شكّلت الهجمات التي استهدفت محطة معالجة النفط السعودية في بقيق وحقل النفط في خريص في 14 أيلول/ سبتمبر تصعيدًا جديدًا كبيرًا في التوتّرات بين إيران وحلفائها الإقليميين من جهة وشركاء الولايات المتحدة العرب في الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية من جهة أخرى. وتمثل هذه الضربات التي خفّضت إنتاج النفط السعودي بمقدار يصل حتى النصف تحديًا هامًا وفرصة كبيرة في التعامل مع إيران. ولكنّ الأهم من ذلك أنّها تمثل فرصةً لرأب الانقسامات الكبيرة في المجتمع الدولي في ما خص نُهج التعامل مع طهران ولتشكيل جبهة دولية موحدة ضد حملتها المستمرة من الاستفزازات والتخريب وزعزعة الاستقرار.
تبنّى المتمردون الحوثيون في اليمن الهجمات بُعيد وقوعها. وشنّ الحوثيون هجمات كثيرة في السابق بالطائرات بدون طيار أو بالصواريخ ضد المملكة العربية السعودية التي شاركت في الحرب في اليمن بالنيابة عن الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا. إلاّ أنّه سرعان ما باتت هذه الادعاءات موضع تشكيك لأنّ هذه الهجمات تعني توسّعا كبيرًا في نطاق أنشطة الحوثيين وتطوّرها. لم تكن هجماتهم الصاروخية فعالةً قط في السابق وغالبًا ما اعترضتها منظومات الدفاع الصاروخية السعودية فوقعت على مسافة قريبة جدًا من الحدود اليمنية السعودية. ويشكّل تحوّل الضربات الحوثية في المملكة العربية السعودية من مجرد ضربات رمزية وغير فعالة إلى ضربات مدمّرة ومخلّة بالأمن الدولي قفزةً نوعيةً فجائية وغير مرجّحة.
سرعان ما بدأ المسؤولون الأمريكيون بإلقاء ظلال الشك على هذه القصة، وبحلول اليوم التالي، راحوا يلقون باللوم على إيران. ولاحظوا أنّ 17 نقطة تصادم انطلقت من الشمال والشمال الغربي، ما يشير إلى أنّ الصواريخ انطلقت من إيران أو العراق، وليس من اليمن. وأخبروا الصحفيين أنّ الهجمات لم تُنفَّذ بطائرات بدون طيار فحسب وفق ما أفادت به التقارير في بادئ الأمر، بل تضمنت أيضًا صواريخ جوالةً كثيرة ومستوى تنسيق يُعتقد بشكل عام أنّه يفوق قدرة الحوثيين. وألقى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو باللوم على إيران من دون أن يقدّم أي أدلة محددة. ولكن في 16 أيلول/ سبتمبر، أفادت المملكة العربية السعودية عن استخدام أسلحة إيرانية في الهجوم الذي أصرّت على أنّها لم ينطلق من اليمن.
وتزداد المصادر الحكومية الأمريكية التي تقول إنّ الهجمات انطلقت من إيران نفسها، مع أنّ بيان السعودية يصرّ على إمكانية أن تكون من تنفيذ جماعات ميليشياوية موالية لإيران في العراق، وهذا الأمر تنفيه الحكومة العراقية بشدة. ولكن، حتى ولو انطلقت الهجمات من العراق، لا بد من إلقاء اللوم على إيران لا سواها لأنّ الميليشيات الموالية لإيران في العراق تعمل بشكل وثيق جدًا مع الحرس الثوري الإيراني إلى درجة أنّه يمكن اعتبار طهران المسؤول المباشر في الأحوال كافة. وحتى تبنّي الحوثيين لمسؤوليتها الذي يجري تجاهله أكثر فأكثر لا يعفي إيران من الشكوك القوية بذنبها بتوفير العتاد والتدريب وربّما أيضًا من تشكيل مصدر إلهام لاختيار التوقيت المناسب للهجمات. ومن الصعب جدًا عدم اعتبار هذه الهجمات من أحدث مراحل سلسلة استفزازات إيرانية منسقة بعناية تزداد حدتها تدريجيًا، هذا إلى جانب استيلائها على سفينة تجارية أخرى في مياه الخليج وتزايد احتجاز أفراد من الغربيين.
