بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، سارع المسؤولون الأميركيون السابقون، بمن فيهم الرؤساء بيل كلينتون وباراك أوباما ودونالد ترامب، وغيرهم من السياسيين والمحللين الذين تعاملوا مع الرئيس فلاديمير بوتين وروسيا إلى إعادة كتابة، أو تنقيح، تاريخ علاقاتهم بروسيا ورئيسها، لتبرير مواقفهم وسياساتهم في ضوء الحقائق الشنيعة التي كشفها الغزو وردود الفعل الغربية والعالمية ضده. وكان من الطبيعي أن تكون مسألة توسيع حلف الناتو شرقا باتجاه الحدود الروسية، وهي العملية التي بدأت خلال ولاية الرئيس كلينتون عقب تفكك الامبراطورية السوفياتية، وعلاقة الرؤساء الأميركيين مع بوتين منذ تسلمه للسلطة في سنة 2000 في جوهر هذا السجال. وهناك حيثية هامة في هذا النقاش تتمحور حول ما إذا كان غزو أوكرانيا يعكس تصرف بوتين – المعزول والمتفرد بالسلطة – بشكل غير عقلاني، أم أنه تصرف هذه المرة، كما يتصرف دائماً، استنادا إلى معطيات واقعية، ووفقا لردود الفعل الغربية التي تعود عليها خلال وجوده الطويل في السلطة.
اللافت أن الرئيسين أوباما وترامب، على الرغم من الاختلاف العميق بينهما، ادعيا أنهما لم يترددا في اتخاذ مواقف قوية تجاه بوتين. أوباما قال انه حاول أن “يجّر” الدول الأوروبية ورائه لفرض عقوبات قوية ضد روسيا عقب غزوها الأول لأوكرانيا في 2014. بينما ادعى ترامب أن بوتين لم يكن ليتجرأ على غزو أوكرانيا مرة ثانية لو كان هو في البيت الأبيض. وحتى نائب ترامب، مايك بينس، ادعى أنه تصدى لبوتين ووقف في وجهه كند له.
طبعًا سجل هؤلاء يبين أنهم يبالغون قي سرديتهم للحقائق، ويعيدون كتابة التاريخ وكأنه رواية. ولكن قبل التطرق إلى محاولات الرؤساء الأميركيين انقاذ سمعتهم كقادة أخفقوا في ردع الرئيس الروسي أو ارغامه على دفع ثمن غال لانتهاكاته لسيادة جيرانه (جورجيا في 2008، وأوكرانيا في 2014 و2022، وتدخله العسكري لصالح نظام مستبد وفاسد في سوريا) أو لقمعه للحريات المدنية والسياسية في روسيا، دعونا نحسم مسألة سلوكه وما إذا كان عقلانيًا أو متهورًا.
يميل العديد من المحللين في الغرب إلى شرح شخصية بوتين وتسلطه من خلال الاشارة إلى خدمته وخبرته كعضو في جهاز الاستخبارات السوفياتي القديم الـ كي جي بي (KGB)، وخاصة خدمته في ألمانيا الشرقية خلال سقوط جدار برلين. وهذا صحيح جزئيًا، ولكن الأهم هو أن وصول بوتين إلى قمة السلطة في موسكو هو وصول ممثل القومية الروسية الشوفينية التي مثلها الطاغية ستالين في آخر سنواته (على الرغم من أن ستالين هو من أصل جورجي)، مع ما تمثله من عداء دفين للديموقراطية والحركات الشعبية، والاعتماد على الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية التي عرفها بوتين جيدا خلال حكم ليونيد بريجنيف ويوري أندروبوف. هذا النظام الجديد يهدف في الواقع إلى استعادة “عظمة” روسيا الأم القديمة، التي أسست الامبراطورية التي بني عليها لاحقًا الاتحاد السوفياتي. وهذا ما يفسر، جزئيًا على الأقل، هاجس بوتين باستعادة سيطرة موسكو التاريخية والسياسية والثقافية على أوكرانيا وروسيا البيضاء، بسبب اغلبيتها السلافية “البيضاء” أثنيًا والأرثوذوكسية دينيا.
