ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
في أعقاب الهجوم الصاروخي الإيراني ضد إسرائيل في 13 من الشهر الجاري، والذي تم دحره بشكل شبه كامل، والرد الإسرائيلي الجوي المحدود في يوم 19 أبريل/نيسان ضد قاعدة عسكرية في محيط مدينة أصفهان، اقتربت منطقة الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 إلى الانزلاق في حرب إقليمية مكلفة بين أقوى قوتين عسكريتين في المنطقة، مع احتمال زج دول اقليمية وخارجية في نزاع كان يمكن أن يكون الأكثر دموية في التاريخ الحديث لهذه المنطقة. صحيح أن إيران وإسرائيل بعثتا بمختلف المؤشرات لأكثر من طرف في المنطقة وخارجها أنهما لا يسعيا إلى التورط في حرب شاملة، وأنهما صممتا الهجمات لبعث رسائل للطرف الأخر تقول نحن قادرون على الوصول إلى قلب بلدكم، فاتعظوا، ألا أن ذلك لا يغير حقيقة أن تاريخ النزاع الطويل بين البلدين، وحقيقة أن الخلافات الموضوعية بينهما عميقة جدا، وتضارب المصالح الاستراتيجية والسياسية بين بلدين لهما طموحات اقليمية كبيرة كلها عوامل تؤكد أن النجاح في احتواء صواريخ ومسيرات أبريل 2024 يعني فقط تأجيل الحرب بين إيران وإسرائيل، وليس القضاء على الأسباب التي يمكن أن تفجرها من جديد وعلى نطاق واسع في المستقبل.
قد تأتي الحرب المقبلة نتيجة خطأ في التقويم والحسابات كما جرى في هذا الشهر. وعندما شنت إسرائيل غارتها المفصلية في أول أبريل/نيسان ضد مبنى تابع للقنصلية الإيرانية في دمشق بسوريا، وقتلت سبعة مسؤولين بارزين في الحرس الثوري الإيراني، كانت تتوقع ألا تقوم إيران بالرد المباشر ضد إسرائيل من أراضيها. وإذا كان الماضي أي دليل، فإن طهران كانت إما لا ترد بسرعة على هذه الغارات، أو تقوم بالرد عبر وكلائها، أي بطرق غير مباشرة لتبعد عنها المسؤولية. حسابات إسرائيل بعد الغارة ضد دمشق كانت خاطئة، لأن إيران بعد أن رأت أن الهجوم غير اعتيادي، واستهدف أرضا إيرانية، مثل أي منشآه ديبلوماسية، قررت أن تصعّد من “حرب الظل” المستمرة منذ عقود بين البلدين، وأن تخرج إلى حرب العلن للمرة الاولى وبشكل مدوّي. وهكذا أطلقت أكثر من 300 صاروخ باليستي وكروز ومسيرات ضد إسرائيل. أرادت إيران بهذا الهجوم كسر أحد المحرمات التي كانت في صلب “حرب الظل” مع إسرائيل، وتعديل قوانين هذه اللعبة الخطيرة بينهما حين قررت شن هجومها الصاروخي من الأراضي الإيرانية.
ومنذ عقود تجري “حرب الظل” بين إيران وإسرائيل داخل البلدين، وضد مصالحهما في المنطقة وفي العالم. في هذه الحرب غير المعلنة يتم استخدام الأسلحة العادية والسيبرانية (الإلكترونية) ضد المنشآت النووية الإيرانية، (والتي شاركت فيها الولايات المتحدة في السابق)، واغتيال العلماء النوويين الإيرانيين، واعتراض السفن الإسرائيلية في المياه الاقليمية، وإطلاق الصواريخ والمسيرات من حلفاء إيران في لبنان واليمن ضد إسرائيل، ومهاجمة أهداف إسرائيلية في الخارج وغيرها. هذه الحرب السرية سمحت للبلدين بالإفلات من تحمل المسؤولية السياسية والقانونية لهذه الهجمات.
رأى معظم المحللين قيام إيران بإعلام دول حليفة للولايات المتحدة في المنطقة مثل تركيا وغيرها بأنها تعتزم مهاجمة أهداف عسكرية وليس مدنية في إسرائيل، وحمل هذه الرسالة للولايات المتحدة، وأن صواريخها ومسيراتها لم تصل إلى أهدافها، على أن هذا كان في صلب هدفها. ولكن لو كان ذلك صحيحاً، لما كانت إيران قد لجأت إلى مثل هذا الرد الصاروخي المكثف، ولكانت قد اكتفت بهجوم محدود لكي توضح لإسرائيل أنها مستعدة لمثل هذا التصعيد النوعي. إيران أرادت أن يتسبب ردها بإلحاق أضرار أكبر في القواعد العسكرية الإسرائيلية، التي انطلقت منها الطائرات التي قتلت المسؤولين الإيرانيين في دمشق، وأنها فوجئت بفشل 99 بالمئة من صواريخها التي سقطت قبل وصولها لأجواء إسرائيل (كما يدعي الجيش الإسرائيلي) لأسباب تقنية، أو لأن الولايات المتحدة أسقطت أقل من نصفها بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا والأردن. من جهة الرد الإيراني كان مكثفاً وصاخباً، وأظهر القدرات الصاروخية الإيرانية، وقدرة القيادة العسكرية على شنّ وتنسيق إطلاق مختلف أنواع الصواريخ والمسيرات، ولكنه أظهر أيضا محدودية هذا القدرات الصاروخية، وخاصة عندما تساهم الولايات المتحدة وحلفائها في الدفاع عن إسرائيل، وتوفير درع جوي إقليمي لها. هذه العوامل أحرجت إيران، وانعكس ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي حيث سخر الكثيرون من صواريخ إيران.