ويشير السياق السياسي إلى أنّ هذه الهجمات تندرج تمامًا ضمن إطار المرحلة التالية من مراحل استراتيجية إيران الرامية إلى تنفيذ سياسة “المقاومة القصوى” بهدف محاولة التحرّر من القيود التي فرضها عليها نظام عقوبات واشنطن في حملته لممارسة “الضغوط القصوى”. وكانت إيران تحاول في المقام الأول استخدام سلسلة مدروسة من الاستفزازات والأعمال العسكرية المنخفضة الحدة لإقناع أطراف خارجية متعددة أو إكراهها على الضغط على الولايات المتحدة لتخفيف العقوبات – ومنها أطراف أوروبية ودول عربية وقوى آسيوية. إلاّ أنّ هذه الحملة لم تنجح حتى الآن في تخفيف العقوبات، لذا كان من المتوقع أن يحدث تصعيد آخر، علمًا أنّ هذه الهجمات التي حصلت مؤخرًا على المملكة العربية السعودية تشكل تصعيدًا لافتًا في حملة التهوّر الاستراتيجي التي تقودها طهران.
وإلى جانب الشعور بالحاجة إلى التصعيد من أجل الحفاظ على الضغوط أو حتى زيادتها على الأطراف الخارجية، وبشكل غير مباشر على واشنطن، فسّرت إيران ربما سلسلةً من المستجدات الأخيرة على أنّها دلالة أنّ الزخم يلعب لصالحها. ويتمثّل التطور الأول على الأرجح بالتصريحات المتكررة التي أطلقها مسؤولون في الإدارة الأمريكية بأنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يزال مهتمًا بالاجتماع مع المسؤولين الإيرانيين، ربما على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة المرتقب في نيويورك، وبالأخص التقارير التي تفيد بأنّه ربما يفكّر في تخفيف بعض العقوبات أو تعليقها لتسهيل هذا اللقاء. وقد يتمثّل التطور الثاني بالجهود التي تبذلها فرنسا للتوسّط من أجل فتح قنوات حوار جديدة بين الجانبين الإيراني والأمريكي. أما الثالث فيكمن ربما في الجهود الديبلوماسية التي قادتها دولة الإمارات العربية المتحدة في الآونة الأخيرة لتخفيف حدة التوتر مع إيران. وقد يكون العامل الرابع الشائعات بأن المملكة العربية السعودية أصابها التوتر هي أيضًا بشأن توجّهات الاستراتيجية الأمريكية المتعلقة بإيران.
وأخيرًا، فسّرت طهران ربما مغادرة مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون منصبه على أنّها بشرى خير. فمنذ بداية حملة “المقاومة القصوى”، سعت إيران إلى الإيقاع بين ترامب وبولتون الذي اعتبرته متشددًا للغاية والمناصر الأول لتهديد عسكري كبير لها. وأظهرت حسابات طهران أنّ ترامب سيسعى في نهاية المطاف إلى تجنب المواجهة العسكرية، وبخاصةٍ قبل الانتخابات التالية، وأنّ ذلك يعطي إيران نفوذًا كبيرًا في علاقاتها مع واشنطن والذي يستخدمه النظام الإيراني ليثبت عدم جدية تهديدات الرئيس الأمريكي من خلال ممارسته استفزازات مدروسةً.
لذا، مع إشارة ترامب إلى انفتاح ديبلوماسي وتلميحه بتخفيف العقوبات، ومع تحول انتخابات عام 2020 إلى عامل هام في عملية صنع القرار الأمريكية ومغادرة بولتون الإدارة الأمريكية بسبب خلافات تشمل السياسة تجاه إيران، ربما استخلصت طهران أنّ الوقت الحالي يشكّل الفرصة الأفضل لتختبر من جديد عزم إدارة ترامب على تجنب العمل العسكري. ومن المحتمل أن طهران تسعى أيضًا إلى ممارسة نفوذ إضافي بانتظار إجراء محادثات مع واشنطن عاجلًا وليس آجلًا بما أنّ الإدارة الأمريكية تبدو منفتحةً تجاه طهران ولا يمكن لهذه الأخيرة أن تواصل معارضة الحوار إلى الأبد إذا واصلت “مقاومتها القصوى” فشلها في تخفيف كبير للعقوبات.