إن ما ارتكبه بوتين من فظائع عسكرية وانتهاكات لحقوق الانسان، بدءًا من قمعه الدموي وبطشه الرهيب بالمتمردين الشيشان فور استلامه للسلطة، أقنعه ان الغرب يمكن أن يحتج لفظيا، أو أن يتخذ بعض الاجراءات العقابية غير المؤلمة أو المؤقتة أو المترددة، وأن هذا الغرب الذي يحتاج إلى مصادر الطاقة الروسية من غاز ونفط، وخاصة دول أوروبا الغربية، لن يعاقبه أو يتصدى له بشكل جدي أو أن يهدد سلطته بشكل عملي. الدول الغربية بمن فيها الولايات المتحدة لم تحتج جديًا على الحرب الوحشية التي شنها بوتين ضد الشيشان باسم محاربة الارهابيين الاسلاميين، في الوقت الذي كان فيه الغرب مشغولًا بحربه ضد الارهابيين الاسلاميين في أفغانستان، ولاحقًا في العراق وغيرها من الدول.
الغزو الروسي لجورجيا في 2008، واجهه الغرب باحتجاجات لفظية وسياسية، ولكن موسكو لم تواجه عقوبات اقتصادية مؤلمة، ولم ترغب إدارة الرئيس بوش الابن في أيامها الأخيرة بتحدي بوتين وأطماعه في جورجيا، على الرغم من أن واشنطن كانت قد أظهرت تعاطفها العلني والمبدأي مع انضمام جورجيا وأوكرانيا لاحقًا إلى حلف الناتو. الأميركيون تذرعوا أيضا بانشغالهم في حربي العراق وافغانستان لتبرير عدم تحديهم لبوتين.
قبل أيام نشر الرئيس كلينتون مقالًا في مجلة ذي أتلانتك بعنوان “لقد حاولت أن أضع روسيا على مسار آخر”. ويبرر كلينتون سياسته بتوسيع حلف الناتو، وضم دول، مثل بولندا وهنغاريا وتشيكيا، إلى الحلف في 1999 “على الرغم من المعارضة الروسية”. لاحقًا، انضمت 11 دولة أخرى إلى الحلف، مع استمرار المعارضة الروسية. اللافت أن كلينتون نفسه يشير إلى المعارضة القوية لتوسيع الناتو في أوساط المحللين والسياسيين الأميركيين، وكان من أبرزهم الديبلوماسي والمحلل الشهير جورج كينين مهندس “سياسة احتواء” الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، والذي رأى أنه بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، لم يعد هناك مبرر لوجود الناتو كحلف عسكري. ويشير كلينتون أيضا إلى معارضة المحلل توماس فريدمان، الذي قال أن توسيع الناتو يمثل إهانة لروسيا، وإلى قول الأكاديمي والخبير في الشؤون الروسية مايكل مانديلبوم أن توسيع الناتو لن يوسع رقعة الديموقراطية أو الرأسمالية.
ما لم يقله كلينتون هو أن المعارضة كانت أوسع. وشملت أعضاء ديموقراطيين في مجلس الشيوخ، من بينهم العضو البارز دانيال باتريك مونيهان، الذي قال “ليس لدينا فكرة عما نفعله”. الأمر اللافت أن وزير الدفاع في حكومة كلينتون، وليام بيري، كتب في مذكراته، أنه وصل إلى حافة الاستقالة بسبب تحفظه على سياسة توسيع حلف الناتو. وإذا كان توسيع الناتو، ليشمل دول مثل بولندا وتشيكيا وهنغاريا، ولاحقًا دول بحر البلطيق لاتفيا واستونيا وليثوانيا (وهي الدول الثلاثة التي ضمها الاتحاد السوفياتي بالقوة في سنة 1940)، أمرًا مبررًا، فإن التلويح بانضمام جورجيا وأوكرانيا لم يكن حكيمًا بالضرورة، خاصة وأن العديد من المحللين والسياسيين كانوا يدعون إلى تحضير هذه الدول للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أولًا أو كبديل عن انضمامها إلى الناتو.
الرئيس كلينتون لم يتطرق إلى أن صيانة حلف الناتو لاحقاً أصبحت هدفًا بحد ذاته، وأن الحلف لم يتوسع جغرافيًا فحسب، بل توسع لجهة مهامه، وخاصة بعد دوره العسكري في حروب البلقان خلال ولاية كلينتون، ولاحقًا تدخل الحلف إلى جانب الولايات المتحدة في حرب افغانستان، وفي الانتفاضة الليبية التي أدت إلى اسقاط معمر القذافي، وحتى القيام بمهام عسكرية في المحيط الهندي وبحر العرب ضد أعمال القرصنة.
