مرة أخرى أظهرت مجموعة من التطورات الإقليمية في الأسابيع الأخيرة أن القوى المناوئة للهيمنة الإيرانية في شرق المتوسط والعراق واليمن لا تملك تصورا واضحا أو عمليا لصد وردع التقدم السياسي والعسكري الذي حققته إيران مباشرة أو عبر وكلائها في المنطقة. فلنراجع هذه التطورات:
أولا- الأزمة الأخيرة التي انفجرت بين السعودية ولبنان عقب الظروف الغريبة والمحرجة للبنان التي أحاطت باستقالة رئيس الوزراء سعد الحريري من السعودية، وعاد إلى بيروت بعد أكثر من أسبوعين من الطيران من محطة إلى أخرى ليعلقها، بانتظار جهود الوساطة وحوار داخلي لتغيير المعادلة السياسية الراهنة لتقييد دور حزب الله العسكري لصالح إيران في المنطقة. ميزان القوى في لبنان قبل استقالة الحريري، لا يزال نفسه بعد تعليقه للاستقالة.
ثانيا- المعنى الرمزي والاستراتيجي للصاروخ الحوثي-الإيراني الذي أطلق من اليمن ضد الرياض.
ثالثا- الانجازات الميدانية التي حققتها إيران وحلفائها في سوريا، وخاصة في البوكمال وغيرها من المناطق في شرق البلاد، والتي أعقبت الدور العسكري البارز لقوات الحشد الشعبي في العراق التي تسيطر عليها قيادات موالية لإيران، في هزيمة قوات البيشمركة الكردية وإخراجها من مدينة كركوك المحورية.
رابعا- المؤتمر الذي نظمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في منتجع سوتشي على البحر الأسود وشارك فيه الرئيسان الإيراني حسن روحاني والتركي رجب طيب أردوغان، والهادف إلى صياغة وتقرير مستقبل سوريا، بعد أن استعاد نظام الأسد بدعم من إيران وروسيا السيطرة على معظم المناطق والمدن الهامة في سوريا.
الائتلاف الهش
أي مراجعة نقدية وصريحة لهذه التطورات تبين بشكل لا لبس فيه أنه إذا أراد الائتلاف غير الرسمي الهش المناوئ لإيران والمؤلف من الولايات المتحدة والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وإلى حد أقل من دول عربية أخرى (والذي يرى العديد من المحللين في المنطقة والغرب أنه يضم اسرائيل ايضا) ردع إيران ووقف تقدمها الميداني والسياسي، فإنه أخفق في ذلك. من الواضح الآن، أن التصدي للسياسات العدائية الإيرانية الإقليمية، والأهم من ذلك تقويض الإنجازات الميدانية التي حققتها في الأسابيع والأشهر الماضية في العراق وسوريا، يتطلب تطوير استراتيجية شاملة، سياسية وعسكرية واقتصادية تقودها الولايات المتحدة بحيث يتم عبرها تنسيق المواقف والنشاطات على صعيد المنطقة بأكملها، وفق تصور بعيد المدى يتم فيه توفير الدعم الميداني الحقيقي والثابت للقوى المناوئة لإيران في سوريا والعراق، وتوفير الغطاء السياسي والدعم المالي للقوى السياسية في العراق على سبيل المثال التي تريد اعتماد سياسات وطنية تمنع البلاد من الوقوع كليا في الفلك الإيراني.
ويرى العديد من المحللين والمسؤولين السابقين، أن تركيز الولايات المتحدة منذ سيطرة “الدولة الاسلامية” المفاجئة في صيف 2014 على مدينة الموصل ومناطق جغرافية واسعة في سوريا والعراق، على محاربة هذه الظاهرة الإرهابية المغالية في وحشيتها ودمويتها، جعلها تتغاضى عن خطورة تغلغل الأجهزة الإيرانية في المؤسسات العراقية والسورية، والدور المتنامي لإيران – السياسي والتجاري والثقافي والمذهبي- في مختلف أوجه الحياة في العراق وسوريا، وإلى حد أقل في لبنان، بحيث أصبح من الصعب جدا، إن لم نقل من المستحيل تفكيك هذا النفوذ الإيراني العميق في غياب قرار استراتيجي أمريكي- عربي بتشكيل ائتلاف حقيقي مضاد لسياسات إيران التوسعية على مختلف المستويات والأصعدة.
