طريقة مجدية. لكن هذه الرسالة لن تبطئ جهود استئناف العلاقات الخليجية مع الأسد ونظامه.
العقوبات الأمريكية عائقٌ كبير أمام استئناف العلاقات
بالرغم من ذلك، من شأن عقوبات قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا، التي فرضها الكونجرس أن تكبح وتوقف بشدة أنواعًا معينة من العلاقات الاقتصادية، بما في ذلك النشاط الاستثماري الخليجي وجهود إعادة الإعمار داخل سوريا، وهذا سيثير استياء مَن يرغب من القادة في الخليج (والمنطقة ككل) في المضي قدمًا بجرأة أكبر. على سبيل المثال، تستهدف هذه العقوبات تحديدًا الأجانب الذين يقدّمون “خدمات بناء أو هندسة مهمة للحكومة السورية” أو “دعمًا ماليًا أو ماديًا أو تكنولوجيًا مهمًا” أو ينخرطون “في صفقة مهمة مع” الحكومة السورية أو العناصر الأجنبية في سوريا التي تدعم الجهود الحربية لنظام الأسد.
الجمود في سوريا مستمر في المستقبل المنظور
بالنظر إلى تهديد العقوبات هذا، سيكون من الصعب استئناف العلاقات الخليجية بسوريا إلى أبعد من الخطوط الدبلوماسية الحالية (الرمزية إلى حدٍّ كبير). فمن المؤكد أن روسيا ستضغط بهمّة لتشجيع المزيد من الخطوات الخليجية، إلا أن المسؤولين الأمريكيين سيلفتون، على الأرجح، نظر المسؤولين الخليجيين إلى أن عقوبات قيصر مفروضة من الكونجرس. وفي المستقبل المنظور، مع جمود الصراع في سوريا، على ما يبدو، وفشل الجهود الدبلوماسية الدولية، من الصعب معرفة كيف سيكون لاستئناف العلاقات الخليجية مع الأسد تأثير بارز. ولكن سواء تم حلّ الصراع وإحراز تقدم دبلوماسي أم لا، من المرجح أن تستمر دول الخليج في استئناف علاقاتها مع الأسد حتى وهي تسعى لتجنّب مخالفة العقوبات الأمريكية، وسيكون دافعها هو التخوف من النفوذَين الإيراني والتركي والمخاوف المتعلقة بالحركات الإسلامية – وهي مخاوف ستوضحها حتمًا هذه الدول للمسؤولين الأمريكيين في الأشهر المقبلة وهي تبحث جاهدة عن وسيلة للالتفاف حول ما يعتبرونه جمودًا خطيرًا وعقيمًا في سوريا. ولما كان المسؤولون الأمريكيون يشكّكون في استعداد الأسد للتفاوض بشأن مسائل السجناء وإمكانية وصول المساعدات الإنسانية بدون عوائق وما شابه- فما بال الانتقال السياسي الحقيقي- ويشمئزّون من جرائم الأسد، يبدو مستبعدًا أن يقوموا بما هو أكثر من تعديل تطبيق العقوبات فيحدودها الدنيا. ويبدو للوقت الحاضر أن أي انخراط أمريكي قوي قد يحاول استخدام العقوبات كأداة لتحقيق تقدم دبلوماسي ما يزال بعيدًا.