طبعا، كلينتون لم يتطرق إلى الاعتبارات الانتخابية في سياق توسيع الناتو، حيث كان هناك رأي في البيت الأبيض يقول أن التجديد لولاية ثانية للرئيس كلينتون في الانتخابات الرئاسية سنة 1996، سوف يجد صدى إيجابيا في أوساط الجاليات البولندية-الأميركية، والهنغارية الأميركية والمتحدرين من دول بحر البلطيق إذا استمرت عملية توسيع الناتو شرقا.
من جهته قال الرئيس الأسبق أوباما في خطاب ألقاه في الأسبوع الماضي في مدينة شيكاغو أنه يشعر بالارتياح لردود فعل الدول الأوروبية هذه المرة ضد الغزو الروسي لأوكرانيا “لأنني وجدت نفسي في 2014 أحاول أن أجرهم وهم يصرخون ويلبطون للرد بالطرق التي كنا نرغب بها من أولئك الذين يصفون أنفسهم بالديموقراطيات الغربية”.
وعلى الرغم من تجاربه المرّة مع بوتين (غزوه الأول لأوكرانيا في 201،4 وتدخله العسكري في سوريا في 2015، وتدخله في الانتخابات الرئاسية الأميركية ضد المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون في 2016)، تحدث أوباما بسذاجة وغرابة عن بوتين، حين قال “لا أعرف إذا كان الشخص الذي عرفته، هو الشخص ذاته الذي يقود هذا الهجوم. هو دائما كان قاسيًا، وشهدتم ما فعله في الشيشان، وهو لم يتردد في تدمير من يعتبرهم خطرًا عليه، هذا ليس جديدًا. ولكن أن يجازف بكل شيء، فأنا لم أكن أتوقع بأن يفعل ذلك قبل خمس سنوات”.
ولكن سجل أوباما بعد غزو 2014 يبين أنه لم يفرض تلك العقوبات التي يمكن أن تردع أو تضر بوتين بشكل جذري أو مؤلم. العقوبات كانت ضعيفة ومحدودة، وإدارة أوباما حتى رفضت توفير الأسلحة الدفاعية لأوكرانيا، مثل بيعها صواريخ مضادة للدروع من طراز جافلين، وهي الصواريخ التي توفرها بالآلاف الآن واشنطن وحلفائها الأوروبيين للجيش الأوكراني منذ بدء الغزو الروسي الثاني. احتلال روسيا وضمها لشبه جزيرة القرم، وخلق حركة انفصالية في شرق أوكرانيا، لم يمنع إدارة أوباما من التعاون مع روسيا في المفاوضات التي أدت إلى الاتفاق النووي مع إيران في 2015. كما أن أوباما لم يعترض بقوة، أو بشكل جدي، على قرار مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل بناء خط أنابيب الغاز المعروف باسم نورد ستريم-2 لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا.
(بعض المحللين يقولون أن تراجع أوباما عن تهديده بضرب النظام السوري إذا استخدم الأسلحة النووية ضد شعبه في 2013 قبل دقائق من بدء الغارات العقابية، كان من بين الأسباب التي شجعت بوتين على غزو أوكرانيا في السنة التالية).
خلال الحملة الانتخابات الرئاسية في 2012، قال مرشح الحزب الجمهوري آنذاك مت رومني أنه يعتقد أن روسيا تمثل الخطر الجيو-سياسي الأكبر على الولايات المتحدة. الرئيس أوباما سخر من رومني، وذّكره بأن الحرب الباردة قد انتهت منذ أكثر من 20 سنة. لاحقًا، كرر جوزيف بايدن، نائب أوباما، الموقف ذاته.