النفوذ الإيراني من آسيا الوسطى إلى شرق المتوسط
منذ سنوات ويتحدث مسؤولون ومحللون عرب وأمريكيون عن مخاوفهم من احتمال نجاح إيران بخلق “هلال شيعي” من العراق إلى المتوسط، أو “جسر شيعي” من إيران إلى لبنان. صحيح أن هيمنة إيران على العراق، ليست شبه كاملة كما هي هيمنتها على سوريا، إلا أنه ليس من المبالغة القول إن الإنجازات الميدانية الإيرانية في هذين البلدين، والهيمنة المتصاعدة لحزب الله وحلفائه على القرار السياسي في لبنان – وهناك قلق حقيقي في الكونغرس الأمريكي من التعاون الميداني والاستخباراتي المتزايد بين الجيش اللبناني وحزب الله- قد خلقت عمليا مثل هذا الجسر “الشيعي” بين إيران ولبنان، وإن كان هذا الوصف المذهبي السافر لا يطلق عليه، بل يطلق عليه وصف سياسي أنظف وأقل احراجا، مثل محور الممانعة أو المقاومة الموجهة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل. وبعد 17 سنة من انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، تقوم إيران باستخدام فيلقها الخارجي أي حزب الله في حروبها الإقليمية التي تخدم المصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية للدولة الإيرانية، التي تستخدم القناع المذهبي والخطاب الديني وما يسمى المظلومية التاريخية لتجنيد المقاتلين بعد تأجيج المشاعر المذهبية في نفوسهم، وتضليلهم وإقناعهم بأنهم يناضلون لحماية مقدساتهم وجوهر مذهبهم، وأن صراعهم مع أعدائهم هو صراع وجودي لا مجال فيه للتسويات بل للانتصار أو الشهادة. بعد 17 سنة على نجاح حزب الله في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وهو انجاز تاريخي بالفعل بغض النظر عن كيفية توظيف حزب الله لهذا الانتصار سياسيا وعسكريا داخل لبنان وفي المنطقة، يبدو أن قيادة الحزب تتصرف على أساس أن “التحرير” المفترض للقدس يجب ان يمر أولا عبر بغداد ودمشق وربما صنعاء. إيران التي يغطي نفوذها مناطق الخليج والقوقاز وآسيا الوسطى، تريد أن تصبح عمليا وللمرة الأولى منذ الحروب الفارسية- الإغريقية قبل 2500 سنة دولة ذات نفوذ في شرق المتوسط .
الحقيقة المرّة في حروب الوكالة التي تشنها إيران هي أنها الدولة الوحيدة بين جميع دول المنطقة القادرة على استخدام مقاتلين عرب يعملون لمصلحتها لقتال خصومها العرب، وبفظاظة أكثر: إيران تستخدم الشيعة العرب في حروبها مع السنّة العرب، وإن كانت الحرب المذهبية الظاهرية، هي في الأساس نزاعات على النفوذ السياسي والمصالح الاقتصادية.
العداء المشترك ليس كافيا لاستراتيجية مشتركة
العداء المشترك بين بعض الدول الخليجية والولايات المتحدة وإسرائيل للسياسات الإيرانية السلبية ليس كافيا لتشكيل إستراتيجية فعالة لمواجهة هذا الخطر. ولكل الدول المعنية بمضاعفات سياسات إيران أولويات مختلفة، واستعدادات مختلفة لتحمل عبء أي مواجهة جدية – عسكرية تحديدا- إن كان ضد إيران مباشرة أم ضد وكلائها. ولن يقوم أي طرف لوحده بالدخول في مواجهة مفتوحة مع إيران وفيالقها في المنطقة لصالح طرف آخر. وحتى الآن، وبعد سنة على انتخابه لم يطرح الرئيس دونالد ترامب وإدارته تصورا متكاملا أو خطة شاملة وقابلة للتطبيق تتصدى لحروب إيران الإقليمية وتحافظ أو تطور أكثر القيود المفروضة على برنامجها النووي. الرئيس ترامب، قبل وبعد انتخابه يركز انتقاداته على الاتفاق النووي مع إيران، أكثر مما يركز على نفوذها التخريبي في المنطقة بما في ذلك العراق، الدولة التي استثمرت فيها الولايات المتحدة منذ غزو 2003 أكثر من تريليون دولار وتكبدت خسائر بشرية كبيرة، وسقط فيها خسائر عراقية أكبر. الرئيس ترامب قرر عدم التصديق على التزام إيران بتطبيق الاتفاق النووي، ولكنه لم ينسحب، وليس من المتوقع أن ينسحب منه. ولكن ضرر إيران، وما يشكو منه حلفاء أمريكا من عرب وأكراد هو التدخل الإيراني السافر في شؤونهم الداخلية. (مخاوف إسرائيل من إيران، نووية بالدرجة الأولى).
