لا يزال التمرد، قصير الأجل، في روسيا الذي استمر لأقل من 24 ساعة في 24 يونيو/حزيران الماضي، والذي قاده قائد مرتزقة تنظيم فاغنر، يفغيني بريغوجين، موضع جدل وسجال داخل الأوساط الحكومية في واشنطن وفي أروقة مراكز الأبحاث المختصة، حيث توجد اجتهادات مختلفة ومتناقضة، وإن كان هناك اتفاق حول نقطة محورية واحدة، وهي أن ترددات التمرد لا تزال مستمرة، ولا أحد يعرف بأي درجة من اليقين، بمن في ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحلفائه، وكذلك بريغوجين، الذي انتقل أو تم نقله، إلى منفاه في روسيا البيضاء، متى ستنتهي، أو كيف؟
ما هو واضح في هذا الوقت المبكر، هو أن التمرد شكّل أبرز تحد للرئيس بوتين خلال حكمه، المستمر منذ 23 سنة، واعترف أن المحاولة الانقلابية هددت الاستقرار الداخلي، وكادت تزج البلاد في حرب أهلية. هذه كلمات وأوصاف لم يكن من السهل على رئيس يحكم بلاده بسلطوية واضحة أن يقولها دون أن يدرك أنها أثرت، أو ستؤثر، على مكانته داخل روسيا، وداخل الدول التي يحتاج إلى دعمها السياسي والمادي، وخاصة في حربه الكارثية ضد أوكرانيا، وفي طليعتها الصين والهند وإيران وتركيا، والدول النفطية التي يحتاجها لتنسيق الأسعار العالمية للنفط. هذه الدول، وتلك التي تنشط فيها مرتزقة فاغنر، من سوريا إلى ليبيا والسودان ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وأنغولا، سوف تراقب باهتمام وبقلق التطورات داخل روسيا، وكيف ستنعكس على نشاط ومستقبل تنظيم فاغنر.
رد الفعل الأميركي الرسمي الأولي، الهادئ والحذر، والذي ركّز – في التصريحات العلنية، كما في الايجازات الخاصة التي وصلت رسميًا إلى موسكو – لم يكن مفاجئا. واشنطن أرادت تفادي قول، أو الإيحاء، بأي شيء يمكن أن يستغله الرئيس بوتين ليحّمل الغرب وحلف الناتو مسؤولية التمرد، أو يمكن أن يؤثر بأي شكل سلبي على تطورات القتال في أوكرانيا.
الرئيس بايدن، الذي يميل أحيانا إلى الادلاء بتصريحات ارتجالية مثيرة للجدل، كما فعل في خطابه في السنة الماضية في بولندا، حين قال إن بوتين يجب ألا يبقى في السلطة، حافظ هذه المرة على انضباطه، وقال “لقد أوضحنا أننا غير متورطين (في الأحداث) ولا علاقة لنا بها. وهذا جزء من صراع داخل النظام الروسي”. وبعد أن أشار إلى أن حكومته ستواصل تقويم ما حدث في روسيا، أضاف “من المبكر التوصل إلى نتيجة نهائية حول ما ستؤدي إليه هذه التطورات”. وتمشيًا مع سياسة واشنطن منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، سارع المسؤولون إلى اجراء المشاورات مع أعضاء حلف الناتو لتنسيق المواقف وتبادل المعلومات.
ما لم يقله الرئيس بايدن علنًا في البداية، قاله لاحقًا مدير وكالة السي آي أيه بيل بيرنز في خطاب ألقاه في بريطانيا. ملخص ما قاله بيرنز هو أن التمرد المسلح الذي قاده بريغوجين هو تحد للدولة الروسية، التي بدت عليها معالم التآكل الذي سببته الحرب التي شنها بوتين ضد أوكرانيا. ورأى بيرنز، الذي خدم كسفير لبلاده في موسكو بين عامي 2005 و2008 أنه من اللافت أن بريغوجين سبق تمرده بإدانة نابية “لتبريرات الكرملين الكاذبة لغزو أوكرانيا، ولأداء القيادة العسكرية الروسية في الحرب”. وتابع أن “وقع هذه الكلمات والنشاطات التي لحقتها سوف تبقى ماثلة لوقت طويل، لتذكرنا بآثار التآكل الذي سببته حرب بوتين ضد مجتمعه وضد نظامه”.
وأكد بيرنز ما يقوله العديد من المحللين الاستراتيجيين في واشنطن بأن الحرب الروسية ضد أوكرانيا قد تحولت إلى “هزيمة استراتيجية” لموسكو، وكشفت الضعف العسكري لروسيا ولاقتصادها، وهو ضعف سوف يبقى ماثلًا بثقله فوق روسيا لوقت طويل، في الوقت الذي عزز فيه حلف الناتو قوته وقدراته. وفي إشارة مذهلة لضعف روسيا، قال بيرنز “إن مستقبل روسيا كشريك ضعيف وكمستعمرة اقتصادية للصين” تتم صياغته عبر أخطاء بوتين.
تشخيص بيرنز لأمراض روسيا، ينسجم مع الرأي السائد في أوساط تيار واسع بين المحللين العسكريين والخبراء الأميركيين في الشؤون الروسية، الذين كانوا يصفون روسيا حتى قبل غزوها لأوكرانيا، حين كانت تمثل الاقتصاد الحادي عشر في العالم، بأنها، كما يقول المتشددون منهم، “محطة وقود كبيرة مزودة بصواريخ نووية عابرة للقارات”. المحللون الأقل قسوة، يقولون إن روسيا، وخاصة بعد الضربات التي سببتها المقاطعة الدولية لاقتصادها، أصبحت دولة نامية، وتعاني من الضعف والفساد، ولكنها لا تزال مزودة بصواريخ نووية عابرة للقارات.