خلال حقبة الحرب الباردة كانت الحكومات الأميركية المتعاقبة من جمهورية وديموقراطية تنتقد بشدة انتهاكات موسكو لحقوق الانسان، وخاصة اضطهادها القاسي للمفكرين والكتاب والفنانين والصحفيين واستخدام العنف، بما في ذلك تسميم المعارضين أو اغتيالهم. ولكن هذه الانتقادات انحسرت خلال حقبة بوتين، على الرغم من قمعه السافر للإصلاحيين والمدافعين عن حقوق الانسان. هذا التقاعس يشمل الرؤساء كلينتون وبوش الابن وأوباما وترامب. سياسات وانتهاكات بوتين لم تمنع أوباما من إيفاد وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون في 2009 إلى جنيف للاجتماع بنظيرها الروسي سيرغي لافروف “لإعادة ارساء” العلاقات الثنائية. في هذا السياق يجب أن نذكر أن انتقادات هيلاري كلينتون العلنية في 2011 لبوتين بأنه زوّر الانتخابات البرلمانية، كانت السبب الرئيسي الذي دفعه للتدخل في الانتخابات الأميركية في 2016. بعد الاحتجاجات الروسية على الانتخابات، هاجم بوتين الوزيرة كلينتون بعنف، واتهمها بإعطاء “الإشارة” للمتظاهرين بالتحرك ضده.
فور بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، سارع الرئيس السابق دونالد ترامب إلى وصف بوتين “بالعبقري”، ورأى أن الغزو يعكس “دهاء” الرئيس الروسي، وكرر مطالبة بوتين، علنًا ودون خجل، بالكشف عن معلومات محرجة قد تكون متوفرة لديه حول الرئيس بايدن وعائلته. وادعى ترامب أن بوتين لم يكن ليغزو أوكرانيا لو كان في البيت الأبيض بدلًا من بايدن. وسارع ترامب إلى إعادة كتابة التاريخ كرواية خيالية حين قال أنه لو لم يضغط على دول الناتو لزيادة ميزانياتها العسكرية لما كان هناك حلف اسمه الناتو اليوم، متناسيًا أنه أراد الانسحاب من الحلف لو لم يجد معارضة شاملة من المسؤولين في الأجهزة الأميركية. وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد نسبت إلى مسؤولين أميركيين في 2018 قولهم أن ترامب هدد أكثر من مرة بسحب الولايات المتحدة من الناتو. وحول أكاذيب ترامب بأنه سلّح أوكرانيا، فهو يتناسى أن السبب الثاني لمحاكمته كان محاولته ابتزاز الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي من خلال تعليق شحنات الأسلحة لأوكرانيا إذا لم يساعده في الكشف عن معلومات محرجة حول نجل الرئيس بايدن، الذي كان عضوًا في مجلس إدارة شركة أوكرانية.
وحول ادعاءات ترامب أنه فرض عقوبات ضد روسيا خلال ولايته، فإنه يتناسى أن هذه العقوبات فرضها الكونغرس، وأن ترامب كان يعارضها. مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، الذي خدم ترامب، قال إن الرئيس السابق بالكاد يعرف أين تقع أوكرانيا على الخريطة، وأنه سأل مرة مدير البيت الأبيض إذا كانت فنلندا جزءًا من روسيا. الأميركيون لم ينسوا أن ترامب وافق على نفي بوتين أنه تدخل في الانتخابات الأميركية، مناقضا بذلك، وبشكل علني، تقويم الاستخبارات الأميركية للدور الروسي خلال مؤتمره الصحفي الغريب بعد نهاية قمة هلسينكي. ترامب كان يعّبر دائما عن رغبته بإعادة روسيا إلى مجموعة الدول الصناعية، بعد طردها من هذه المجموعة عقب غزوها الأول لأوكرانيا.
ردود فعل الولايات المتحدة وحلفائها القوية هذه المرة ضد الغزو الأوكراني فاجأت بوتين بالفعل، وهو الذي توقع حدوث شروخًا في جبهة الناتو، ولم يكن يتوقع أن تكون العقوبات الاقتصادية والمالية جذرية وغير مسبوقة، بما في ذلك عقوبات من دولة مثل ألمانيا كانت معروفة بترددها في مواجهة موسكو. أيضا بوتين فوجئ بسرعة الناتو في تسليح أوكرانيا، وطبيعة وحجم الأسلحة التي تصلها باستمرار. ولكن غزو بوتين الثاني لأوكرانيا لم يكن عملًا متهورًا أو مجنونًا من منظوره ومن خبرته السابقة وتعامله مع القادة الغربيين. هذا السجل الأميركي–الغربي الضعيف تجاه انتهاكات بوتين الخارجية والداخلية عبر السنين، والذي كان يفسره بوتين، وكأنه ضوء أصفر، هو من بين الأسباب الرئيسية التي جعلته يزج بروسيا وأوكرانيا والعالم في حرب كارثية نعرف كيف بدأت، ولكننا لا نعرف كيف ستنتهي أو ما هي كلفتها البشرية والمادية.