تركيز الرئيس الأمريكي على البرنامج النووي الإيراني، وتركيز القيادة العسكرية على إلحاق هزيمة ساحقة بتنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا والعراق، أدى إلى علاقة غريبة وتعاون غير مباشر بين سلاح الجو الأمريكي الذي كان يقصف مواقع “الدولة الاسلامية” إن كان في الموصل العراقية أو الرقة السورية وغيرها، ويسهل عمليا نشاطات وعمليات الميليشيات الشيعية، إن كان اسمها قوات الحشد الشعبي أم حزب الله. الرئيس ترامب الذي لم يؤيد التدخل العسكري الأمريكي الجدي في سوريا، ألغى برنامج المساعدات العسكرية الذي كانت توفره وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) لبعض فصائل المعارضة السورية. ولكن إذا كان ترامب يريد بالفعل التصدي لنفوذ إيران فعليه أن يتصدى له في سوريا والعراق، وتسليح وتدريب القوى المعارضة لنظام الأسد من غير التنظيمات الاسلامية المتطرفة، يجب أن يكون في طليعة أهداف الولايات المتحدة وحلفائها العرب. ولكن إنقاذ أو إحياء الفصائل السورية المعارضة أصبح هدفا مستحيلا اليوم، لان إدارتي الرئيسين أوباما وترامب اقنعتا نفسيهما بأسطورة عدم وجود حل عسكري للحرب أو الحروب السورية. وفي المقابل كان هناك موقف واضح وثابت ومشترك بين نظام الأسد وإيران وروسيا، وهو تحقيق انتصار عسكري حتى ولو لم يكن كاملا، بعد استعادة السيطرة على جميع المدن السورية الكبيرة ومناطق واسعة، وهي عملية تتم بشكل متزايد منذ التدخل الروسي العسكري في سبتمبر 2015. خلال إدارة الرئيس أوباما قادت الولايات المتحدة الجهود السلمية لوقف القتال والسعي إلى تسوية سلمية عبر ما سمي بعملية جنيف. الآن أصبحت روسيا الطرف الدولي الاساسي في سوريا. وهكذا دعا الرئيس بوتين إلى مؤتمر دولي حول سوريا، بعد أن أنهى قمة ثلاثية في منتجع سوتشي جمعته إلى الرئيسين التركي والإيراني، حيث بدأ القادة الثلاثة في غياب الولايات المتحدة والدول العربية في رسم وصياغة مستقبل سوريا. وليس من المبالغة القول إن هناك تسليم أمريكي (بدأ خلال حقبة الرئيس أوباما) بمركزية الدور الروسي في سوريا، وهو دور تدعمه إيران.
غياب التصور الأمريكي الواضح لمواجهة إيران إقليميا، يفسر إشكالية تعامل واشنطن المحير مع مسألة الاستفتاء الكردي في العراق. إساءة واشنطن لإدارة هذه الأزمة وفر لإيران فرصة تاريخية لاستخدام قوات الحشد الشعبي لاحتلال كركوك. صحيح إن القيادة الكردية أساءت تقديرها لموقف واشنطن وغيرها من العواصم التي يفترض أن تكون صديقة للأكراد. ولكن هذا لا يعفي الدبلوماسية الأمريكية من النقد، لأنه كان باستطاعة وزير الخارجية ريكس تيلرسون التدخل شخصيا لتفادي المواجهة، ولكن تيلرسون ارتأى الاكتفاء بإصدار بيان لاذع ضد الاستفتاء لم يتضمن حتى ولو إشارة عابرة إلى أن لواشنطن علاقات قديمة ومتينة مع الأكراد لن يقوضها خلاف حول الاستفتاء. هذا الموقف الأمريكي ساهم في تشجيع بغداد وإيران وتركيا على اضعاف أكراد العراق.
وكما أن إدارة الرئيس ترامب تفادت التدخل القوي لتعليق الاستفتاء الكردي مع إعطاء الأكراد ضمانات بالعودة إلى بحث مطالب الأكراد المشروعة بحق تقرير المصير، فإنها لم تصر على وساطة فعالة تقودها واشنطن وعلى أعلى المستويات لحل “الأزمة القطرية” التي عطلت مجلس التعاون الخليجي من العمل ككتلة سياسية-عسكرية في أي مواجهة جدية مع إيران؟ وحتى مضاعفات استقالة الحريري السلبية كان يمكن تفاديها، لو كانت هناك استراتيجية أمريكية شاملة في المنطقة لمواجهة إيران ووكلائها.
وحتى حرب اليمن المأساوية يمكن وضعها في هذا السياق. ويرى بعض المحللين والمسؤولين السابقين في واشنطن هو أنه لو كانت واشنطن تمارس دورها القيادي البارز خلال ولاية الرئيس السابق أوباما، لربما نجحت في التدخل الدبلوماسي الفعال الذي كان يمكن أن يقلص من فرص نشوب حرب مكلفة في اليمن. الدفاعات الصاروخية في السعودية نجحت في تدمير الصاروخ الذي استهدف الرياض، ولكن المعنى الرمزي للصاروخ كان أهم من أي ضرر مادي كان يمكن أن يحدثه. إيران تعتمد سياسات واضحة لخدمة مصالحها الإقليمية وهي مستعدة لتصعيد إضافي، ولكن الائتلاف الهش المناهض لسياساتها السلبية وهيمنتها، لا يزال يبحث عن استراتيجية فعالة لمواجهتها.