النقاش في أوساط المحللين في مراكز الأبحاث أدى إلى بروز تقويمات مختلفة ومتناقضة. الأكثرية ترى أن التمرد الذي أظهر روسيا بالفعل كدولة نامية تعاني من غياب نظام حكم شرعي ومسؤول، قد أضعف بوتين داخليًا وخارجيًا، وأظهره عاجزًا نسبيًا عن الحسم السريع وفي موقع دفاعي، وأنه سمح للتطورات الميدانية أن تفاجئه بشكل محرج وعلني. هذا الرأي يرى أن بوتين سيجد أنه من المستحيل التعايش مع بريغوجين في روسيا البيضاء، التي يراها بوتين ويعاملها كمحمية روسية. بعض هؤلاء المحللين كتبوا مقالات تنبئوا فيها “ببداية النهاية لبوتين”.
ولكن الرأي المغاير لأقلية من المحللين يرى أن بوتين حتى في موقعه الدفاعي، لا يزال يحظى – على الأقل علنا – بولاء مراكز القوى الأخرى في المجتمع الروسي، من المؤسسة العسكرية إلى أجهزة الاستخبارات، إلى الحرس الخاص المكلف بحمايته، إلى الطبقة الاوليغارشية التي نمت وترعرعت في ظله، وأخيرًا إلى القوى المسلحة الأخرى مثل قوات الزعيم الشيشاني رمضان قديروف، التي قاتلت في السابق إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا. هذه القوى لا تزال موالية لبوتين، وسوف يعتمد عليها خلال تطهيره للأجهزة الروسية، وتعزيز موقعه وموقع حلفائه. وأشار هؤلاء إلى أن معظم المحاولات الانقلابية الفاشلة ضد الانظمة الديكتاتورية أو الأوتوقراطية، مثل محاولات التمرد الداخلية او الانقلابات الفاشلة ضد أنظمة صدام حسين في العراق وحافظ الاسد في سوريا ومعمر القذافي في ليبيا، أدت إلى تقوية وتعزيز تسلط الحكم الطغياني.
واهتم الأميركيون في الأجهزة الرسمية وفي مراكز الأبحاث بالدرجة الأولى بكيفية قراءة الصين للتحديات التي يواجهها الرئيس بوتين. هذا الاهتمام الأميركي له ما يبرره، لأن واشنطن ترى الآن في الصين الدولة العظمى الصاعدة، التي عليها احتوائها استراتيجيًا واقتصاديًا. ومنذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، رأى المسؤولون الأميركيون أن نجاح روسيا في قهر واحتلال أوكرانيا بسرعة، كما خدع بوتين نفسه قبل سنة ونصف، كان سيؤثر كثيرا على كيفية رؤية الصين وتعاملها مع مسألة استخدام القوة العسكرية لاحتلال جزيرة تايوان.
ويلاحظ الأميركيون أن هناك فارق كبير بين طبيعة الحكم المركزي القوي للحزب الشيوعي الصيني بقيادة شي جينغ بينغ على أجهزة ومؤسسات الصين، وغياب مراكز قوى أخرى، مقارنة بروسيا التي سمح بوتين لقوى أمنية وعسكرية أخرى، مثل مرتزقة فاغنر التي حاربت إلى جانب الجيش الروسي وتحت قيادة أخرى، إلى قوات قديروف التي حاربت في البداية لصالح موسكو في الشيشان، ولاحقًا في أوكرانيا تحت قيادة مختلفة، أظهرت ضعف الدولة الروسية، التي قبلت عمليًا بوجود مراكز قوى مسلحة تشاركها في السلطة، بينما يفترض أن تحتكر السلطة المركزية، وفقا لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، القوة العسكرية والأمنية داخل الدولة. ورأى أحد المحللين في هذا السياق أن بوتين ربما تعلم الكثير من الفيلسوف الإيطالي نيكولو ماكيافيللي، مؤلف كتاب “الامير” حول كيفية استخدام السلطة، ولكنه نسي ما قاله ماكيافيللي عن المرتزقة والقوى غير النظامية، “المرتزقة والقوات غير النظامية خطيرة ولا فائدة منها. وإذا اعتمد حاكم على حماية بلاده عبر هذه القوى، فإنه لن يكون حاسمًا أو آمنًا، لأن هذه القوى غير متحدة وطموحة وغير منضبطة”. وهذا بالفعل ما أكدته ظاهرة بريغوجين وتمرده .
تصريحات المسؤولين في دول مثل الصين والهند وإيران وتركيا والسعودية حول دعمهم للحكومة الروسية ضد تمرد بريغوجين وفاغنر لم يقنع المسؤولين في واشنطن بأن سمعة ومكانة بوتين لدى قادة هذه الدول، وحتى في أوساط الرأي العام في هذه المجتمعات، لم تتزعزع. ومع أن المسؤولين الأميركيين لم يناقشوا علنًا هذه المسألة، إلا أن الايجازات الخلفية والتسريبات أظهرت ارتياح واشنطن لمأزق بوتين في هذه الدول، التي سوف تضطر، وفقًا للأميركيين، إلى إعادة النظر ببعض مسلماتها الماضية حول قوة وصلابة النظام الروسي، وعلى رأسه بوتين، الذي كشفت الحرب في أوكرانيا تخبطه العسكري، والذي أبرز تمرد فاغنر تفككه، وربما هشاشته السياسية، كما لم يحدث منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.