أمضت إيران أكثر من 18 شهرًا في قبضة العقوبات القصوى لإدارة ترامب. وقد أدت إعادة فرض عقوبات ثانوية على إيران في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 إلى ضغوط اقتصادية لا حصر لها، كان مجمل تأثيرها انخفاض قيمة الريَال، وزيادة التضخم المالي، والعجز الكبير في ميزانية الحكومة. وأصبح الاقتصاد الإيراني، بكل المقاييس المنطقية، في وضع متأزم بسبب العقوبات، لكنه ازداد سوءاً بسبب سوء الإدارة. وكان الإيرانيون العاديون، الذين تآكلت قدراتهم الشرائية، هم أكثر المتضررين.
ولكن في الوقت الذي ربما كانت إدارة الرئيس دونالد ترامب تأمل في أن تتفاقم الأزمة الاقتصادية الإيرانية لتُفضي إلى انهيار تام، أصبحت تكتيكات الضغوط القصوى تبدو وكأنها تجني مكاسب هامشية فقط.
في حين تقلص الاقتصاد الإيراني بنسبة 7٪ في عام 1398 حسب التقويم الإيراني (من مارس/آذار 2019 إلى مارس/آذار 2020)، معلناً بذلك العام الثاني على التوالي من الركود الحاد، فإن هذا الانخفاض كان يعزى بشكل رئيسي لانخفاض صادرات النفط الإيرانية، وما تبعه من ركود في قطاع النفط الذي تقلص بنسبة 35٪. ولكن كانت الصورة أكثر إيجابية بشكل كبير في القطاعات الاقتصادية غير النفطية التي تم تجاهلها إلى حد كبير. وفي حين واجهت قطاعات مثل الزراعة، والصناعة، والخدمات إعادة هيكلة صعبة بعد العقوبات الثانوية، كشفت البيانات الصادرة عن مركز إيران الإحصائي عن مرونة مفاجئة في العام الماضي، بمعدل نمو 3٪ و0٪ و-2٪ على التوالي، وهي صورة أقل درامية مما قد يوحيه معدل النمو السلبي للاقتصاد ككل.
ولعل أكثر ما يلفت الانتباه أنه بحلول الربع الأخير من العام، عاد قطاع التصنيع في إيران إلى النمو، وارتفع بنسبة 2.4٪. كما ساعد قطاع التصنيع، الذي يوظف أقل بقليل من ثلث القوى العاملة الإيرانية، البالغة حوالي 24 مليون نسمة، على إبقاء إيران منخرطة في الاقتصاد العالمي، بالرغم مما سببته العقوبات من عزل لإيران عن أسواق النفط العالمية. وضرب فيروس كورونا إيران، ما أدى إلى ما يقارب 9000 وفاة مؤكدة، وإخراج عجلة الانتعاش الاقتصادي للبلاد عن مسارها، حيث فرضت السلطات إغلاقًا على مستوى البلاد. لقد اختارت الحكومة الإيرانية، مثل العديد من دول العالم، إعطاء الأولوية لازدهار البلاد الاقتصادي على حساب الصحة العامة. ويتم الآن إعادة فتح المصانع واستئناف التجارة، على الرغم من الخسائر البشرية، وبدأت آلة المرونة الاقتصادية في إيران بالدوران مرة أخرى.
كسبت إيران 41 مليار دولار من عائدات الصادرات غير النفطية من مارس/آذار 2019 إلى مارس/آذار 2020. وفي العام نفسه، بلغت صادرات النفط 9 مليارات دولار فقط، انخفاضاً من ذروة الصادرات التي بلغت 119 مليار دولار قبل بضع سنوات فقط. ويعزى حوالي نصف القيمة الإجمالية إلى السلع المصنعة. لقد أتاحت عائدات الصادرات غير النفطية الوقت لصناع السياسات الإيرانيين لكي يهندسوا تجديد ميزانيات البلاد والبنية الاقتصادية العامة للتقليل من الاعتماد على عائدات النفط، وهو هدف طويل الأجل.
قد لا يكون مستغرباً أن تطور إيران قطاعاً صناعياً قوياً، نظراً لكون البلاد تمتلك سوقاً محلياً يقدر بـ 80 مليون نسمة. ولكن ما يثير الاستغراب هو البعد الإقليمي القوي لنمو الصادرات الإيرانية غير النفطية، وما نتج عن ذلك من مرونة في اقتصاد البلاد.
في حين كانت الصين هي الوجهة الأولى لصادرات إيران غير النفطية من مارس/آذار 2019 إلى مارس/آذار 2020، وحققت إيران 9.5 مليار دولار من عائدات التصدير، فإن الوجهات الأربع الكبرى التالية تقع جميعًا بالقرب من إيران مباشرةً: العراق (9 مليارات دولار)، وتركيا (5 مليارات دولار)، والإمارات العربية المتحدة (4.5 مليار دولار)، وأفغانستان (2.3 مليار دولار).