وسواء كانت هذه هي حسابات إيران بالتحديد أم لا، يبدو من شبه المؤكد أنها هي المسؤولة عن هذه الهجمات. ولا تُخطئ طهران في الاعتقاد أن خصومها لا يريدون صراعًا، فمن الواضح أنّ ترامب يفضّل تجنب الصراع لأسباب سياسية. ومن الجدير بالذكر أنّ السعودية تجنّبت حتى الآن اتهام إيران على نحوٍ مباشر، تمامًا كما فعلت الإمارات في استفزازات سابقة، بينما تشير إلى أنّ هذا هو ما تشتبه به بشدة. وقال ترامب في تغريدةٍ على “تويتر” حول المسألة في 16 أيلول/ سبتمبر إنّ الجيش الأمريكي “جاهز ومزوّد بالذخيرة في انتظار التحقق” من هوية الجناة وأنّ واشنطن “في انتظار سماع رأي المملكة العربية السعودية حول من تسبّب بهذه الهجمات برأيها وبأي شروط علينا المضي قدمًا”. وفي حين أشار نقاد ترامب إلى أنّه كان يعبّر عن إذعانه للسلطة السعودية لا غير، تشير لهجته في الواقع إلى رسالة مختلفة للغاية، وهي أنّ الولايات المتحدة قد تكون مستعدةً لتنفيذ ضربة عسكرية أو استخدام القوة، إنما إذا أبدت السعودية استعدادها لتحمل المسؤولية عبر لوم إيران علنًا وعرض بعض الأدلة ذات الصلة ليس إلا.
وهذه هي المعضلة التي يتعيّن على الرياض حلّها في الوقت الحالي. إذ يتعيّن على المملكة العربية السعودية، تمامًا كما الولايات المتحدة، أن تدرك أن هذا الهجوم الوقح والمضرّ يمثل انهيارًا مُقلقًا لقوة الردع في منطقة الخليج – حتى وإن كان بالإمكان إصلاح المنشآت المتضررة في غضون أيام. ويبدو أنّ إيران تعتقد أنها تستطيع تنفيذ مثل هذا الهجوم العسكري الكبير على أبرز منشآت جارتها السعودية والإفلات من العقاب نسبيًا. لذا، على الرياض وواشنطن إيجاد طريقة لاستعادة قوة الردع أو المخاطرة بالتعرّض لهجمات إضافية وربما أسوأ في المستقبل القريب. ومع ذلك، كانت الرسائل التي وجّهتها إيران للسعودية واضحةً وهي “إذا تضررنا، سوف تتضررون أنتم أيضًا، ولدينا طيف واسع من القدرات والخيارات التي يمكننا تهديدكم بها إذا لزم الأمر”. لذا تحسب على ما يبدو السعودية حاليًا وبعناية تكاليف ومنافع اتهام طهران مباشرةً بالضلوع بالهجمات ومن ثم الاضطرار إما للتصرف بنفسها لاستعادة قوة ردعها أو مساعدة الولايات المتحدة في القيام بذلك، وتحمّل العواقب في الحالتين.
لكنّ الاستجابة العسكرية ليست الخيار الوحيد أو الطريقة الوحيدة لإعادة إحلال قوة الردع، مع أنّ الأمر قد يُعتبر ضروريًا في نهاية المطاف نظرًا إلى وقاحة الضربة. ومع ذلك، نظرًا إلى أنّ إيران تحاول حسبما يبدو التسبب بردّ مماثل، فإنّ أي ضربة انتقامية – وعلى الرغم من الضرر – قد تكون بمثابة اللعب في لعبة طهران وفقًا لشروطها وجدولها الزمني. وهنا يمكن اللجوء إلى رد بديل ومهم وهو بذل الجهود لاستخدام هذا الهجوم لعزل إيران على الصعيد الدولي ووصمها وتعزيز الشعور بأنها دولة مارقة وخطيرة يجدر كبحها عن طريق تحالف بلدان كثيرة. وقد تشكّل الجمعية العامة المرتقبة للأمم المتحدة الفرصة الأمثل لإثبات أنّ هذ الهجوم لم يستهدف المملكة العربية السعودية فحسب باعتبارها خصمًا إقليميًا لإيران وحليفًا للولايات المتحدة، بل استهدف كل سوق الطاقة الدولية أيضًا، وبالتالي الاقتصاد العالمي. ويُذكر أنّ أسعار النفط ارتفعت قليلًا نتيجة الهجمات، وذلك لأنّ المملكة العربية السعودية تدعي أنّه بإمكانها إصلاح الأضرار في غضون أيام ولأنّ ثمة وفرة نسبية من النفط في السوق ولأنّ الولايات المتحدة أطلقت احتياطيات استراتيجية لتعوّض عن النقص.