الرد الإسرائيلي كان حتمياً، وإن كان حجمه موضع نقاش، وخاصة بعد تدخل واشنطن وحلفائها الغربيين لإقناع الحكومة الإسرائيلية تفادي الرد، واعتبار الردع الناجح للهجوم الصاروخي الإيراني انتصاراً كافياً. الهجوم الإسرائيلي المحدود جدا، كان يهدف أيضاً لكسر بعض محرمات “حرب الظل” القديمة بين البلدين، وتذكير طهران بأن إسرائيل قادرة على الوصول إلى العمق الإيراني، حيث بنت إيران مفاعلها ومنشآتها النووية. أراد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، الذي تدهورت علاقاته مع الرئيس الأميركي بايدن وبعض قادة أوروبا بسبب الخسائر المدنية الفلسطينية الفادحة، الاستفادة من التعاطف الأميركي والأوروبي عقب الهجوم الإيراني، وهذا ساهم في قرار شن هجوم مضاد كبير، خاصة وأن الرئيس بايدن أوضح للإسرائيليين أن بلاده لن تتورط في أي حرب ضد إيران تبدأها إسرائيل.
المواجهة الصاروخية بين إيران وإسرائيل، أكدت بشكل لا لبس فيه صعود التيار السياسي المتشدد في النظام الإسلامي الإيراني والنفوذ المتزايد لقادة الحرس الثوري. كما أكد أيضا استعداد التيار المتشدد والعنصري في الحكومة الإسرائيلية للتصعيد ضد أي خصم إقليمي لإسرائيل.
وأبرز ما أكدته هذه المواجهة الأخيرة هو الأهمية المركزية والاستراتيجية والسياسية للولايات المتحدة في المنطقة. عندما قررت إدارة الرئيس بايدن الضغط على إسرائيل في أعقاب قتلها عمال الإغاثة الدوليين التابعين لمنظمة وورلد سنترال كيتشن، فإنها نجحت في تغيير السلوك الإسرائيلي حين سارعت حكومة نتنياهو إلى فتح المعابر، والسماح بدخول مئات الشاحنات المحملة بالمواد الطبية والغذائية لسكان قطاع غزة، الذين فرضت عليهم إسرائيل حصاراً أوصلهم إلى حافة المجاعة. وهذا بدوره يُظهر الإفلاس السياسي لإدارة بايدن حين تقول علناً أنها لا تستطيع التأثير على قرارات إسرائيل لأنها دولة ذات سيادة، فيما يتعلق باجتياح مدينة رفح في جنوب القطاع على سبيل المثال. أثبتت مشاركة الولايات المتحدة المحورية في صد الهجوم الصاروخي الإيراني بشكل لا لبس فيه أنها دولة مشاركة في الحرب بشكل مباشر، وأن إسرائيل حين تقرر ضرب إيران، فإن واشنطن تصبح معنية مباشرة بالضربة، لأن الضربة لن تتحقق دون استخدام الأسلحة الأميركية.
يوم الأربعاء، وقع الرئيس بايدن على قانون للأمن القومي أقره مجلسي الكونغرس، وينص على توفير مساعدات عسكرية ضخمة لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان، حيث تصل المساعدات لإسرائيل إلى 26 مليار دولار (من بيها مليار دولار كمساعدات إنسانية لسكان غزة). توقيع القانون كان مناسبة لبايدن ليؤكد إلتزامه الراسخ بأمن إسرائيل، وأنه سيضمن حصولها على احتياجاتها العسكرية لصد إيران والتنظيمات الإرهابية التي تدعمها طهران.
المفارقة هي أن تصريحات بايدن هذه تزامنت مع اتساع رقعة التظاهرات الطلابية في كبريات الجامعات الأميركية، من ولاية نيويورك على الساحل الشرقي إلى ولاية كاليفورنيا على الساحل الغربي ضد الاجتياح الإسرائيلي لغزة مع المطالبة بوقف إطلاق نار فوري، وسحب استثمارات الجامعات من كل الشركات التي تنشط في إسرائيل.
القتال المباشر بين إسرائيل وحماس سوف يستمر في المستقبل المنظور، وسوف تجري الانتخابات الرئاسية الأميركية في ظل هذه الحرب التي وصلت تداعياتها إلى الولايات المتحدة. كما ستستمر “حرب الظل” بين إيران وإسرائيل، مع احتمال خروجها مرة أخرى إلى العلن، كما حدث هذا الشهر، وربما التحول إلى حرب مفتوحة قد لا تكون واشنطن قادرة على تأجيلها.