بدأ النمو في التجارة الإقليمية بشكل جدي منذ عام 2008 قريباً، مدفوعًا بعدة عوامل. أولاً، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت إيران مرحلة من التصنيع المتقدم. أقامت الشركات الأوروبية مشاريع مشتركة في صناعات السيارات والصلب والسلع الاستهلاكية وغيرها. ومع تحسن جودة منتجات “صُنِع في إيران”، أصبحت السلع الإيرانية المصنعة قادرة على منافسة الواردات بشكل مباشر. ومع نمو حصة السوق المحلية، أصبح المصنعون الإيرانيون بحاجة للبحث عن أسواق جديدة للنمو.
بدأ هذا التحول في الوقت الذي تم فيه فرض عقوبات متعددة الأطراف لأول مرة على إيران في عام 2008، وتسارع مع فرض العقوبات المالية المشددة في عام 2012. وفي حين أدت العقوبات إلى تعقيد عملية التصنيع الإيرانية، كان هنالك بارقة أمل قوية. إن انخفاض قيمة الريَال الناجم عن عدم الاستقرار الاقتصادي، والضغوطات على عائدات إيران من العملات الأجنبية جعل السلع الإيرانية، التي تحسنت في جودتها، في متناول الأسواق الإقليمية. وحرصاً من المصنعين الإيرانيين على كسب المزيد من عائدات العملة الأجنبية لتعويض الارتفاع في تكلفة المواد الخام المستوردة وغيرها من المدخلات، فقد سعوا إلى توسيع صادراتهم.
ويعكس التركيز على الأسواق الإقليمية الحقيقة البسيطة للجغرافيا الإيرانية التي توفر للشركات سهولة الوصول إلى العديد من الأسواق الاستهلاكية الكبيرة، بالإضافة إلى حقيقة أن التجارة الإقليمية، ومع اعتمادها على قنوات لوجستية ومالية أسهل، كانت أكثر عزلة بسبب جهود إدارة الرئيس السابق باراك أوباما في استخدام العقوبات الثانوية لخنق الاقتصاد الإيراني. وفي حين تراجعت تجارة الحاويات مع أوروبا، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، وغيرها من الأسواق الرئيسية -كنتيجة لنجاح إدارة أوباما في تخفيض صادرات النفط الإيرانية، إضافة إلى الضغط المباشر على شركات النقل والبنوك– إلا أن التجارة الأكثر تفككًا في الشرق الأوسط ازدهرت عبر تسلل الشاحنات الصغيرة، والسفن الصغيرة، والبنوك الصغيرة من خلال شبكة العقوبات.
وينظر أنصار سياسة الضغوط القصوى إلى البعد الإقليمي للصادرات الإيرانية غير النفطية على أنه تحدٍّ، ويتضح ذلك من جهود إدارة ترامب التي بذلتها مؤخراً لاستهداف قطاع التصنيع الإيراني.
ولكن قد تكون التطورات في إيران بمثابة نموذج يحتذى به لأولئك الذين يسعون إلى سُبلٍ أفضل للنمو الاقتصادي المستقر في الشرق الأوسط، طالما أن إيران تمثل أول منتج رئيسي للنفط في الشرق الأوسط يتحول إلى الاعتماد الكلي على الصادرات غير النفطية. لقد فعلت إيران ذلك على مضض، وبتكلفة هائلة، ولكن على فرض أن الصادرات غير النفطية استمرت في المحافظة على الاقتصاد الإيراني، فإن هذا يمثل تحسناً جوهرياً في الاقتصاد السياسي للبلاد، يصاحبه نمو ناتج عن قطاعات الاقتصاد التي يتمتع فيها القطاع الخاص وملايين العمال ذوي الياقات الزرقاء بنفوذ أكبر.
وعلاوة على ذلك، تقدم التجارة الإقليمية لإيران وجيرانها حافزاً اقتصادياً قوياً للأمن الإقليمي لم يكن موجوداً من قبل. وبينما تتنافس دول الشرق الأوسط منذ عقود في أسواق النفط الدولية، وظهور ارتياح لرؤية عدم الاستقرار الذي قد يحد من إنتاج النفط والصادرات عبر حدودها من المنافسين في أوبك، قد يعني التحول الأخير نحو التجارة الإقليمية غير النفطية أن السعي لتحقيق الرخاء في المنطقة ينسجم كثيراً مع السعي لتحقيق السلام.
لذلك، ينبغي النظر إلى تحول إيران نحو التجارة الإقليمية على أنه فرصة لإعطاء دفعة جديدة نحو دبلوماسية اقتصادية في الشرق الأوسط، تصبح فيها حرية الملاحة والتنسيق التجاري وحتى الاستثمار عبر الحدود مجالات مهمة للحوار. حتى الآن، لم تتضافر جهود القوى الغربية من أجل دعم التنمية الاقتصادية في السياق الإقليمي، ولم تتجسد فوائد منع الصراع التي من المرجح أن توفرها هذه الجهود. والفرصة على الأبواب.