غير أنّ الرسالة الإيرانية الرمزية للهجوم – أي ادّعاءها المتكرر بأنّه “إذا لم نتمكن نحن من بيع نفطنا، لا يمكن لأحد بيع نفطه بسلام” – موجهة للمجتمع الدولي الذي يعتمد على وجود أسواق طاقة مستقرة وموثوقة وتعمل بشكل جيد. ولكي توضّح طهران وجهة نظرها بأنّها تسعي إلى تخفيف العقوبات المفروضة عليها وتعبّر عن استيائها من واشنطن والرياض، احتجزت جزءًا كبيرًا من سوق الطاقة الدولية رهينةً. وفي غضون ذلك، تواصل المشاركة في أعمال القرصنة في البحار واحتجاز مدنيين من الغرب وإصدار تهديدات خطيرة ودعم جماعات مصنفة بالإرهابية.
تأمل إيران على الأرجح التسبب برد عسكري، وبخاصةٍ إذا لم يكن مدروسًا بعناية، واعتُبر بالتالي رد فعل مفرط بدرجة كبيرة. لكنّ ما لا تأمله إيران من دون شك هو عزلها وإدانتها ووصمها بشكل منهجي من قبل المجتمع الدولي إذا ما اتّحد من جديد. وقد تكون أكثر الطرق فعالية لإحباط حملة إيران “للمقاومة القصوى” استخدام هذه الهجمات وغيرها لإقناع الدول الأوروبية وغيرها بأن تضع جانبًا استياءها من انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة حول أنشطة إيران النووية وشكوكها بشأن نوايا ترامب وصدقه وأن تنضم إلى الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين لإعادة الاستقرار والأمن إلى المنطقة عبر عزل طهران ومعاقبة سلوكها المسيء. ويمكن أن يبدأ ذلك بإصدار مجلس الأمن المتحدة قرار يدين أعمال إيران ضد المملكة العربية السعودية واستيلاءها على السفن البحرية التجارية واحتجازها لمواطنين من الغرب. وبدلًا من تخفيف الولايات المتحدة للعقوبات، قد تقتنع قوى دولية أخرى بإعادة فرضها على طهران إلى أنّ تكف هذه الأخيرة عن تصرفاتها. وقد تكون دول متعددة رفضت في السابق الانضمام إلى جهود بحرية بقيادة الولايات المتحدة لحماية الشحن البحري في الخليج مستعدةً الآن لتعيد التفكير في الأمر.
وفي النهاية، ليست المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وحدهما من عانى من انهيار الردع ضد إيران في هذه الحالة، فقد تضرر المجتمع الدولي والنظام العالمي أيضًا. لقد استهدفت الضربة منشأة نفط ذات أهمية عالمية بنيّة إلحاق الضرر ليس بالسعودية وحلفائها فحسب، بل بكل مستهلكي النفط حول العالم. وفي ضوء ذلك، وبخاصةٍ في ظل توفر أدلة قوية على أنّ الهجوم انطلق من العراق أو إيران وليس من اليمن، قد يرتد هذا الاستفزاز على إيران بنتائج عكسية وخيمة. وفي حين لا بد من استعادة قوة الردع بعد هجوم بهذا الحجم، يمكن تحقيق ذلك بفعالية من خلال التعاون الدولي بدلًا من العمل الأحادي الطرف.